الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > رهانات الصّورة: معارك بالصّورة، من أجل الصّورة!
أضْـــوَاء وظِــــلاَل*:
رهانات الصّورة:
معارك بالصّورة، من أجل الصّورة!
8 تشرين الأول (أكتوبر) 2010

بقلـم: رضــــا البــركــــــاتي
ridhabarkati@gmail.com

وعى العالم بأهميّة السينما منذ ظهوره، في نهاية القرن التاسع عشر. وسريعا ما اعْتُبِرَتْ "فنّ أجيال القرن العشرين " [1].

لم تنفكَّ السينما، خاصة والصورة عامة، تتطوّر باطّراد على مستوى تقنيات الصناعة (من السينما الصامتة إلى الناطقة؛ من صورة الأسود والأبيض إلى صورة الألوان؛... وفي الأثناء ركِبَتْ الأفلام أثير البثّ التلفزي، ثمّ أقراص الليزر... وصولا إلى السينما الثلاثية الأبعاد).

وتوغلت الصورة في مجاهل التعبير الفنّي فسلّطت الأضواء على دروب وأنارت مناطق واستنبطت لغة وضعت لها الكاميرا كتابةً.. "حبرُها الضّوء" [2].

وبصفة موازية لذلك كان الانتشار من المدن نحو الأرياف، ومن البلدان المتقدمة نحو مستعمراتها، ومن أثرياء البشر نحو جماهير الفقر، حتّى عمّتْ ودخلت كلّ بيت في المعمورة ولازمت كلّ فرد من بني آدم... وأصبحت من لوازم الحياة المعاصرة للجميع.

البناء والتشييـــــــد

في الستينات، كانت الدولة تبني المشتشفيات وشعارها "على كلّ ربوة مدرسة". وبعثت البنوك العمومية لدعم وتطوير مسيرة الإنماء. فأنشأت في كلّ مجال مؤسسة للتعمير والإنشاء، كمصانع النسيج لتوفير الكساء ومعامل الاسمنت، بكلّ جهة، للتشييد والبناء، والصيدلية المركزية لإنتاج وتوزيع الدواء، وشركة وطنية للغاز والكهرباء، وأخرى لتوفير وتوزيع الماء. بباجة معمل للسكر، وبالقصرين مصنع الحلفاء. ومصانع للثلاجات والبوتاغاز لرفاهة النساء، وفتحت المغازة العامة أبوابها في جلّ الأحياء. وقامت دار الأثير لتركيب تلفزات "قرطاج" واسطوانات الغناء...
وكانت مؤسسة "الساتباك" للإنتاج والتوزيع والاستغلال في مجال السينما.

كان زمان سعى فيه كل بلد إلى أن تكون له سينــما. وكان الحديث يدور عن السينماءات الجديدة، الشابة، الصاعدة، وتسمّى باسم بلدانها: السينما التونسية والسينما الجزائرية والسينما المالية والسينما المكسيكية والشيلية...

فالسلطة تعي أهمية الصورة وتعلم علم اليقين أنّ السينما فنّ جماهيري ووسيلة اتصال جماهيري ويجب أن تكون بيد السلطة لأنّها.. سلطة، أو هي وسيلة لممارسة السلطة على الجماهير. لذلك بعثت "الساتباك" شركة احتكارية تضع قطاع السينما بين يدي الدولة، من مصنع قمرت إلى قاعات العرض بنهج ابن خلدون الثقافي ...
كانت دولة بناء وتشييد لا هَدْمٍ وتبْديد.

الطوفــــــــــان:
رأس المال يصوغ عالما على صورته [3].

ومنذ بداية الثمانينات، لمّا بدأت الحرب الباردة تضع أوزارها، وبوادر انحلال الاتحاد السوفياتي تظهر، والتجربة الاشتراكية في أوروبا الشرقية تصل إلى نهايتها، لم يكن ذلك انتصارا للعالم الأوّل، الرأسمالي، على العالم الثاني، الاشتراكي، فحسب، بل كان أيضا، وبالتأكيد، انتصارا للرأسمالية الاستعمارية على العالم الثالث، منطقة المستعمرات القديمة-الجديدة. بعبارة أخرى كان انتصارا لاقتصاد السوق ونكسة للإنسانية.

لقد كانت نتائجها على الجميع، عامة، وفي كلّ مجال، شاملة.

وانتهت بذلك تجارب رائدة في الإبداع السينمائي أزهرت منذ بداية القرن بفضل مدّ الحركات الديمقراطية والاجتماعية والوطنية والاشتراكية والثورية: - سينما الواقعية الاشتراكية والعصر الذهبي في السينما السوفيتية. – الواقعية الجديدة بإيطاليا – سينما الموجة الجديدة بفرنسا – سينماءات حركات التحرر الوطني مثل السينما الفلسطينية والفيتنامية – والسينماءات الوطنية هنا وهناك...

هل يختلف اثنان في أنّ روائع السينما العربية قد أنتجت، قبل الثمانينات، في إطار القطاع العام، في مصر وتونس والجزائر وسوريا وفلسطين و.. إيطاليا وفرنسا وألمانيا أيضا!...؟
إنّه الطوفان. رأس المال يجرف كلّ شيء ويصوغ عالما على صورته.

"العزوزة هازها الواد وهي تقول العام صابة"

في بلادنا، ومع مطلع الثمانينات، بدأ الحديث عن رفع الاحتكار على الساتباك.

ماذا يعني هذا؟

هذا يعني، مثلا، أنّ كلّ مخرج أي سينمائي أي فنان يمكنه أن يكون منتجا، أي صاحب شركة للإنتاج السينمائي وكلّ التسهيلات القانونية متوفرة لبعث هذه الشركة في لمح البصر. وكل التسهيلات المادية والفنية والمنح متوفرة لتصوير وتحميض الأفلام وإنتاجها...وتمّ ذلك بسهولة وسرعة.

فكانت الفوضى.

منها مثلا أنّ عدد هذه الفقاقيع قارب، في نهاية القرن، عدد المخرجِين أيْ عدد الأفلام المُنْتَجَة-المُخْرَجَة... وقد تساءل أيّامها بعض محبي السينما عن المخرجين السينمائيين الذين ليست لهم شركة إنتاج، عدا النوري بوزيد. لم يتأكد الجماعة من وجود غيره.

لماذا تخلّتْ الدولة عن السينما بكل سهولة؟

لعلّ ذلك يعود مباشرة إلى انتشار التلفزة ودخولها جلّ البيوت التونسية فأصبحت وسيلة السلطة المفضّلة والأولى للاتصال الجماهيري. وتوقّف العمل بتلك النشرات الإخبارية، التي تعرض في قاعات السينما قبل بثّ الشريط، والتي تغطي أهمّ أنشطة الدولة وأهمّ الأحداث على المستوى الوطني والدولي والمعروفة لدى الأجيال التي واكبتها في الستينات تحت عنوانها الشهير في النشرة الفرنسية:
«la tunisie en marche ».

أضف إلى ذلك أنّ التلفزة التي كانت تصوّر كلّ ما تبثّ يوميا بعيار 16 مم وكانت كلّ تسجيلاتها تحمّض بمصنع "الساتباك"، قد تَخَلَّتْ عن هذا الخيار التقني وانتقلتْ إلى العمل بمنظومة الفيديو المستحدثة وهي أقلّ كلفة وأسرع في الإنجاز وأسهل في المعالجة للصوت والصورة.

ولكن، ومع ذلك، يندرج تخلّي القطاع العام عن مجال السينما من الخطوات الأولى للعولمة التي بَدأتْ بالغزو الجديد بدءا بالثقافي. لقد تَبِعَ تفكيك "الساتباك" وخصخصتها التفريط في مصانع النسيج والإسمنت والرفاهة والأطلس... والمغازة العامة... والنقل البري والجوي والحديدي والكهرباء وأخيرا الماء... والاتصال و"الهواتف" والراديوهات والتلفزات... وصولا إلى البنوك.

كيف تفرّط الدولة بكلّ هذه السهولة في ثروتها وممتلكاتها؟

ولا يتورّع بعضهم على اعتبار ذلك إصلاحا و"إعادة هيكلة" ومن بوادر التقدّم والرقي ومسايرة ركب الأمم المتحضّرة.!

معركة مُــرّة،
والصّورة للتحرير والتنوير.

هو مدّ رهيب وموجة عاتية ومعركة مُرّة.

ولكنّ نظرية "نهاية التاريخ" [4] لخادم العولمة الأمين "فوكوياما" [5] قد أفلستْ وسفّهتْها الأحداث. ففي عديد الأنحاء بالعالم، سجلّت الحركات الاجتماعية والمهنية والديمقراطية والتقدمية والعمّالية والاشتراكية عودة لساحة النضال والصراع من أجل الدفاع عن الحقوق المكتسبة التي يقع السطو عليها يوميا، ومن أجل افتكاك حقوق جديدة على درب الانعتاق الاجتماعي والتحرر الوطني والرقي الإنساني [6].

والسلاح الأوّل في هذه المعارك لن يكون من الحديد والنار بل من الثقافة والنور. ومَكْمَنُ القوّة الآن في المنطق وليس في الذراع. وساحة الصّراع الشاشات، والكاميرا باليد مكان الرشّاش، والأضواء والظلال عوض النار والدخان، والمبادئ الإنسانية النبيلة والخالدة بديلا عن ثقافة الكذب والمخادعة والنفاق ودستور الحرية والحقوق والعدالة بديلا عن قوانين السّوق وجشع الربح.

لتحرير الإنسان المعركة الثقافية هي الأولى والأساس.

والصّورة اليوم محلّ رهان ومجال عراك وصراع بين التوظيف الغرائزي، التعتيمي، التخديري لــتشكيل قطيع مُطيع، من تلك الناحية، ومن هذه الناحية، للدعوة من أجل استعمال الصّورة بغاية التوعية والتثقيف والتربية... قصْدَ تحرير وتنوير [7] أجيال من النساء والرجال.

نشر هذا المقال في جريدة "الشعب"، الجمعة 8 أكتوبر 2010، تحت عنوان: "رهانات الصورة... "

ملاحظة

(*) هذه نافدة نفتَحُها على أعمدة "الشعب" نُطِلُّ من خلالها، أسبوعيا، على عالم الصّورة والسّينما وبها نحاول بعثرة أوراق الملفات المُهمَلة والمُأرشَفة والمُعتّمة والمغلقة والمزيّفة والمطلسمة والمقدّسة والمدنّسة... في مجالات الإبداع (الفنّ) والإنتاج (الصناعة) والفرجة (التجارة)... عسى أنْ نساهم في إعادة ترتيب أوراق سابع الفنون في حياتنا... هو عالم مادته أضواء وظلال ولغته أضواء وظلال ومعانيه من أضواء وظلال وقضاياه بين الأضواء والظلال... ونوافده فُتْحة بين الضوء والظلِّ.!

هوامش

[1"السينما فنّ أجيال القرن العشرين"، العبارة للنين،

[2"السينما كتابة حديثة حبرها الضوء"، العبارة لجون كوكتو.

[3"الرأسمالية تصوغ عالما على صورتها"، هذه العبارة لماركس ووردت في البيان الشيوعي.

[4"نهاية التاريخ"، يقول فرانسيس فوكوياما في نظريته "نهاية التاريخ": "إن ما نشهده الآن ليس نهاية للحرب الباردة (...) وإنما نهاية للتاريخ ، بوضع حد للأفكار الإيديولوجية في التاريخ الإنساني وانتشار قيم الليبرالية... " دون تعليق !!!

[5"فوكوياما"،يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما، كاتب ومفكر أمريكي من أصول يابانية ولد في مدينة شيكاغو الأمريكية عام 1952. يعد من أهم مفكري المحافظين الجدد. من كتبه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير).

[6انظر المدّ الشعبي والديمقراطي والتقدّمي في بلاد أمريكا اللاتينية حيث يقع الإطاحة بالدكتاتوريات تباعا فتتهاوى كنمور الورق. وانظر).تقدّم التعددية في الحياة السياسية واحترام الحريات العامة وحقوق الإنسان في عديد بلاد إفريقيا وكانت بالأمس القريب "جمهوريات موزية"، « républiques bananières ».

[7"التحرير والتنوير" العبارة للمصلح محمد الفاضل بن عاشور وهي عنوان لمؤلفه الشهير.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني