الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > اُمّي بُوكَهْ
قصّة قصيرة:
اُمّي بُوكَهْ
14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010

بقلم: بلقاسم بنعبدالله

إهداء إلى شهداء فيضانات الرديف

كنا جميعا منذ الصغر نُحبّذُ مناداتها بـ"أمّي بُـوكة".

وجهها يختزل سنوات طويلة من المعاناة والتعب، سنوات طويلة من الإصرار والتحدي لحياة لم تنصفها ولم تهديها السكينة. كانت ابنة شِعاب الفسفاط المطلة على مدينة الرديف. فُطمت في هذا الركن الهادئ من العالم منذ أن ساق القدر إليه عشيرتها من سباسب "بير العاتر" بالحنوب الجزائري.

حظّها العاثر دفعها إلى الزواج مبكرا وهي ابنة الخامسة عشر من أحد جهابذة القبيلة الذي أغراه صغرها. كانت قليلة الكلام، كتومة إلى حد أن الجميع ظن أنها عاقر. فانفصلت أو فُصِلت من بَعلها وهي لم تجتَزْ عقدها الثاني.

اعتقدت أن قسوة حياة البادية وبؤسها العائلي قد حرمها من خصوبتها لكنها لم تيأس. لم يمرّ زمن طويل عندما طلب أحد عُمّال "المِينَة" يدها للزواج. كان له ما أراد رغم معارضة ذويه. فهي امرأة عاقر..

لم تمضِ شهور حتى أضحى الجميع في الحي الذي أنشئ على إحدى المنحدرات المطلة على واد "الدخلة"، يتناقل خبر الحمل، اعتقد البعض أن الأولياء الصالحين قد استجابوا لدعوات مبروكة، واتهمها البعض الآخر بأنها استعانت بأحد المشعوذين الذي له باع في عالم الجان والسحر، لكنهم أجمعوا على أن "بوكة" لم تكن عاقر أبدا. وبدل الصبي أنجبت ثلاثة. لتجد نفسها في مواجهة الزمن صحبة فرسانها الجدد بعد أن اختطفت الموت زوجها في أحد دواميس الفسفاط المُمْتدّ في الجبل.

لأبنائها عاشت، فرفضت كل من تقدم لها، رغم أنها مازالت في ريعان شبابها وفي أوج عطائها الأنثوي.

في أحد الأيام عبّرَ لها أحد أبناء عمومتها، من المقربين عن ندمه وحسرته لظنه بأنها عاقر. بشيء من البرود أجابته: "لم يبق من العمر الكثير" ومضت.

كان لها حنان البحر لتغمر بها ذرّيتها كلما لازمتهم حرارة الطقس والبؤس والخصاصة. في بيتها ذو الغرفة الواحدة تنتصب "السدّاية" [1]، فلا معيل لها ولدراسة أشبالها سوى ما تتحصل عليه مقابل بيعها "للبرنوس" [2] و"المرقوم" [3] و"البطانية صوف" [4].

غيّبت كل مفاتنها لتذبل تدريجيا مقابل نُمُوّ بذراتها الثلاث. قتلت في داخلها كل الرغبات الإنسانية. وقتلت كل الشهوات. لكنها تملّكت صوتا عذبا جعله قبلة نساء الحي في المناسبات. بحّة الوجع والغضب والألم والبؤس كانت تميّز صوتها دون غيرها من "الغنّاية".

يشهد لها الجميع بقدرتها على ترديد ملاحم القدامى، الأقرب إلى قلبها "فَرْخ لْحَمامْ"، عشقها لها كان ليشحن بعضا مما تبقى من حبّ دفين للمرأة فيها.

بذورها الطريّة صارت لها أغصان. وفي قلبها نما الإصرار على الحياة لترى تلك الزهرات البرية وهي تينع. مصاريف الأبناء زادت. عليها أن تناور وتراوغ كل ما يعترضها. كان عليها أن تعمل في المنازل في الصباحات الباكرة. وأن تحابي أحد باعة الصوف ليقرضها. وأن تغزل ما ابتاعته. وأن تنتهي من "السدّاية" لتنصب غيرها في أسرع وقت.

صراع ضد الزمن توّج صبرها "الأيوبي" وهي تستقبل أبنائها المحملين بالشهادات الجامعية. ابتسمت لتلك اللحظات وبكت مطولا. إنها نهاية الشقاء.

اعتقدت أن عليها مواصلة المسير بما تبقى من جسدها النحيل والتجاعيد التي لفّت تفاصيل وجهها المنهك.

إصرار على الحق في الشغل، فغضب، فاحتجاج. أضحى ملف عائلة مبروك مقلقا للشيخ والعمدة والمعتمد. أحرج هذا المطلب الجميع. لا بد من حَلٍّ.

لكن دون أن يأتي الحل.

مرّ زمن ليس بالطويل ونجحت أمي بوكة في أن تجد لنفسها ولأبنائها سندا من نقابيي الجهة وحقوقييه وكل من آمن بعدالة قضيتها وحقها في العيش الكريم.

خبر انتداب ابنها الأوسط أثلج صدرها. أمي بوكة انتقلت من حالة الدفاع إلى الهجوم. من حالة التمني إلى الفعل. لابد من جني ثمار البؤس والتعب. أضحت مُرَتّبة الأفكار. عليها أولا أن تسدد ديونها ومن ثم العمل على ترميم البيت. بدت ملامح أحلامها أكثر اتضاحا وأكثر تميّزا.

الأحلام لم تفارقها وهي تعد العدّة للحياة الجديدة. حتى أن ابنها البكر عمّار طلب بهدوء منها أن تتوقف عن الغناء في الأعراس. رغبة منه في تخفيف العبء عليها. رفضها كان قاطعا. فتلك هي اللحظات الوحيدة التي تناجي فيها ذاتها التي ذبحها الزمن بالهزات والمآسي.

كان عمّار الأقرب إليها فهو أكثر إخوته هدوءا ورصانة وحرصا على عدم إزعاجها وإعانتها منذ أن كان طفلا. عمل كثيرا في حظائر البناء، وعانى الحرمان في الجامعة وحرم نفسه حياة الطلبة بفوضاها وجنونها وجموحها للثورة. لم يتجرّأ على تحريك مشاعره الراكدة ولم يدفع بها إلى الحب.عاند نفسه التائقة للتمرّد والاحتجاج في صفوف الإتحاد العام لطلبة تونس تجنّبا للملاحقات والهرسلة يُمكن أن تطال والدته. في النهاية كان الهدف واضح الدراسة ومن ثم العمل وإسعاد العائلة، وخاصة تحقيق أمنية أمي بوكة في الحج.

يوما بعد يوم تجد أمي بوكة نفسها تندفع في حديث مطول مع عمّار حول مستقبله، فهي لمحته عند "التقازة" وفي أحلامها. ابتسامته تحمل هموم قدر لم يخطط له لا تفارق محياه كلما حدثته عن مواصفات المرأة التي تريد:
- أريدها طيِّعة ولا تُخالفك الرأي وتعمل كل ما بجهدها لإسعادك.

يجيبها باحتراز:
- من الذي يختار الزوجة أنت.. أم أنا؟

تجيبه بثقة:
- أنا بالطبع (تبتسم)، لقد جلت في أغلب أعراس الحومة والعرش، وأعرف الصبايا واحدة واحدة..

يظلان يتسامران هكذا إلى آخر الليل وهي وراء "السَدّاية".

مرّ عيد الفطر وراجت أخبار باقتراب موعد انتداب عمار. بدت أمي بوكة أكثر إقبالا على الحياة. أكثر أملا. أكثر إيمانا بغد انتظرته طويلا. يومها أصرّت على أن تطبخ "مطبقة" فالجوّ بارد والمطر الخفيف يغسل شوارع المدينة من بقايا الغبار الذي عشش في أمعاء متساكنيها.

في الهزيع الأوّل من تلك الليلة. أفاقت أمي بوكة على صوت صعقة برق عنيفة ترددت في أرجاء المنزل. بدت مرتبكة. مدّت يدها إلى تحت الوسادة ومسكت بالسبحة. استحضرت الله ورسله وأولياءه الصالحين. دعواتها باللطف والرحمة اختفت بين أصوات الأمطار الذي اشتد تهاطلها في صراع محموم مع أصوات الرعد. المشهد أصبح ينبئ بالخطر. طلبت من عمّار أن يفيق وأن يتفقد المنزل. وأن يتثبت من بالوعة الماء. وقالت له بحسرة:
- أنت تعلم يا بني أن أكثر ما يربكني هي الأمطار. فالبيت قديم قدم الدهر وقد تحمّل ما يكفي.
- يَامّا،لا تهتمّي. ما يصير كان الخير.

شمّر عمار عن سرواله وتلحف بلحاف بال. وخرج إلى بهو المنزل. حبّات المطر تهاجم وجه بعنف وقسوة. تقدم غير مبال. ظلت بوكة تراقبه. انقطع الكهرباء. ظلام دامس لف المكان. لم تعد لترى شيئا. تضاعفت أصوات المطر والبرق. تناهى إلى مسمعها فجأة صرخة مدوية. لم تجد وقتا لتميّز ما يحدث عندما فاجأها سيل من الماء من كل الاتجاهات. لفها بجموحه. اختنقت. أحسّت بالدوار. إني أغرق. هكذا صاحت دون أن تحرك شفتيها. لكن يد امتدت إلى شعرها وانتشلتها إلى فوق السدّة، لم تتبين صوت ولديها وهما يصرخان : "يَامَّا..يَامَّا".

كان الماء المتدفق إلى الغرفة قد شكّل دوامة مائية تدور حول نفسها بسرعة وعنف مقتلعة كل ما يعترض سبيله.. أمي بوكة صحبة ابنيها تقاوم كي لا يدفع بهم الماء من فوق السدّة. الجميع يصيح يطلب النجدة. لكن لا من مجيب.
فجأة توقف المطر. صاحت بوكة:
- يا ربي أسْتر...

صرختها المدوية دفعت بابنيها للبكاء. حزت في نفسيهما حرقة أمهما على الحظ وحاجاتهم القليلة البالية التي طفت فوق الماء. كل هذه الفوضى لم تتطلب الكثير من الوقت. كأنه كابوس. أو هكذا تمنّى الجميع. التفتت بوكة إلى الخلف باتجاه ابنيها وتفقدت أعزاءها لكنها لم تتبين عمار بينهم. فتساءلت إذا ما كان مازال في الخارج. لم تنتظر من يجيبها وصاحت. لكن صوتها المبحوح عاد مع الصدى. صيحتها الثانية كانت أقوى. لم يردّ أحد. صاح الجميع معا:
- يا عمار.. يا عمار؟

لم يجب أحد. في نفس الوقت بدت أصوات تتعالى من جميع أنحاء الحي. لقد فوجئ الجميع بسيول الماء التي دفع بها وادي "الدخلة" إلى منازلهم. نزلت بوكة ومن خلفها أبناءها من فوق السدّة. اتجهوا إلى البهو. صدمة انتابتهم لما لاحظوا أن الجدار المطل على الشارع هّشم بالكامل. بحثوا عن عمّار. اختفى عن الأنظار كما تختفي نجوم الليل في أول الفجر. صاحوا وتفقدوا كل المكان الذي عمّته الفوضى جراء السيول المائية التي لم تترك شيئا سوى أطنان من الطين. أضحى المشهد أكثر مأساويا.

"يا للكارثة". هكذا ردّد الجميع وانتحب من هول المصيبة.

لم يتمكن أحد من أن يجد عمّار. تأكد الجميع بأن السيول قد جرفته ما عدا أمي بوكة. ظلت تردد أن ابنها قد تاه. ظنوا أن بوكة قد اختل عقلها. لكنهم فوجئوا بكلامها الصَّلد لمّا وُجدت جثة عمّار مجرّدة من كل ما يمكن أن يدفئ جسده النحيل في آخر الوادي على بعد كيلومترات من حضنها:
- "لماذا هو دون غيره؟... لماذا أنا دون غيري؟... أيّ عدالة إلهية هذه؟"

وأضافت بعد أن بحّ صوتها وضاع بين الحشود:
- "نم يا حبيبي فلن أطيل السفر من بعدك فلقد تعبت وانكسرت".

هوامش

[1آلة نسيج تقليدية.

[2نوع من النسيج التقليدي.

[3نوع من النسيج التقليدي.

[4نوع من النسيج التقليدي.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني