الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > المثقفون والطبقات الاجتماعية
ويستمر الجدل:
المثقفون والطبقات الاجتماعية
20 نيسان (أبريل) 2009

يحتلّ دور المثقف في المجتمع، وعلاقته بطبقاته، وإخلاصه للطبقة التي ينتمي إليها أهمية كبيرة في كلاسيكيات الفكر المادي، وتنظيرات رموزه، وكتابات قادة الأحزاب نظرا إلى قدرته على توضيح الرؤى الملتبسة، وبلورة الأفكار الغامضة، ورسم الخطط المتصلة بالقضايا المطروحة، ومساهمته في تعزيز ما هو سائد، أو الدعوة إلى تغيير ما هو قائم. ولا يزال هذا الموضوع يثير اهتمام المفكرين والمناضلين مثلما فعل الناقد سمير طعم الله في مقاله الموسوم بـ"ويستمر الصّراع" والذي تعرّض فيه لعلاقة المثقف بطبقته في فقرة مطوّلة قال فيها: "إن الفنان ابن بيئته،وابن طبقته يكتوي بنارها ويختزن همومها وآلامها وأحلامها، وككل أبناء طبقته يحلم ويسعى إلى واقع أفضل وحياة أرقى. و"همّته" لا تنحصر في معرفة الحياة ولكنها تتعدّى ذلك إلى السعي إلى تغييره..."

وهذه الفقرة تثير جدلا وتقتضي ردا وتستدعي توضيحا لبعض النقاط. ولكن قبل النظر في مضمونها نودّ أن نتوقف عند مسألة أخرى تمتّ بصلة متينة إلى جوهر الموضوع وتتعلق بتنوّع المثقفين.

1 – المثقفون والكتلة المتجانسة

هل يمثل المثقفون كتلة متجانسة؟ هذا سؤال كان أنطونيو غرامشي قد طرحه على نفسه وأجاب عنه قائلا: "هل يشكل المثقفون طبقة اجتماعية مستقلة قائمة بذاتها أم أن لكل طبقة اجتماعية فئة متخصصة من المثقفين؟ المسألة معقدة بسبب تنوع الأشكال التي تتخذها العملية التاريخية المولدة لمختلف فئات المثقفين" (قضايا المادية التاريخية – ترجمة فواز طرابلسي- دار الطليعة –بيروت – ط1- 1971 – ص127).

وقد علّل غرامشي في مقال سماه "تكوين المثقفين" ظهور المثقفين وارتباطهم بنشأة الطبقات واختلافهم باختلافها واضطلاعهم بأدوار شتى تستجيب لمصالح كل طبقة وتسعى إلى تثبيت وجودها وضمان استمراريتها. يقول: "مع ولادة كل طبقة اجتماعية تولد عضويا مجموعة أو أكثر من المثقفين الذين يضفون على هذه الطبقة انسجامها ووعيها لوظيفتها ليس في المجال الاقتصادي فحسب وإنما في المجالين الاجتماعي والسياسي أيضا" ( مرجع سابق ص 127).

وهكذا نشأ، مع العمل الرأسمالي، المهندس الصناعي وعالم الاقتصاد السياسي ومشرّع القوانين، وارتبط مثقفو الريف بالجماهير الفلاحية، وأصبح لكل طبقة مثقفوها. لذا يمكن للمثقف "أن يكون أرستقراطيا مثل تولستوي أو صناعيا مثل أوين أو أستاذا مثل هيغل أو حرفيا مثل برودون" (محمد ساري: المثقفون كفئة اجتماعية –ضمن كتاب "البحث عن النقد الأدبي الجديد - دار الحداثة .بيروت –ط1 -1984 - ص 5).

ولئن اختلفت مواقع المثقفين ومهنهم وتكوينهم وإيديولوجياتهم وطبيعة علاقتهم بالطبقات التي ينتمون إليها فإن هناك نقاطا مشتركة تجمع بينهم. فهم لا يُعرّفون بمكانتهم داخل عملية الإنتاج الاقتصادي بل بدورهم الإيديولوجي باعتبارهم المنتجين المباشرين للدائرة الإيديولوجية والمبدعين للإنتاج الثقافي. فكيف تبدو علاقتهم بطبقاتهم؟

2 – علاقة المثقفين بالطبقات الاجتماعية:

ينتمي المثقفون إلى طبقات اجتماعية متباينة المصالح ومتناقضة المشارب ورغم ذلك ظلوا على الدوام يتمتّعون باستقلالية نسبية جعلتهم يتحرّكون في اتجاهات مختلفة ويتخذون مواقف لا تنسجم أحيانا مع أصلهم الطبقي ولا تعبّر عن إيديولوجية الطبقة التي ينتسبون إليها بل تلتقي مع إيديولوجية طبقة أخرى. ويُعزى ذلك إلى عدة عوامل منها الموقف الطبقي الذي يغيّر رؤية المثقف للأحداث ومنها الصراع الطبقي الذي يؤثر في قناعاته. فالمثقف لا يلازم الحياد عندما يشتدّ الصراع الطبقي وتحتدّ التناقضات وتتباين المصالح بل يُفرض عليه اتخاذ موقف والانحياز إلى إحدى الطبقات المتصارعة. فقد تُغريه الطبقة الحاكمة ذات الإمكانيات المادية الكبيرة والإغراءات التي لا تنتهي فيصطف وراء أطروحاتها، وقد يتنكر لقيم طبقته التي تشّبع بها فيناهض مواقفها ويعادي إيديولوجيتها، وقد يضحي بحياته من أجل مبادئه. والأمثلة التي تؤكد مثل هذه الحالات كثيرة ولعلّ ما يعنينا أساسا هو الحالة الثانية التي أثارت إشكالات و لفتت انتباه كبار المفكرين وفي مقدمتهم أنجلز ولينين.

أبدى فريديرك أنجلز إعجابا لا حدّ له بالكاتب الفرنسي بلزاك (1799 – 1850) وأثنى على الواقعية التي ميزت كتابه "الملهاة البشرية"، ولاحظ الفرق الكبير بين انتمائه الاجتماعي (الطبقة الأرستقراطية)، وموقفه السياسي (مناصرة العائلة الملكية وكبار ملاكي الأرض وعودة العرش إلى آل بوربون)، وتقديمه أروع قصة واقعية للمجتمع الفرنسي صورت نهاية الطبقة المحكوم عليها بالزوال أي نهاية الطبقة التي ينتمي إليها. وقد رسم بلزاك لوحتين متقابلتين: فبقدر ما كان يسخر من شخصيات الطبقة الآيلة إلى الزوال كان يُعجب بخصومه السياسيين. يقول أنجلز في رسالة بعث بها إلى هاركنس (لندن مستهل نيسان 1888) "لكن هذا لا يمنع أن هجاءه كان على ألذع ما يمكن وسخريته على أمرّ ما يمكن حين كان يحرّك أشخاصا من أولئك الذين تميل إليهم عواطفه أكثر ما تميل: النبلاء رجالا ونساء، وكان الأشخاص الوحيدون الذين يتكلم عنهم دوما بإعجاب صريح هم خصومه السياسيون الأكثر عنفا واحتدادا، الأبطال الجمهوريون، الرجال الذين كانوا حقا في ذلك العصر (1830- 1836) ممثلي الجماهير الشعبية" (انظر مراسلات ماركس أنجلز- ترجمة جورج طرابيشي – دار الطليعة بيروت – الطبعة الأولى 1972 ص200).

ولا يكف أنجلز عن الثناء على بلزاك والإعلاء من شأنه باعتباره كاتبا واقعيا متميزا نقل الواقع بصدق دون تزييف حقيقته أو تغليفه بأقنعة. ويختم رسالته قائلا: "وفي تقديري إن واحدا من أروع انتصارات الواقعية، واحدة من أثمن صفات بلزاك العجوز تكمن في أنه اضطر إلى أن يناقض عواطفه الطبقية الخاصة، آراءه السياسية الخاصة، تكمن في أنه كان يرى ضرورة سقوط نبلائه الأثيرين ويصفهم بأنهم رجال لا يستأهلون مصيرا آخر" (مرجع سابق ص ص200- 201).

كما لاحظ أنجلز أن كتابات الشاعر الألماني غوته (1749 – 1832) تترجم جملة من التناقضات تعتمل في نفسه وتعكس الصراع الذي ميز حياته وتجلّى في آثاره.يقول: "ففي داخله صراع مستمر بين الشاعر العبقري الذي يشمئز من البؤس فيما حوله وبين الابن المحترس للسيد المستشار في فرانكفورت أو المستشار الخاص في وايمار الذي يرى نفسه مضطرا إلى عقد هدنة مع هذا البؤس والاعتياد عليه.وهكذا فإن غوته عملاق حينا وتافه حينا آخر، طورا عبقري متكبر ساخر يزدري العالم وطورا بورجوازي هزيل الفكر محترس، مكتف، ضيق" (فريديريك أنجلز- نصوص مختارة: اختيار وتعليق جان كانابا – ترجمة وصفي البُني – دمشق 1972- ص 353).

وبعد أن استعرض أنجلز السمات التي ميزت حياة غوته عدّد مآخذه عليه فلاحظ أنه بورجوازي ضيق الأفق، وأن ضيق أفقه هذا جعله يخشى كل حركة تاريخية هامة في العصر، وأكد أن المقياس الذي استعمله في تقويم آثاره هو مدى التزامه الواقعية.يقول: "إننا لا نقيس غوته بمقياس أخلاقي ولا بمقياس سياسي ولا بمقياس إنساني. إنما نحن بالتالي نقتصر على تسجيل الواقع" (مرجع سابق ص 354).

ولا يختلف شكسبير (1564 – 1616) عن بلزاك. فكتاباته تناقض انتماءه الطبقي وتؤكد تأثره بالواقع المتحرك ومواكبته لما يمور في أعماق المجتمع الأنقليزي. فهو ينحدر من أسرة بورجوازية وجيهة وعاش حياة الرفاه، ولكنه عندما كتب "تبرّأ من النظام الإقطاعي، ومن سلطة النقود التي تحوّل كل شيء إلى سلعة. وقد ناصر سلالة تيودور إذ رأى فيها، وهي شجّعت تطوّر البورجوازية، ممثلا للتقدم التاريخي" (بوعلي ياسين: ينابيع الثقافة ودورها في الصراع الطبقي- دار الحوار – سوريا – الطبعة الأولى 1985 – ص 21).

ولعلّ أفضل مثال يجسّد المفارقة بين الانتماء والموقف والتنكر لإيديولوجية الطبقة التي ينتمي إليها هو ليو تولستوي الذي خصّه لينين بسبع مقالات كشفت خصائص الكتابة عنده وقدرته على تحليل الواقع الروسي في فترة امتدت من ستينات القرن التاسع عشر إلى سنة 1905. "فتولستوي ينتمي بمولده وتربيته إلى أعلى فئات النبلاء، أصحاب الأراضي في روسيا. وقد تخلّى عن جميع الآراء المعتادة لتلك البيئة وانتقد في أعماله التالية جميع المؤسسات الحكومية والكنسية والاجتماعية والاقتصادية القائمة في عصره والتي تقوم على استعباد الجماهير وفقرها وخراب الفلاحين والملاك الصغار بوجه عام" (لينين: تولستوي – ترجمة أسعد حليم – دار الثقافة الجديدة – القاهرة 1980 ص 39)، وفضح آثام الحكومة والمحاكمات الصورية والإدارة الحكومية الشكلية ونموّ الفقر والذلّ والبؤس بين الجماهير الكادحة. لذلك أُعجب به لينين واعتبر نقده متفرّدا متميزا وعدّه كاتبا أصيلا "لأن آراءه عندما تؤخذ في مجموعها تعبر عن السمات الخاصة لثورتنا بوصفها ثورة بورجوازية فلاحية" (مرجع سابق ص 23)، وأشاد بعظمته التي "يستمدها من قدرته على التعبير عن الآراء والمشاعر التي انتشرت بين الملايين من الفلاحين الروس عندما كانت الثورة البورجوازية تقترب من روسيا" (مرجع سابق ص 23).

تؤكد الأمثلة التي استعرضناها أن الكتاب قد لا يلتزمون دوما بمواقف الطبقة التي ينتمون إليها وخاصة عندما تكون طبقة رجعية تتصدى لتيار التاريخ المندفع نحو المستقبل. لذا نجدهم يعارضون هذا التيار وينحازون إلى الطبقات الكادحة ويستشرفون المستقبل ويتبنون قيم الحداثة والتقدم لأن الواقع يثبت عكس ما تريده الطبقات الحاكمة.

إلاّ أن الاتجاه المعاكس صحيح أيضا. فكم من كاتب تبنى فكرا تقدميا وانخرط في النضال الفعلي لخدمة طبقته وشعبه وعرف السجون والمعتقلات دفاعا عن مبادئه لكن المطاف انتهى به إلى التخلي عن قناعاته والانتقال إلى المعسكر المناهض لقوى التقدم. فالكاتب الفلسطيني إميل حبيبي (1921- 1996) تبنى الفكر الشيوعي منذ أن كان شابا يعمل في شركة تكرير البترول في حيفا، ثم أصبح مثقفا متحزبا فتمّيزت مسيرته بالالتزام ومعاداة الصهيونية وكتابة أدب يندّد بالعدوّ الإسرائيلي الذي اغتصب البلاد وشرّد العباد ويدين سياساته الاستعمارية والعنصرية.

إلاّ أن إميل حبيبي توّج هذه المسيرة بالتنكر لماضيه ونضالاته. فقد أعلن سنة 1989 أن الصهيونية ليست عنصرية، وقبل سنة 1992 جائزة الدولة العليا في الأدب باسم "جائزة إسرائيل" وتسلمها "خلال حفل رسمي أقيم في القدس المحتلة بمناسبة مرور 44 عاما على إنشاء إسرائيل" ( فيصل دراج – بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية – دار الآداب –بيروت ط 1 1996 – ص 107)، وسعى إلى عقد ندوات ولقاءات مشتركة بين مثقفين عرب ومثقفين إسرائيليين. وتعزى هذه الردّة إلى الارتباك الذي عرفه منذ سقوط المعسكر الاشتراكي وعقد القيادة الفلسطينية صلحا مع الكيان الصهيوني وتبني إميل موقف سلطة بلاده. وهكذا دشن مصالحة غريبة مع عدوه اللدود، وتنكر لنضالات شعبه وأتى ببدعة ستظل وصمة عار تلاحقه متى ذُكر اسمه رغم قيمته الأدبية.

وقد نجد ضربا آخر من المثقفين يغير موقعه بشكل جذري وينتقل من اليسار إلى اليمين ويقطع أي صلة تربطه بماضيه، ماضي الالتزام والمبدئية والنضال. فمنير شفيق كان مرجعا لا غنى عنه لمن رام معرفة واقع القضية الفلسطينية في السبعينات من وجهة نظر تقدمية. فقد كانت كتاباته غزيرة وتحاليله عميقة واسترشاده بالفكر المادي واضحا جليا. وكتابه "حول التناقض والممارسة في الثورة الفلسطينية" يستلهم أسس تحليله من تنظيرات لينين وستالين وماو تسي تونغ. ولكنه انقلب على نفسه وأصبح "مفكرا إسلاميا" بامتياز واستعاض عن الفكر المادي بالفكر المثالي وأصبح مرجعه القرآن فوجدناه، على سبيل المثال، يصدّر كتابه "الإسلام في معركة الحضارة" بآية من سورة الملك بل وجدناه يوظف ثقافته السابقة ليفنّد التحليل الملموس للواقع الملموس.

وفي الحقيقة إن علاقة المثقفين بطبقاتهم شائكة معقدة لا تخضع لضوابط صارمة ولا تحددها قوانين واضحة. فالأصل الطبقي ليس قادرا وحده على تحديد إيديولوجية المثقف وممارساته والتزامه ودوره في الواقع المعيش. والأمثلة التي ذكرناها أكبر دليل على ذلك وسندعّم كلامنا بأمثلة أخرى من حيوات مثقفين ذاع صيتهم وأصبحوا أمثلة تُحتذى ورموزا للتضحية رغم أن أصلهم الطبقي يخوّل لهم العيش المريح وحياة الرفاه. فناظم حكمت (1901 -1964) شاعر تركي شهير، كان أبوه المدير العام للمطبوعات وأمه الرسامة ثريين عريقين، لكنه كرّس حياته للالتزام والنضال فأدان تحالف السلطة الحاكمة في بلاده مع النازية الألمانية في الأربعينات، وتبنى الفكر الشيوعي وانضم إلى الحزب الشيوعي التركي سنة 1925 وناهض الظلم والحيف ودعا إلى العدل الاجتماعي فقضى حياته بين السجون والمنافي: 13 سنة سجنا في تركيا ونفي في الاتحاد السوفياتي وموت هناك.

وبابلو نيرودا (1904 – 1973) شاعر الشيلي الكبير، كان أبوه مزارعا وعاملا في السكك الحديدية وكانت أمه معلّمة في مدرسة القرية، قضّى أكثر حياته في السلك الديبلوماسي ورغم ذلك انضم إلى الحزب الشيوعي الشيلي وعُرف بمواقفه المعادية للقهر والظلم وانحاز إلى العمال الكادحين وسمّاهم المضطهدين العمالقة، وكانت نهايته مأسوية فقد أعدم أثناء الانقلاب العسكري الدموي الذي قاده الجنرال بينوشاي سنة 1973. وهو نفس المصير الذي عرفه فيديريكو غارسيا لوركا (1898 -1936)، كان والده مزارعا ناجحا وكانت أمه معلمة، أعدم رميا بالرصاص في غرناطة لأنه انحاز إلى الجمهوريين أثناء الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939) وناهض الفاشيين بقيادة فرانكو. ولوركا هو شاعر الحرية والجمال والقيم الإنسانية النبيلة.

وفي الختام نستطيع أن نقول إن أهمية الجدل لا تضاهيها إلاّ أهمية النتائج المترتبة عليه. فالجدل يحرّك السواكن ويعمّق المفاهيم ويزيل اللبس وينبه لمسائل قد تصبح هي في حد ذاتها مواضيع مطروحة للنقاش من جديد. وموضوع الإيديولوجيا والمثقفين والطبقات الاجتماعية ثري خصب يثير آراء متباينة تباين الزاوية التي يُعالج منها.

أبو العلاء بن نصر


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني