الصفحة الأساسية > البديل النقابي > لن أخون وطني بعد اليوم
لن أخون وطني بعد اليوم
22 نيسان (أبريل) 2011

مضت ساعات وهو على نفس الحال جاثما على كرسيه شارد الذهن، تعلو قسمات وجهه علامات الحيرة والدهشة. أفاق صباحا كالمعتاد، تناول قهوته مسرعا وانطلق صوب عمله. لم تكن المدينة ذاك الصباح كما اعتادها. أحس بالوحشة والغربة... كانت وجوه المارة مليئة بالغضب... حتى من اعتادوا ممازحته ومبادلته التحية لم يلاحظوا مروره بقربهم. أحس في نظراتهم أمرا عجيبا لم يعرف كنهه.

وصل إلى مقر عمله، ألقى التحية على زملائه فأجاب بعضهم:
- أين كنت طوال الأيّام الفارطة؟ مسافرا !! ألست تعيش معنا في نفس الوطن؟ ! أم أن الخمرة لم تترك لك مجالا لتعي ما تسمعه يوميا من أنباء عن قتلى وجرحى في المدن والقرى المجاورة وسائر أنحاء الوطن؟ ! إنك لا تجيد سوى الثرثرة وإلقاء اللوم على الآخرين واتهامهم بالجهل والتخلف...

استدار العامل صوب زميل آخر يحادثه وتركه حائرا لا يدري ما يقول... "ما الذي حدث؟ عما يتحدثون..؟ سمعت بعض الأنباء منذ أسبوع ونيف عن حركات احتجاجية ولكنني لم أعطها أهمية كبرى...".

استرق السمع للحديث الدائر بجانبه... عشرات القتلى ومئات الجرحى... مدن تنتفض وتطالب بإسقاط النظام وتطالب بالحرية والكرامة الوطنية... أحس أنه يتضاءل، تمنى أن يصير غير مرئي فقد اعتاد أن يكيل السباب والشتائم للجميع متهما إياهم بالخنوع والجهل.

أراد أن يشاركهم حديثهم، أن يستفسر ويدلي بدلوه معهم لكنه أحس بالخجل.

فجأة علا صوت أحد العملة داعيا زملاءه لضرورة الخروج في مسيرة احتجاجية والالتحاق بمسيرة انطلقت منذ وقت وجيز يقودها شباب المدينة من تلاميذ وعاطلين عن العمل متوجهة نحو وسط المدينة. تحمس الجميع، بدأوا الخروج الواحد تلو الآخر للتجمّع أمام المصنع، حاول بعض العملة والرؤساء منعهم، لكنهم رفضوا الإنصات إليهم وتعالت الشعارات المنادية بالحرية. حاول النهوض والخروج معهم فلم يستطع. أحس كأن جسده اعترته حيرة وتساؤلات عما وصلت به الحال... تحامل على نفسه وخرج من المصنع غير مبال بوعيد صاحب المصنع بطرده مع زملائه إن لم يعودوا أدراجهم. أمضى طريق العودة شارد الذهن، غير مبال بما يجري حوله، فتح باب الغرفة واتجه صوب حنفية الماء، فتحها وألقى برأسه تحت مياهها الباردة المتدفقة بعنف. جذب الكرسي الوحيد بالغرفة وغاب في زحام تساؤلاته: ما الذي حدث؟ ما الذي جعل هذه المدينة الهادئة تفيق صباحا على هذا الشك؟ ما سر هذا التغير المفاجئ من شعب خاضع وخانع، كما كان يسميه، إلى شعب ثائر؟ أين أنا من كل هذا؟ أنا الذي أدّعي الثورية واحترفت الكلام والثرثرة أراني اليوم حقيرا جبانا وعاجزا...

بقي واجما على حاله غير مبال بالصراخ والشعارات التي تملأ المدينة. إلى أن أفاقه من غفوته صوت طلقة نارية فطلقتان، طلقات... تتالت الطلقات وارتفعت الصرخات من كل مكان. سرت برودة مخيفة في جسده، وتساقطت قطرات عرق على جبينه. وقف بصعوبة وتوجّه يفتح باب الشرفة المطلة على الشّارع الرئيسي. ألقى بنفسه خارجا مطلاّ على ما يحدث. رائحة نتنة، دخان يعم المكان، جموع كثيرة تملأ الشارع صخبا وضجيجا، أصواتهم تتعالى بعد التراجع والاستسلام، آخر الشارع حشْدٌ من أعوان الأمن يطلقون طلقات نارية وعبوات غاز مسيل للدموع صوب المتظاهرين... تكثفت الطلقات وتتالت، أصوات، صرخات متألمة وأصوات تنادي بالحرية رغم بطش زبانية النظام. أحسّ باختناق وبحرقة شديدة في عينينه، دخل غرفته من جديد، ألقى بنفسه فوق سريره وانخرط في بكاء صامت. بكى نفسه وما صار عليه، مرت أمامه ذكريات ماضية مسرعة، مضت الدقائق رتيبة متثاقلة، عمّ السّواد من جديد، تحامل على نفسه وخرج إلى الشرفة يستطلع ما يجري.

الشارع المكتظ منذ قليل بجموع من المنتفضين خلا منهم تقريبا، أعوان الأمن اجتمعوا أمام "مركز الأمن"... أين ذهب المتظاهرون؟ هل استسلموا كما استسلمت من قبل؟ هل أجبرتهم عصا القمع على التراجع عن تحقيق أملهم في وطن أفضل كما ثنته ذات العصا وجعلته يتخلى عن كل أحلامه ومبادئه؟

أراد أن يصرخ بأعلى صوته أرجوكم لا تصيروا خائبين مثلي، انتفضوا من جديد لا تتراجعوا عن مطالبكم، لا تتراجعوا فأنتم أفضل مني...

فجأة سمع أصواتا آتية من مكان بعيد. انتصب واقفا. لقد عادوا. آسف لقد أخطأت الظن بكم". نظر الشارعَ فشاهد جموعا غفيرة تتجه صوب وسط المدينة، مرّت المسيرة أمام غرفته، انظم كل من في المدينة إلى المنتفضين إلا هو. تساقطت دمعات على خدّيه، لمح وسط الجموع كل من يعرفهم: زملاءه في العمل، روّاد المقاهي العاطلين عن العمل، تلامذة المعاهد، نساء، شيوخ، كهول... نظر إليهم بإعجاب وتمنى أن يكون معهم... لكنه عجز. تراءى له أن كل الحشود تنظر إليه بازدراء، أحسّ برودة تسري في جسده، خانته قواه وما عادت قدماه تقوى على حمله..

"الخائن كائن متفسخ تشتم رائحته من بعيد". تذكر هذه القولة لـ"يوليوس فوتشيك" من روايته "تحت أعواد المشانق"، فاختبأ كي لا تراه الجموع، ولا تشتم رائحة خيانته. تساءل: هل أنا حقا خائن؟

أجل أعترف أنني قد خنتكم، خنت نفسي وخنت مبادئي، خنت خلاني ورفاقي، حنت وطني، أنا خائن... خنتكم في الأمس واليوم خذلتكم جميعا. كنت أخفي عجزي وخطيئتي خلف سلاطة لساني، حاولت الهروب من مآسيّ فلم أقدر، حاولت تجاوزه فعجزت... هجرت المدينة لأستقر بأخرى ثم لأهجرها نحو مدينة أخرى هربا مما اقترفته في حق نفسي وأحبتني... أجل ذنبي أنني ضعفت واستسلمت لعصا القمع عندما سلطت عليّ، انهرت تحت التعذيب واعترفت... بل خنت... لو كنت أعلم أن ألم الخيانة أشد سطوة من ألم التعذيب لما اعترفت... حاولت لملمة جراحي وحاول كل رفاقي مساعدتي لكنني كنت قد انهرت... عاقرت الخمرة علي أنسى... صارت خلي ونديمي... كنت أسكر وأسكر حد الثمالة وعوض أن أنسى كانت آلامي تشتد بي فأبكي. تفاقم عجزي وشعوري بالذنب فانزويت بعيدا عن الناس وواجهت محاولات التقرب مني بسخرية لاذعة من جهلهم ولكن اليوم بان لي أنني أنا الجاهل والعاجز. تحديتم بطش الظالم، تصديتم للرصاصة القاتلة بصدور عارية، واجهتم الموت بشجاعة نادرة... أما أنا فمختبئ في غرفتي... خائفا... عاجزا. ماذا عساني أفعل الآن؟ أضع حدا لمعاناتي ولكن كيف؟ حاولت سابقا الانتحار ففشلت...

علت أصوات المتظاهرين أكثر فأكثر... ازدادت الحشود عددا، التقت عديد المسيرات التي كانت تجوب المدينة والتحقت حشود أخرى كانت تحتج في قرى قريبة بمسيرات المدينة.

أطلق أعوان الأمن قنابل مسيلة للدموع لكن عزم الناس كان أقوى من رائحتها الخانقة. إنهم يستعملون الذخيرة الحية... لقد سقط شهيد... وأصيب آخرون...لا تتراجعوا... لا تتراجعوا...

تسللت الصرخات إلى داخل غرفته واخترقت حصون صمته التي انهارت كما تنهار حصون عدو أنهكه الحصار. انتصب واقفا، صرخ بأعلى صوته: أجل لقد خنتكم. خانتكم كل ذرة في جسدي ولكنني اليوم سأضغ حدّا لخيانتي، سأكون واحدا منكم... أعيش آلامكم، أفرح لأفراحكم وأحزن لمآسيكم... سأكفـّر عن أخطائي، سأفتح صدري عاريا ليكون جدارا يحميكم من رصاصاتهم... سأغتسل بدمائكم الطاهرة بروحي، سأقدم جسدي قربانا لك يا وطني...

لقد خنتك يا وطني لكنني لن أخونك بعد الآن...

رفيق



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني