الصفحة الأساسية > البديل العربي > العلمانية ومسألة الهوية
العلمانية ومسألة الهوية
أيار (مايو) 2008

لعل أحد أهم الأسباب التي إليها يعود فشل التجربة الشيوعية العربية حتى الآن في مسعى الالتحام والانغراس وكسب الجماهير وقيادة العملية التاريخية هو التعامل الانتهازي مع مسألة الهوية.

وقد استغلت النزعات الأصولية والشوفينية هذه الثغرة في حملاتها المعادية للفكر الاشتراكي واليسار من أجل تشويه صورته وعزله عن بيئته ومحيطه والجماهير المعنية ببرنامجه، وإفساح المجال أمام الحل التكفيري والدولة الاستبدادية. وفي غياب الحل السويّ المُقْنع آل الأمر على الساحة العربية الإسلامية إلى تطور نقيضين كاريكاتوريين ما انفكت الفضائيات التي تحترف الإثارة والتجارة تعتاش من شطحاتهما، والغرب العنصري والاستعماري يتحجج بهما لطرح بدائله والترويج لمشاريعه، وهما : النقيض الأصولي القائل بأن الدين (يختزل فيه الهوية) كفل حقوق الجميع، ولا حاجة إلى تشريع آخر، وبأن العلمانية نبتة غربية غريبة زرعها مسيحيو الشرق، والنقيض النافي للهوية أصلا، الساخر منها، يراها مرادفا للرجعية والانغلاق والتعصب ونفي الآخر،ولا يتردد في تبني الرؤية الإمبريالية الأمريكية الطارحة على المكشوف وبالقوة إذا لزم الأمر إعادة هندسة المنطقة وصياغة الذهنية العربية الإسلامية و"تنقية" نص قرآنها وسنتها وسائر مراجعها الفقهية وبرامجها المدرسية ممّا تعتبره سببا في تنشئة النشء على التعصب وكره الأجنبي وتمجيد الإرهاب وتعاطيه. ولا يخفى عن فطنة المتتبع كون هذه الأفكار ليست براء من نوايا الهيمنة والتوسع وأن ما يقف وراءها ليس الرغبة في رؤية شعوب الثقافة العربية الإسلامية تنهض وبلدانها تتطور وأنظمتها تتمقرط، بل تسويغ ابتلاعها دون أن تبدي حراكا ولو كان وليد حمية دينية على غرار ما كان أيام مواجهة الاستعمار الغربي في القرن الماضي وما يجري الآن أيضا من مواجهات سواء بفلسطين أو العراق أو الصومال أو غيرها حيث تتحول تلك الحمية العقدية إلى حمية وطنية ويهبّ الناس لمقارعة المحتل وهم يرددون: الله أكبر! مع ما في ذلك من ضيق أفق وتلغيم للمستقبل الاجتماعي، والدولة الوطنية، بعد طرد المحتل ومواجهة قضايا البناء المجتمعي.

ولقد سمعنا وشاهدنا مرارا من يتكلم باسم العلمانية ويتقدم كحامل للوائها، لكن لا شيء كان يفصل خطابه عن خطاب زعماء البيت الأبيض حول مشروع "الشرق الأوسط الجديد" وعن مفكري الغرب الاستعماري والماسكين بزمام مؤسساته الإعلامية وهم يحملون على الثقافة العربية الإسلامية وعلى تراثها وعناوينها ويهزئون بهما تحت عنوان النقد، وحق النقد. وما من شك في أن الطروح المغلوطة، مهما كانت خلفياتها ودوافعها، تزيد الأمور تعقيدا خصوصا إذا كان أربابها يملكون المال والثروة ولهم سلطان على الطُّغَم الحاكمة وعلى أرواح الكتل البشرية المغلوبة، أو إذا كانت في حوزتهم الأساطيل والقواعد العسكرية والقنابل والصواريخ والطائرات بمعنى أن الطرح المغلوط للعلمانية وللهوية، سواء كان ذلك من موقع الدفاع المزعوم عن العلمانية والتهجم على الهوية أم من موقع الدفاع الأحول عن الهوية والتهجم على العلمانية يترك آثاره الوخيمة في سلوك الناس خصوصا متى انتفى لديهم الوعي البديل وتعذرت رؤية باب النفق. ويتمّ ذلك بنشوء استقطاب ثنائي داخل الهيئة الاجتماعية بين أنصار المشروع العلماني المزعوم، ذي النكهة التغريبية الاستعمارية، وأنصار المشروع الأصولي ذي الطبيعة الاستبدادية القروسطية، وتتشكل جماعات من عَبَدة هذا وذاك، المالكيْن للقوة، قوة مادية أو معنوية من شأنها أن تستقطب الجماهير المحبطة في لحظة تاريخية عمياء مثل التي نعيشها الآن وتجد تجسيدها الأوفى في المجتمع العراقي الموزع بين آفتين : آفة الاحتلال الذي استطاع ولو مؤقتا جر قسم من السكان وراءه واستغل نقمته على الإرهاب التكفيري وجرائمه وآفة الإرهاب التكفيري الذي جرّ بدوره قسما آخر واستغل نقمته على الاحتلال وجرائمه.

تتقدم الآفة الأولى باسم الحرية مقاومة المحتلين "الكفار" وإعادة حكم الإسلام والمسلمين وتستهدف "الأجانب" لكنها لا تستثني أبناء البلد العراقيين حتى الأبرياء، على الشبهة، وتختلط أوراقها بأوراق المقاومة الوطنية وتتسبب في تشويه صورتها هي أيضا، وفي المحصلة، "علمانية" تبدو مرادفا للغزو والاعتداء على الهوية ترى فيه المنقذ والحامي والمطوّر من ناحية ومن ناحية أخرى هوية تبدو مرادفا للقتل والتصفية المذهبية والقومية، ونقيضا للتقدم والحرية، وكأنه لا بديل عن هذا "القدر" الذي جعل بلدا بأكمله، ومجتمعا بأسره، على كفّ عفريت، ودمه يهدر ويسيل صباح مساء والحال أن الحل متاح وبذوره قائمة في التربة العراقية نفسها، لكن صوته ظل خافتا أو مرتبكا أو مشتتا وهو يوجد خارج العلمانية الاستعمارية والهوية الاستبدادية معا وسوف لا أخوض نقاشا في لفظ العلمانية ومدى توفق المترجمين العرب إلى نقل هذا المفهوم بالعبارة المناسبة فقد تكفلت دراسات عديدة بذلك، وسأركز كلامي على نقاط ثلاث أراها جوهرية عندما تثار مسالة العلمانية هي أولا هوية الفكرة وثانيا وثالثا دورها في خلاص المجتمعات عامة، والمسلمة أو ذات الغالبية المسلمة خاصة من براثن التناحر الطائفي والتصفية العرقية والقومية، على نحو ما يشاهد في المشهد العراقي الآن وما يتهدد أقطارا عديدة أخرى وينذر بإغراقها في بحر من الدم والدموع.

إن وطن الأفكار هو الإنسان مهما كانت جنسيته ومهما كانت عقيدته وصفته العرقية والمذهبية والقومية والاجتماعية وفكرة العلمانية مثل فكرة الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة والتسامح وغيرها من الأفكار المنظمة والمُرِقّية للاجتماع البشري سواء في علاقة الحاكم بالمحكوم والمحكوم بالمحكوم أو علاقة الإنسان بنفسه وبالمجتمع والطبيعة، لا يصح اعتبارها صالحة لشعب دون آخر، ومعاملتها معاملة عنصرية من أجل كونها شهدت نضجها واكتمالها هناك، نتيجة ظروف وملابسات معينة. والتاريخ، بما فيه التاريخ العربي والإسلامي، شاهد على رحيل المعرفة وتنقل الأفكار بين شرق وغرب، شمال وجنوب، منذ كان الإنسان، مهما تم تسييجها وغلق الأبواب دونها، والمعرفة، وكذا المجتمعات، ظلت تترقى وتتطور بفعل التثاقف والتلاقح الحضاري وتبادل الخبرة والتجارب. هذا قانون من قوانين الاجتماع. وأوروبا نهضت غداة قرونها الوسطى وهي تستضيء بأقباس المعارف والأفكار والنظم العربية الإسلامية التي كانت قد نشأت بدورها على ضوء المعارف والأفكار والنظم اليونانية والرومانية والهندية والفارسية وغيرها.

حينئذ يكون من الخور الارتياب في أمر العلمانية أو رفضها لمجرد كونها "غربية المنشأ" فضلا عن الوقوع في تبسيط مخلّ لتاريخ تشكل الأفكار. وإذا كان جوهر العلمانية وثابتها الدلالي الفصل بين الدين والدولة فالحكمة في ذلك أن يظل الدين بمنجاة من سيطرة الدولة واستغلالها وتظل الدولة بمنجاة من سيطرة المؤسسة الدينية واستغلالها هي أيضا، فقد شهد التاريخ العربي الإسلامي هذا وذاك ومازال شهيد استيلاء الدولة الحديثة على الدين - حتى وهي تتبنى المنظور العلماني – فتعمد إلى إنشاء بيروقراطية دينية في خدمتها، وخدمة قمة هرمها تحديدا، قوامها مُفْتُون وخطباء جمعة وأيمّة وقرّاء قرآن ومقرئون ومدرسون وطواقم إدارات شؤون دينية وهلمّ جرا. ويقع توظيف الدين في السياسة لتثبيت أركان الحكم وتحجيم دور المعارضة وتشويه صورة المعارض وسواء أثناء الحملات الانتخابية أو الحملات الإعلامية وكلما دعت الحاجة إلى ذلك. هذا فضلا عن الدولة التي تعلن في أساس تشريعها وأصل تكوينها -والقليل أو الكثير من ممارستها- قيامها على أسس "شرعية" وقيام وظيفتها على حماية الدين وتطبيق تعاليمه وأحكامه. وفي مثل هذه الحالة يكون الدين هو الضحية، ويكون الحل في تحريره من هيمنة الدولة الاستبدادية مهما كان حظها من "العلمانية" التي لم يعد بالإمكان نفي تأثيرها اليوم في قيام الدولة ونظمها وسياساتها حتى ولو كانت تعلن في تسميتها وخطاباتها وممارستها ونسيجها المؤسساتي مرجعيتها الدينية، وتنهض على جيش من "رجال الدين" الشبيه بالإكليروس الكنسي، كما هي حال الدولة الإسلامية الشيعية أو السنية الطالبانية فإن العصر والعولمة واستحالة العزلة باتت تدفع باتجاه التنظيم السياسي العلماني للدولة على نحو لا يبقى فيه للدين إلا أن يدعم سياسة الاستبداد والاستعباد واستعباد المرأة واستعباد الصغير واستعباد المعارض، واستعباد غير المسلم، بل وغير المسلم إسلام الدولة والماسكين بزمامها وحتى هذه الألوان من توظيف الشرع لإضفاء الشرعية على سياسة الدولة والقداسة على أفعال رجالها وأقوالهم، فإنها باتت غير حصينة من الاختراق العلماني جراء انتشار الأفكار التحريرية والحاجة الموضوعية إلى تداول نتائج الثورات العلمية والتقنية ونتائجها الإنتاجية والاتصالية، وذلك رغم ما يبدو من مناخ النكوص والردة في المرحلة التاريخية المطبوعة بطابع السيطرة الإمبريالية والرجعية، لكن السيطرة تظل نسبية أمام تنامي رد الفعل المضاد، وتعافي روح المقاومة وبالنظر إلى هذه المعطيات وإلى كون الإسلام خلافا للمسيحية يرفض الوساطة بين الإنسان وربه ويأبى الكهانة ولا يعرف مؤسسة بحجم الكنيسة وسطوتها رغم الصورة التي يقدمها النموذج الشيعي خاصة، فإن محور النضال الديمقراطي العلماني في البلاد العربية والإسلامية نَرى وجوب اتجاهه نحو تخليص الدين من التوظيف السياسي مهما كان الفريق الذي يعمد إليه سلطة أو معارضة، ووضع الأمور في نصابها على نحو صريح، بمنع ذلك التوظيف وعقابه، وبجعل التدين شأنا فرديا وجعل نظام الدولة وتصريف شؤونها ومعاملتها لمواطنيها، بمنأى عن الأحكام المعتقدية، وأن تكون ساهرة على حماية هذه الحرية راعية لحق المتعبد وغير المتعبد، مكرسة لرباط أعلى وأبقى وأقوى، رباط العقد الاجتماعي الذي ينظم الحياة داخل "المدينة الفاضلة" مدينة الحرية والمواطنة والمساواة، ونبذ الإكراه والتعصب. إن الأمر سيغدو حينئذ مخالفا لمجرى العادة في تاريخ الغرب المسيحي من كفاح كانت غايته تحرير الدولة من الدين وستغدو قضية العلمانية الخصوصية في شرقنا هي أساسا تحرير الدين من الدولة التي توظفه وتستغله وإلزام كل بوظيفته وبمجاله الذي يصلح داخله : مجال الضمير الفردي، ومجال التنظيم الاجتماعي. وغير خاف أن النمو غير المتكافئ للأقطار العربية في مجال رسملة البنية الاقتصادية شكل قاعدة موضوعية لنمو غير متكافئ في مجال البنية الاجتماعية والثقافية، وبالتالي مجال تطبيق الإجراءات ذات المنحى العلماني، وإن كان ذلك يتم في إطار التبعية التي تشمل الجميع وتحول دون القطع الجذري مع البنى التقليدية وإقامة قاعدة متينة لنهضة شاملة وتحرر فكري وسياسي واجتماعي أصيل تكون العلمانية إحدى ترجماته النابعة من الداخل، من السيرورة التطورية الخاصة لا مسقطة إسقاطا، خصوصا والتاريخ العربي الإسلامي، وتحديدا تاريخ الدولة، برهن على كون البذرة العلمانية لم تفارق تربته، والدولة الإسلامية جمعت بين "دين ودنيا" واقتبست الأنظمة الإدارية والاقتصادية والسياسية وأنماط العيش من الدول والمجتمعات غير الإسلامية (فارسية، يونانية، بيزنطية... فرنسية، أنجليزية، أمريكية) وأذعنت لضغط الواقع في تفسير النص وتطبيق الشريعة وذلك تحت مسميات عديدة منها مراعاة أسباب النزول ومراعاة أحوال الوقت وتوخي سبيل "الحيل الشرعية" وسبيل الاجتهاد والتأويل وتشكلت هوية ثقافية وحضارية عربية إسلامية تعددية بلغت ذراها في فترات المد وفي حواضر مثل دمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة وغرناطة وطليطلة وفاس وتونس وشهدت من ازدهار العلوم والآداب والمعارف والمهارات ومن لمعان أسماء أهل الرأي والعلم والسياسة الدنيوية ما جعل العلمانية واقعا معيشا وإليها يعود أحد أسرار الحركية التاريخية التي أطلقت من عقالها القرائح والطاقات والألسن والكفاءات على اختلاف أصولها ومذاهبها [1] وإليها تعود النهضة الشاملة في بعض أهم وجوهها، وبالتالي فإن السياسة القائمة على تجاوز الأحكام الشرعية والحدود الدينية، ومراعاة الصالح العام والقبول بالمتعدد والمتنوع والمختلف، كانت حاضرة في الدولة الإسلامية وطبيعي ألاّ تبلغ ما بلغته في الديمقراطية الغربية الحديثة حيث نضجت الشروط التاريخية للفصل الصريح بين الضمير الديني وسياسة الدولة بعد أطوار الصراع المعروف مع الكنيسة وتسلطها. لكن العلمانية لم تكن قرارا فوقيا وإجراء بيروقراطيا نزل فجأة على رؤوس العباد، بل نتاج سيرورة طويلة من تراكم عناصرها ومعاشرة بذورها لتربة نشوئها، والعالم العربي الإسلامي ليس استثناء أو حالة شاذة ولا يوجد خارج التاريخ وأحكام التطور التي تحكم الاجتماع البشري بل لعله كان مهيأ أكثر من سواه في عصور ازدهاره الحضاري لانتهاج نهج العلمانية لولا أن مسيرته الحضارية تعطلت وحظ الاجتهاد تقلّص، والاستعمار أجهز، وبهذا المعنى فإن العلمانية ليست نبتة غربية غريبة المنشأ بل هي عنصر من العناصر المؤلفة لهوية العرب والمسلمين وشواهد ذلك قائمة ولا تعوز الباحث. وهنا نريد التوقف عند مسألة الهوية التي كثيرا ما استفاد خصوم الموقف العلماني من الالتباس الذي يلفها.

حجر الزاوية في مفهوم الهوية وفهمها أنها ليست مقولة جامدة، ولا كلاّ منسجما، ولا هي تتحقق في زمن دون سواه، بل مقولة تاريخية، حية، يشقّها التناقض وتتسع للقديم والجديد ولمن يشارك في بنائها دون استثناء بسبب لون أو عرق أو جنس، فالهوية العربية الإسلامية تضم القائلين بالنقل والقائلين بالعقل، أهل الحديث وأهل الرأي، الأشاعرة والمعتزلة، المتوكل والمأمون، أبا نواس وأبا العتاهية، ابن هانئ وأبا الطيب، صاحب "الحيوان" وصاحب "طوق الحمامة" صاحب "تهافت الفلاسفة" وصاحب "تهافت التهافت"، ابن خلدون والمسعودي، ابن بطوطة الرحالة وابن البيطار الصيدلاني البحاثة وسواهما، الطهطاوي وقاسم أمين والكواكبي والحداد ومخالفيهم، البيضان والسمران والسودان وبقية الألوان، العرب والمستعربين، المشارقة والمغاربة، ولا يصح اختزال الهوية أو تجميدها في مذهب واحد، وكما تشكل نسيجها من نزعات محافَظة وتزمت بناء على منظور فلسفي مثالي تشكل أيضا من نزعات تحرر وتسامح، بناء على منظور فلسفي مادي، فهي في المحصلة بؤرة صراع ومحط تجاذب بين قوى متعارضة، بعضها يقدس الماضي وينسج حوله الأوهام ويختزل الهوية في خضوع الرعية للراعي والمرأة للرجل والصغير للكبير والمصلّي للإمام وغير المسلم للمسلم و"الكافر" للمؤمن ويصل به ذلك إلى حد إخضاع العالم للجاهل وحصر العلم في علوم الدين فضلا عن كونه يفرغ الهوية من مضمونها النيّر والمتطور ولا يُبقي إلا على ما يخدم شرعة الاستبداد والقهر المتجلبب بالدين، وما يغذي التكاره والتباغض داخل الدين الواحد وبين الأديان ويذكي الروح النحلية والطائفية ويسبب التقاتل بين النحل والملل والطوائف على نحو ما هو مشهود اليوم في بقاع عديدة من العالم الإسلامي حيث الدم وديان أحيانا وضحايا القتل والقتل المضاد بالآلاف وحيث الشبهة كافية لقطع الرأس وبقر البطن وسمل العين وإزهاق الروح.

وإزاء هذه القراءة الأحادية الرجعية للهوية، الخادمة لمآرب دولة الإكليروس ومصالح أمكر السياسات وأشدّها ظلما، قرأ المتنورون وزعماء الإصلاح الهوية تلك القراءة التي تصبّ في مشروع التنوير والتحرير وتراعي الإنسان في كرامته وحقوقه فوقعوا منها على العناصر الدافعة وهي كثيرة كالتعايش بين الأديان والمعتقدات والأعراق والأجناس في ظل ما يشبه التعاقد الاجتماعي الذي عرفته حواضر المسلمين الذين لم تزدهر حضارتهم ولم تنفع الغرب نفسه غب عصور انحطاطه إلاّ بفضل تلك العناصر التي شكلت أساسا من أسس نهضته والتي شكلت في سياسة الدولة العربية الإسلامية زمن صعودها وفي فكر أهل الرأي والعلم والفلسفة والأدب بذرة وخميرة لما نسميه اليوم بالعلمانية، فما كان ليتم لهم اختراع وإبداع وإشعاع واستشراف لآفاق الحرية لولا المكانة التي بات يحتلها العقل والتمشي العقلاني والاختبار والشك والتجريب والتحقيق في الإجابة عن الأسئلة المعرفية والاجتماعية والسياسية ومنها سؤال علاقة الحكمة بالشريعة والأرض بالسماء والحاكم بالمحكوم والمحكوم بالمحكوم [2]. وحصيلة ذلك أن ليس هناك تعارض وتضارب بين العلمانية والهوية، بين أن تكون علمانيا وتتمسك بهويتك الحضارية وخصوصيتك الثقافية، وأن تكون مؤمنا وفي الوقت ذاته نصيرا لقيم الإنسانية والتقدم، أي تفصل بين الشأن العقدي الخاصّ الذي يُحسم فرديا والشأن الاجتماعي والسياسي العام المتطوّر المتغيّر باستمرار والذي يخضع للتعاقد بين المواطنين.

إن العلمانية لم تولد دفعة واحدة ولم تعرف بذورها في تربة الحضارة الغربية والديانة المسيحية دون سواهما بل كان لباقي الحضارات والثقافات وبالخصوص العربية الإسلامية دورها في نشوء بذرتها وارتقائها وحتى دولة الإقطاع القائمة على الإيديولوجية الدينية فإنها اضطرت وهي تصطدم بالواقع إلى توخي بعض السياسات ذات الطابع العلماني حتى تقدر على البقاء وتلقى الحلول للمعضلات المجتمعية التي تواجهها لكنها تظل مع ذلك أسيرة الأفق الديني الذي يُضفي الشرعية على سياسة الطبقة الماسكة بزمامها والقداسة على أفعال وأقوال ساستها وحكامها.

أما القول بأن العلمانية نبتة غريبة عن التربة العربية الإسلامية دخيلة على هوية أبنائها فإنّه لا يصدر عن ناطقين باسم الإسلام وعاملين على إدارة عجلة التاريخ إلى الوراء فحسب بل يصدر كذلك عن ناطقين باسم العلمانية يرون فيها لقاحا غربيا شافيا على أبناء تلك التربة أن يقبلوا به حتى ولو فُرض عليهم بالقوة مثلما في العراق وأفغانستان كما يصدر عن ناطقين آخرين باسم الإسلام يزعمون أن الحرية والحقوق كفلها الشرع ولا حاجة إلى علمانية أو ديمقراطية. وتتأذى العلمانية أيضا وهي ركن الديمقراطية الركين، من الأنظمة الاستبدادية المحسوبة عليها فتكون النتيجة تعريض صورتها للتشويه والتشويش فتبدو كما لو كانت نقيض الهوية الوطنية والقومية ونقيض الحرية والديمقراطية معا.

هوامش

[1لعلّ نداء الجاحظ أن يكون خير ترجمان لهذه الحرية التي بلغت أوجها أيام المأمون، بقوله:"ما ينتظر العالم لإظهار ما عنده وما يمنع الناصر للحق من القيام بما يلزمه وقد أمكن القول وصلح الدهر وخوى نجم التقية وهبت ريح العلماء وكسد العي والجهل وقامت سوق البيان والعلم ؟" الحيوان، ج1، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، مصر 1938 ص 86 - 87

[2انظر: في اللائكية، حمة الهمامي، تونس 1988، ص 59-61 وكذلك مادّة مؤتمر "العلمانية في المشرق العربي" لمجموعة باحثين، دار بترا ودار أطلس، دمشق 2007



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني