عـــادتْ لنا قرطـــــاج
استيقظتْ من حُلمنا، استيقظتْ من حُزننا،

***

عادتْ لنا قرطاج
و لم تجئْ من فوْهة المدافع، ولم تجئْ من طعْنة الخناجر
و إنّما الأفواج و إنّما الحناجر صاحتْ بصوتٍ واحِد:
ديقاج، ديقاج، ديقاج ديقاج

رضا البركاتي ridhabarkati@gmail.com

1. جائزة قرطاج

نظّمت الجمعيّة التونسيّة لدارسي اللغة الإسبانيّة وآدابها التي بعثت إلى الوجود بعد الثورة بالتعاون مع دار النشر «بيقماليون» الملتقى التونسيّ الإسبانيّ الأوّل للمثقّفين والكتّاب من 01 إلى 06 نوفمبر 2011 وتوزعت الأشغال ما بين مدن تونس وقرطاج وتوزر واختتمت بتقديم جائزة قرطاج للإبداع الشعري وتحصّل عليها مناصفة شاعر من إسبانيا ومن تونس أولاد أحمد. وقد شارك من تونس العديد من الشعراء مثل: المنصف الوهايبي وإيمان عمارة وفتحي النصري وسليم دولة وأمانة الزاير وخالد الهدّاجي وصلاح بن عيّاد وماهر قزمير.

ويؤكّد المنظمون على أنّ الملتقى «يهدف إلى بعث فضاء للبحث والتفاعل والنقاش حول مسائل ذات أهميّة ثقافية وأكاديمية وإبداعية وأدبية تزيد في تعميق التعارف وتدعيم التثاقف بين مختلف الأطراف وتحثّ على نقل الأعمال الأدبية التونسية المعاصرة إلى الإسبانية وترجمة أعمال الكتّاب الأسبان إلى العربية والفرنسية.

فالمشاركون حاضروا وتباحثوا في مسائل حول الثقافات والآداب المتوسطية ومواضيع في فن القصة وفن الرواية والحكاية والقصة القصيرة والرواية التاريخية والمقالة الأدبية والأدب والصحافة والرمزية في الشعر وغير ذلك.

ورغم الحضور المتنوع والحاشد للأدباء والشعراء والمبدعين والأكادميين والمهتمين فإنّ شبح ميقال دي سرفانتيس ظلّ مهيمنا على الملتقى وتردّد اسمه بتواتر وخصّته بعض الجلسات العلمية بدراسات.

ولكن نعتقد أنّ تقييم الملتقى يجب أن ينطلق من السؤال عن مدى حضور روح دي سرفنتاس الإبداعية التي وَعَتْ اللحظة التاريخية المِفْصلية ورصدت التحولات الاجتماعية ورسمت التفاعلات الثقافية والنفسية والأخلاقية وجمعتها في بطل يحبّه الأطفال ويميل إليه الكبار ربّما لأنّه يمثّل شيئا منّا، شيئا ساكنا فينا.

ونحن، هنا، شرق المتوسط أو جنوبه، لا نزال، منذ حملة نابليون فَجْرَ القرن التاسع عشر وإلى اليوم، نتخبّط في نفس اللحظة التاريخية التي مرّ بها مجتمع دي سرفانتيس، والغرب عموما، في القرن السادس عشر، إبّان عصر النهضة؟

كيف كان ذلك؟

2. دي سرفانتيس [1]

في نهاية القرون الوسطى، وبعد أن افتكوا الريادة من مدينة البندقية الإيطالية، كان الإسبان سباقين إلى اكتشاف الطرق البحرية الجديدة. لقد اكتشف كريستوف كولمب، في 1492، العالم الجديد (القارة الأمريكية). وتشكلت الإمبراطورية الإسبانية التي أصبحت سيّدة التجارة العالمية فنشأت في المجتمع الطبقة «الماركنتيلية» [2] الجديدة وهي الطبقة التي ستمهّد الطريق في أوروبا لظهور الطبقة البرجوازية وذلك بعملها على نشر التبادل النقدي بديلا للتبادل العَيْني (سِلَعٌ مقابل سِلعٍ) السائد في الاقتصاد الإقطاعي ثمّ بتحقيق تراكم رأس المال...

هو تحوّل مجتمعي رهيب ومنعرج كبير في تاريخ الإنسانية. إنّه الانتقال من المرحلة الإقطاعية إلى المرحلة الرأسمالية وما صحبها من اهتزازات.

وهنا تأتي عبقرية دي سرفانتيس، هذا الجندي المتقاعد الذي دأب على كتابة الشعر والمسرحيات والحكايات، لما أراد أن يتحف قراءه بحكاية مستوحاة من التحولات الطارئة وتصوّر الانقلاب الحاصل في القيم والأخلاق من خلال مغامرات بطل طريف هو «دون كيشوط دلاّ مانشا» .

3. دون كيشوط

هو كهل هزيل عثر على كتاب قديم يتحدّث عن سيرة الفرسان الجوّالين وخصالهم والمبادئ التي تقودهم في حياتهم.

ونظرا لرفضه للحياة الحديثة وقيمها الجديدة قرّر إحياء سير الأوّلين فارتدى كسوة فارس وحمل سيفا قديما صدئا وامتطى حصانا هزيلا واصطحب مزارعا ساذجا بدينا اسمه «سانشو» اتخذه تابعا له على سنّة الفرسان الجوّالين. وانطلق يعاقب الأشرار ويحمي الضعفاء ويطارد الأرواح الشريرة ويتغنى بجميلته... وهي في الحقيقة ليست سوى امرأة قروية عادية رأى أحد الفلاحين يتوجه إليها فهاجمه وطرده مؤنبا إياه لسوء سلوكه ثمّ عاد إليها وخاطبها بلغة وأسلوب الفارس النبيل وأعلمها أنّه في خدمتها وأنّه مستعدّ للموت من أجل صون عرضها... هكذا المبادئ النبيلة: لكل فارس جوّال حبيبة يحميها ولأجلها يخوض المغامرات...

ولعلّ من أجمل مغامراته وأشهرها هجومه على طواحين الريح معتبرا إيّاها أرواحا شريرة غير آبه بتنبيه تابعه «سانشو» وتحذيراته. ولمّا أعمل فيها رمحه رفعته الناعورة ورمته أرضا فعلل الحادثة بتأكيده أنّها أرواح شريرة لكنّها استحالت طواحين ريح تجنبا لبطشه (هكذا...!).

لقد لقيت حكاية «دون كيشوط دلاّ مانشا» المنشورة سنة 1605 قبولا وراجا عظيمين. ولكنّ الأعظم من ذلك النجاح أنّها افتتحت عصر الرواية هذا النمط الأدبي الجديد الصاعد من أحشاء أنماط الحكي القديمة. ألم يعرّف رولان بارط الرواية بكونها ملحمة عصر البورجوازية.

4. شرشبيل ! [3]

هكذا كان الشأن في بلاد الغرب لمّا حَدَثَ حَدَثُ الحداثة.

ولكن كيف كان الشأن في بلاد العرب لمّا جَدَّ جِدُّ الجَديد وهبّتْ رياحُ الحداثة؟

بالمختصر المفيد: انطلقت النهضة العربية منذ فجر القرن التاسع عشر (بعد حملة نابوليون على مصر) ولها روادها الذين سَعَوْا إلى وضع البلاد العربية على سكّة الحداثة وإدراج شعوبها في العصر.

بالمختصر الأكيد: اندحرت طبقة النبلاء والباشوات والبايات وتلاشت طبقة الأقنان أو الخماسة وبقايا العبيد مع تلاشي النظام الشبه إقطاعي شبه مستعمر. وظهر مع انتشار الرأسمالية مجتمع جديد تولّد عن وبِــاقتصاد السوق وينعقد المجتمع الجديد على ثنائية طبقتيْ: البرجوازية والعمال.

بالمختصر الشديد: خلال القرنيْن الماضيَيْن كان العمال والطبقات الشعبية الكادحة وطلائعها المثقفة يناضلون ويقدّمون التضحيات ويطرحون البدائل ويرفعون رايات الاستقلال والتقدّم والحرية والعدالة الاجتماعية. وبالمقابل كانت البرجوازية تجني الثمار وتنقلب على الشعب وشهدائه وأحراره وشعاراته وطموحاته.

بالمختصر العنيد:

 إنّ صدمة الحداثة طالت أكثر من اللزوم. وثنائية الدين والحداثة مفتعلة بشكل ركيك ومتخلّف من قبل أطروحات رثّة وتعيسة.

 في إسبانيا أنتجت الصدمة بطلا يحبّه الصغار والكبار. وهو رغم تعثّره في محور الزمن وسقوطه في سلم القيم، يحمي النساء والضعفاء ويطارد الأشرار والأرواح الشريرة إنّه «دون كيشوط» . المكنّى: الفارس ذو الوجه الحزين.

 وعندنا أفرزت الصدمة، التي طالت كزكام عنيد، من يخوّف الصغار بعذاب النار ويروّع الكبار بماء النار ويُذِلُّ النساء وينشر ثقافة عذاب القبر ويروّج للأرواح الشريرة في كلّ مكان إنّه يتجلّى لمن له بصيرة بصورة: «شرشبيل» .

 من يدّعي الدّفاع عن الهوية ورفع لواء النهضة العربية إنّما يدسّ تحت القميص برنامج النكسة للبلاد والعباد وصكّ البيعة لبوبرطلة وبني صهيون وأبناء العم «النفطيون» .

بالمختصر الجديد: عادت لنا قرطاج والآن سنعمل على استرجاع القيروان. سنجلّيها عروسا بهيّة وعاصمة لإفريقية وسنحيي فيها رجالها من أمثال ابن شرف وابن رشيق والإمام سحنون... ونعدّل اسطرلابها [4] ونُعْلِي مدارسها ونفتح أسواقها ونعمّر دورها ونثبِّت رباطها ونزيّن أسوارها ونفتح أبوابها. ونصدّ عنها الغزاة، أيّا كان لسانهم ولبوسهم، وأيّا كانت رايتهم، وأيّا كانوا، سواء كانوا من الماغول أو التتار، أو من بني هلال.