الصفحة الأساسية > بديل الشباب > الحـجّ إلى أمريـكا
الحـجّ إلى أمريـكا
شباط (فبراير) 2006

أصدرت وزارة التربية والتكوين عبر إداراتها الجهويّة للتعليم منشورا إلى مديري المعاهد الثانويّة يتعلّق بـ "ترشيح تلاميذ لقضاء السنة الدراسيّة 2006-2007 بالولايات المتحدة الأمريكيّة" في إطار نيّة منظمة "Amideast" الأمريكيّة إسناد منح للدراسة بالولايات المتحدة لفائدة تلاميذ تونسيّين في إطار برنامج "تبادل الشباب والدراسة" (YES program). وقد حدّد المنشور سبعة شروط يجب توفرها في المترشحين وهي فضلا عن موافقة الوليّ وتمتع المترشح بالصّحّة الجيّدة وحسن السلوك، فهي أن يكون المترشح مرسّما بالسنة الأولى أو الثانية ثانوي وأن يتراوح عمره بين 15 و17 سنة، كما يجب أن لا يكون مولودا بالولايات المتحدة الأمريكيّة أو متحصّلا على الإقامة الدائمة بها، هذا إضافة إلى وجوب التفوّق في الدراسة وخاصّة في مادة الأنجليزيّة، وأن "يكون من بين التلاميذ المشهود لهم بالتفتح وبالإيمان بقيم التسامح والحوار" (الشرط السّادس)، كما جاء في الملاحظات المرفقة بالمنشور أنّ الجانب الأمريكي يتحمّل كافة المصاريف المتعلقة بالسفر والإقامة لدى عائلات أمريكيّة ومصروف الجيب. كما أنّ التلاميذ المترشحين يخضعون لاختبار كفاءة في اللغة الانجليزيّة (Slep test). وقد حدّد آخر أجل للترشح يوم الخميس 12 جانفي 2006.

قبل الخوض في أبعاد هذا المنشور -غير الخافية- لا بدّ من إبداء بعض الملاحظات "الشكليّة"، فالأمر لا يتعلق بتعاون "تقليدي" بين وزارتي التربية في دولتين، كما هو جار في عديد الحالات ومع عديد الدول مثل تربّص اللغة بالنسبة لطلبة المرحلة الثانية أنجليزيّة إذ يقضون شهرا قبل تخرّجهم مع عائلة في انجلترا، فالأمر هذه المرّة يتعلق باتفاق تعاون رسمي بين وزارة التربية في تونس ومنظمة أمريكيّة اسمها "Amideast" لا يوضح المنشور علاقتها بالتربية أو التعليم سوى كونها تطبّق برنامجها المسمّى "YES program". الملاحظة الثانية هو كون الوزارة لم تتدخل مطلقا في تحديد الشروط الواجب توفرها في المترشحين، بل أن الجانب الأمريكي هو المحدّد الأوّل والأخير للشروط. ثالثا، إن الوزارة، إمعانا منها في الخضوع لإملاءات المنظمة الأمريكيّة، فإنها لن تحتسب السنة المقضاة في الولايات المتحدة ضمن عدد سنوات الدراسة بالتعليم الثانوي.

أمّا أبعاد هذا المنشور فهي واضحة لا غبار عليها، فالأمر يتعلق بانخراط النظام التونسي بشكل لا مشروط في مشاريع إعادة صياغة المنطقة ثقافيّا وسياسيّا واستراتيجيّا من منظور أمريكي ضمن برنامجها المسمّى "مشروع الشرق الأوسط الكبير" الذي يهدف إلى فرض السيطرة الأمريكيّة على المنطقة ضمن السيطرة العامة على العالم، هذه السيطرة التي لن تكون مضمونة وثابتة ما لم ترتبط بغزو ثقافي وفكري وإيديولوجي يستهدف اختراق العقول. هذا الغزو يتمظهر في اعتماد خطط الإبهار بـ "التفوّق الأمريكي" في مختلف فروع العلم والمعرفة والتكنولوجيا والثقافة عموما في اتجاه إعادة تشكيل شخصيّة البشر وفق النموذج الأمريكي (american way of life). ويستهدف هذا الإبهار كل فئات السكان العمريّة والاجتماعيّة، كما يعتمد خطط إعادة صياغة العقول بالتوجّه لفئات محدّدة هي أساسا الأطفال والمراهقين والشباب من جهة، ومن جهة أخرى النخب العلميّة والثقافيّة والسياسيّة ومنها منظمات المجتمع المدني لربطها بمركز القرار الأمريكي حتى تحافظ على علاقة التبعيّة. ويلعب المال هنا دورا مركزيّا. أمّا الجانب المتعلّق بالأطفال والمراهقين والشبّان، ففضلا عن أساليبه غير المباشرة التقليديّة (السينما، برامج الأطفال وخاصة الصور المتحرّكة، اللباس والمظهر بشكل عامّ وكلّ ما يرتبط بطريقة العيش...)، فإنّ الامبرياليّة الأمريكيّة تسخّر اليوم إمكانيّات هائلة للربط المباشر مع هذه الفئات العمريّة، ولا غرابة أن يستهدف برنامج منظمة "Amideast" التلاميذ المتراوحة أعمارهم بين 15 و17 سنة وهي أدقّ وأخطر فترة في عمر الإنسان، إذ هي فترة تشكل الشخصيّة وتبلور ميولها ومزاجها واهتماماتها، وهي الفترة التي يكون فيها التأثير على شخصيّة المراهق ممكنا وسهلا. وفي هذا الإطار يتضح لماذا اختار الإمبرياليّون التوجّه مباشرة إلى مراهقينا.

الأكيد أنّ الأمر لا يتعلق بمنن ثقافيّة وحضاريّة بقدر ما يتعلق بضرب المقدّرات البشريّة لشعبنا من خلال ربطها بالمنظومة الامبرياليّة الأمريكيّة وبالتالي رهن مستقبل هذا الشعب بأيدي اليانكي الاستعماري حيث يجب أن يتقن الانجليزيّة "لغة العصر"، "لغة العلم والحضارة"...، ومن الأفضل أن لا يكون حاصلا على الجنسيّة أو الإقامة بالولايات المتحدة الأمريكيّة فأولئك "لهم برامج أخرى".

إن شباب البلدان التابعة والمنكوبة بدكتاتوريّات عميلة تحكم مصيرها أو قل تعبث به، فهو لقمة سائغة وهدف سهل المنال، فالإمبريالية تأمر والخدم ينفذون، والضحيّة هو حاضر البلاد ومستقبلها، فماذا بقي إن تعرّضت الأجيال الصّاعدة وخاصة الأذكياء منها والمتفوّقون للتصفية؟ إن الأمر يتعلّق بعمليّة "خصي" مع سبق الإضمار لإمكانيّة أيّ نهضة ثقافيّة وحضاريّة لشعبنا. ويتوضح الأمر لكلّ من يريد أن يتغابى أو يكذب ما ذهبنا إليه، فالشرط السادس واضح إلى أبعد الحدود، فمن شروط "الحجّ" إلى أمريكا "التفتح والإيمان بقيم التسامح والحوار" والجميع يدرك معاني هذه الألفاظ والمصطلحات في المدوّنة الأمريكيّة. إنّ هذا الشرط يوضّح بالضبط "مربط الفرس"، فمنطقة الشرق الأوسط الكبير هي مصدر "الإرهاب والحقد والكره الكبير للولايات المتحدة أي للحضارة والتقدّم والخير" بلغة بوش، وللقضاء على "بذور الإرهاب المتأصّلة في الثقافة والحضارة وأنماط التفكير"، يجب إعادة صياغة العقول وخاصّة عقول الناشئة، لذلك توجّهت اهتمامات صناع القرار العالمي وخاصّة الأمريكي إلى برامج التعليم وطلبت من الأنظمة التابعة لها إعادة النظر في هذه البرامج "لتصفية كل ما يمكن أن يكون مصدرا للحقد والكره أي الإرهاب". لذلك لا غرابة أن تخصّص الإدارة الأمريكيّة مبلغ 33 مليون دولار لباكستان "لتطوير مناهج التعليم". ولهذا الغرض بعث النظام الباكستاني التابع لجنة سمّيت "مجلس آغا خان" لإنجاز إصلاح شامل للتعليم" حسب الرؤية الأمريكيّة من ذلك إقحام قصائد تمدح الرّئيس الأمريكي جورج بوش في المرحلة الثانويّة! ونفس الخطة تطبّق في أقطار الخليج العربي وبلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى.

إن التفتح والتسامح من منظور إمبريالي، هي القبول بالسيطرة والخضوع والانخراط اللامشروط في مشاريع الاستعمار الجديد الهادفة لوضع اليد على كلّ مقدّرات شعوب وبلدان العالم التي يجب أن تدخل "بيت الطاعة" وتفرّط في استقلالها. وإن "خرجت عن الصف" فالتدخل العسكري أو تحريك البيادق أو الحصار أو استصدار القرارات الدوليّة جاهز للإنجاز الفوري.

إن استهداف شباب تونس وشباب العالم من قبل الامبرياليّة، إنما يهدف إلى إطالة أمد السيطرة والإخضاع والتبعيّة. إنه يهدف إلى ربط هذا الشباب وخاصّة نخبه العلميّة والفكريّة بالنموذج الأمريكي والرأسمالي عموما. إنها عمليّة غسل دماغ وتحويل وجهة مقصودة وواضحة تريد تحويل شبابنا إلى ببغاءات أمريكيّة وروبوهات (robots) لتطبيق السياسة والأهداف الأمريكيّة، وأوّل الطريق نحو ذلك هو التشبّع بالقيم الامبرياليّة وعلى رأسها اعتبار أن هذه الأخيرة تمثل محور الحضارة والمبادئ الكونيّة السّامية، وأنها في كلّ ما تفعل لا تهدف سوى إلى زرع هذه المبادئ. وبذلك تتحوّل المقاومة المشروعة والنضال الوطني والتمسّك بحق الشعوب في تقرير مصيرها والدفاع عن هويّة الشعوب والأمم المضطهدة إلى "إرهاب"...

إن الإرهاب الحقيقي هو ما تمارســه الامبرياليّة ضد الشعوب من عدوان وإلحاق وتدخل وحصار، إنه كذلك التدخل السافر لصياغة برامج التعليم وتوجيهها الوجهة التي تخدم مصالحها. إن تطبيق مضمون منشور وزارة التربية والتكوين التونسيّة هو إرهاب لناشئتنا وتحويل لوجهتها واعتداء منهجي على حقها في بناء الشخصيّة المستقلة والمتوازنة، كما أنه استهداف سياسي لوطننا وشعبنا وقهر لحقه في مستقبل مناهض للإمبريالية.

إن النظام العميل في بلادنا والذي كثيرا ما ركز خطابه الرّسمي على "تخوين" رموز المعارضة الديمقراطيّة والتشكيك في وطنيّتهم، هو آخر من يمكنه التحدّث عن الوطن والوطنيّة. إنه نظام تابع، خادم أمين لمصالح أسياده وأولياء نعمته من الإمبرياليّة والاستعمار.

إن الجوهر الطبقي والسياسي لنظام الحكم منذ انتصابه في بلادنا لا يؤهّله إلا للخضوع التام والكلـّي في خدمة المشاريع الاستعماريّة في المنطقة، وما على شعبنا وطلائعه الحقيقيّة إلا التصدّي لهذه التوجّهات. وفي هذا الإطار تتحمّل نقابات التعليم والفعاليّات الطلابيّة والتلمذيّة والحقوقيّة والسياسيّة دورا مركزيّا في الفضح والتشهير بهذا التلاعب الخطير بمستقبل شعبنا والتصدّي له.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني