الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > الوطن الحكاية
الوطن الحكاية
22 تموز (يوليو) 2009

"الوطن ممتد على طول الخريطة"

"في الخريطة سالت دماء فداء للوطن"

وطن يمتدّ من الشمس إلى البحر، وطن الخريطة مفسوخة الألوان، وطن لا لون له سوى لون الواقع، الفسفاطي الداكن من جهة، والبنفسجي الفاقع في الصفّ الآخر.

وطن، المسافة الفاصلة بين مدينتين-الرّديف وأم العرائس– مثلا، أطول وأبعد وأعسر من الوَصْلِ بين نهري مجردة والفرات، وطن "سجونه متلاصقة سجّانٌ يمسك سجّانا" .

كخيط الضّوء المنسلّ في عتمة الواقع، تسلل إلينا الوطن الحكاية، حكاية مشروع تخرّج بالمعهد العالي للفنّ المسرحي، نسج ملامحه، وأثـّث ألوانه وأضواءه، كل من الطلبة، سهام عقيل، وعبيد الجميعي، ووليد عبد السلام وغانم الزرلي، في رؤية إخراجية هندسها رياض حمدي، وقد ساهم مجموعة من قدماء المعهد وأصدقاء أصحاب المشروع في رسم مشاهده، أو وثائقه كما يحلو لأصحاب النص تفصيله، فكان محمد شعبان حاضرا كأنه ولد منذ الأزل في وطن الحكاية معبّأ بأوجاع وطن الحقيقة، كما نبت ناجي قنواتي في فضاء الركح الوطن كأنما قُدَّ من خشبة الركح ومن طين الوطن، فيما راوح رضا جاب الله بين عالمين، عالم القمع وعالم المقاومة، فتراه يمرّ من حالة إلى أخرى ومن فضاء إلى آخر، في سلاسة وانسياب الممثل الذي يلغي من ذهن المتلقي أنه هو هو، من كان يعذّب في المشاهد السابقة، هو حامل الرسائل والخبز وشحنة الصمود للواقفين على الجمر في السرّية والمواجهة.

"وطن" هو عنوان العرض، فلئن كان من الصعوبة بمكان، ومن المرارة ما يدمي القلب، عندما تتجوّل في الوطن الحقيقة – إذا سُمِحَ لك بذلك – فإنه من النشوة والمتعة والفرحة والصدق والجرأة والجمال ما يدمع العين انفعالا وثقة في المستقبل وأنت تتسلل في الوطن الحكاية، عبر شوارعه الخلفية والخفيّة، بوابته مشهد لممثلين، يخوضون تجربتهم الأولى أمام الجمهور، موزعين على فضاء الخشبة في انتظار الزائرين/الجمهور، يسبّحون ويتمتمون "أن تجعل القمع أشدّ قمعا هو أن تضيف إليه وعي القمع"، مرشوشين بضوء خافت يغري القادم ويحرّك فضوله لاكتشاف ما تخبّئه شوارع الخشبة الضيّقة من أحداث، وتكتنزه أجساد الممثلين الغضّة من طاقة وقدرة على الإبداع المسرحي، واللعب الرّكحي...

تتالى الوثائق – نسبة إلى المشهد/الوثيقة – عبر شخوص مفاتيح تمت المزاوجة فيها بين رجب وأنيسة القادمين من مدوّنة الأدب العربي – شرق المتوسط – لـ"عبد الرحمان منيف"، وشخصيّتي حندوس وجابر المولودين من مدّونة أدب الفلاقة – مناضل رغم أنفه – لـ"عبد الجبار المدّوري"، لينصهروا جميعا مع شخوص قدوا من حرارة دم الواقع المنساب على تربة الرديف – تبديت – أم العرائس – المعلم والنقابي صامد، وزوجته جمعة، وأنور الذي كبر في الوطن الحكاية، ليحلّ محلّ أخيه الذي مات في الوطن الحقيقة – حفناوي المغزاوي...

"اللْسَانْ تِطْلَقْ ....... والدَّمْ إتَّرْشَِقْ......"

وتداخلت الأضواء، وتسارعت الحركة بشكل لولبي في وضع أفقي لتراوح بين التوتر والهدوء في اتجاه الأمام حتى تتبدّى الأحداث وتتكشّف الشوارع الخفيّة للوطن الحكاية، مراوحة بين شوارع الرّديف وقاعات التحقيق وأقبية التعذيب، وظلام السجون ونتانتها، ومظاهرات الطلبة...

تتوالد الحكاية وتنمو، بين السرّية والعلنيّة، بين العمل النضالي المنظّم وبين التحرك الشعبي العفوي، وتتهاطل الأسئلة، الخروج والمواجهة المفتوحة أم التأني والتحركات النوعية المدروسة، التهور أم الاتزان، الصمود أم الانهيار، الخروج من السريّة أم مواصلة التخفي...

كل هذا الزّخم الحركي والحدثي، كان يتمّ في فضاء ركحي فقير وضيّق تمّ التحكـّم فيه برؤية إخراجية لرياض حمدي غطّ فيها على ضيق المكان بفساحة المشهد، وعلى فقر الأثاث/الديكور (كرسي في وسط قاعة تحقيق، بعض الأغطية التي تستعمل في السجن "زاورة" غطاء وفراش، زوجين من الأسرّة المزدوجة المتحرّكة) بغناء اللعب المسرحي، والتوزيع المحكم والدقيق للممثلين على فضاء الخشبة، وبالتقسيم الضوئي لاختلاف الفضاءات والأمكنة..

للضوء حكايته في الوطن الحكاية، كما هو أيضا في الوطن الحقيقة، حين كان لأهالي الرديف القدرة على إتقان استغلال الضوء لملأ فضاء الشوارع بالحركة، فقد نظّموا تحركاتهم ليلا، وكانوا "يتعلّمون علم الشعب على ضوء الفانوس.. لا والله على ضوء الظلمة..." كما خبروا ضوء الفجر وضوء الظهيرة وضوء الغسق...

كذلك هو قدر سهام عقيل ورفاقها حين صارعوا ظلمة الواقع المسرحي بضوء الجرأة والتحدي والصّبر على الشدائد، ظلمة التهديد وضوء المؤازرة التي لقوها من بعض زملائهم وأساتذتهم...

هنا تتجلّى حكاية الضّوء في تقسيم المكان وفي توزيع المشاهد وفي التدرّج بالحركة من البعيد إلى القريب والعكس صحيح..

"من أين جاؤوا وكرم اللوز سيّجه أهلي وأهلك بالأشواق والكبد..." من رحم المسرح التونسي أطلّوا علينا، امتدادا لتجارب الأولين اللذين مازالوا، وتجاوزا لهم. جذورهم ضاربة في تربة المسرح التونسي، في المسرح الجديد، في فن السرد من المسرح الجديد، متأصلين فيه، متجاوزين له، عائدين إلى أصول السرد الملحمي اليوناني، منفتحين على المسرح التوثيقي مع "إروين بسكاتور". لم يستلهموا من الواقع، بل جعلوا من طين الواقع وحرارته ورائحته وآنيته حبر الكتابة الملحمية، وهم شهود عيان يسردون ما كابدوا في الوطن الحقيقة زمن صياغة الوطن الحكاية...

إنّ "وطنْ" تأريخ لليومي وتحيين للآني، وهو فعل مسرحي أصيل يدخل تحت يافطة المسرح السّياسي، مثل خمسون للفاضل الجعايبي، لكنّه يختلف عنها ويتجاوزها أحيانا في مستوى جرعة أداء الممثلين، ودرجة الصّدق التي تلامس شغاف قلبك حدّ البكاء. لقد كان التعامل مع الممثل على درجة من الحرفية...

إنّه مشروع تخرّج وهو التجربة الأولى للمخرج وللممثلين، لكنه كما يقول المثل "ضربة معلّم".

لكن في الحقيقة لا يكفي إنجاز عمل جيّد وحيد، بل يجب الحفاظ على هذا المسار بعد التّخرج والتأسيس له وذلك يتطلّب وعيا وإيمانا بذلك، وقد خبرنا هذا وتأكّد لنا عند رياض حمدي خاصّة عندما عمل مع عبد الفتاح الكامل في "أصوات" وكذلك في مشروع تخرّجه "اللجنة" وهو اليوم في وطن، مدافعا عن الخيار الواقعي في الفن والمسرح...

إنّ التأسيس يبدأ بالبحث في الأصل والمزاوجة بين النظري والعملي وهو يتطلّب مكابدة ومواجهة وتحدّي لكل العراقيل التي تعترض التوجّهات الجادّة في هذا الوضع المتسم بالانتهازية والانحرافات.. ولعبيد الجمعي الذي لعب دور رجب ووليد عبد السلام الذي لعب دور جابر وناجي قنواتي / حندوس، وسهام عقيل وغانم الزرلي القدرة على التأسيس لأن لهم الجرأة في البحث والسؤال والمواجهة...

س.ط.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني