الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > قراءة في"ثلاثون" شريط الفاضل الجزيري!
قراءة في"ثلاثون" شريط الفاضل الجزيري!
ميلاد شعب
14 كانون الثاني (يناير) 2009

بقلم رضا البركاتي

لا يزال "ثلاثون" محور الاهتمام ويشدّ الأنظار إليه ويثير النقاشات والتعليقات في دوائر تتسع وتزداد كلّ يوم أكثر في صفوف الشباب خاصة وذلك منذ أن خرج من المخابر ونزل إلى الساحة الثقافية في اختتام الدورة الأخيرة لأيّام قرطاج السينمائية، لمّا رنّت "ثلاثون" على المسامع والكلّ يتساءلون عن الفعل العظيم الذي هم فيه مختلفون... هل هو فعل مسرحي؟ أهو عمل سينمائي؟ وثائقي أم روائي؟ هل هو فلم تاريخي؟ يعرض الليلة؟ في هذه القاعة أم تلك؟ أسئلة تردّدت في شارع الثقافة.

والآن تأكّد أنّ "ثلاثون" هو الحدث الثقافي لهذا الموسم بلا منازع. وحتّى مهرجان أيّام قرطاج السينمائية العريق في حمّى اختتامه لم يستطع أن يحجب عنه الأضواء أو أن يستقطب دونه اهتمام محبّي السينما والمثقفين عموما، رغم أنّ ذلك قد يعود في نسبة هامة إلى الهنات التي شهدها المهرجان و... ولكن لتقييم المهرجان مجال خاص ومناسبات أخرى، علما وأن كل نقد واع ومسؤول لا يمكن إلاّ أن يرمي إلى الدفاع عن أيام قرطاج السينمائية كمكسب هام وإلى رفض الرأي القائل بالتخلي عنها بل ندعو إلى تدعيمها وتطويرها خدمة للسينما التونسية وللحركة الثقافية عموما.

"ثلاثون" هو شريط الفاضل الجزيري عن الثلاثينات من القرن الماضي تلك الفترة الخصبة التي يعلم الجميع [1] أنّها شهدت نهضة لا مثيل لها في كلّ المجلات وأنّ تونس اليوم بكلّ ما يحلو فيها، بكلّ إيجابياتها، بأركانها ودعائمها هي نتاج تلك النهضة المبكّرة وثمرة نضالات الرواد الأوّل. أمّا ما قد يتبادر لك في الذهن من نقائص وسلبيات وتراجعات ومراجعات وارتداد فإنّما مرجع كلّ ذلك لنا نحن بالأساس وليس لأجيال الثلاثينات بذلك مساس.

في الثلاثينات كانت التعبيرات الأولى لأوّل تحوّل مجتمعي رهيب في تاريخ الشعب التونسي، بل هي شهادة ميلاد هذا الشعب.

والبداية كانت مع بوادر تبلور الوعي الطبقي للطبقة العاملة التي ظهرت حديثا- مع التدخل الرأسمالي في اقتصاد البلاد- ودخول هذه القوّة الاجتماعية الجديدة طور التنظم النقابي المستقل ببعث جامعة عموم العملة التونسيين (1924 – 1925).

وكذلك الحراك السياسي في صفوف النخب وتجسد ذلك خاصة في بعث الأحزاب: الحزب الاشتراكي ثمّ تأسيس الحزب الشيوعي التونسي (1924) على إثر تجربة الحلقات الشيوعية وتحوّل الحزب الحر الدستوري من حزب إصلاحي إلى حزب يسعى للاعتماد على الفئات الشعبية...

ولم يكن ذلك إلاّ نتاجا لحركية فكرية وثقافية ثرية وخصبة تبلورت حول حركة نشر نشيطة وعلى أعمدة عدد هام من الصحف التي ظهرت على الساحة.

حكاية الشريط معروفة والأبطال أعلام في رؤوسهم نار والأحداث التي جدّت لا تخفى على أحد:

كانت البلاد - بل الإيّالة- أيّامها، تحت سلطة تحالف ثلاثي مقدّس: المقيم العام والباي والمفتي.

وجدّت أحداث لعلّ أهمّها: تأسيس جامعة عموم العملة التونسية ومحاكمة محمد علي ورفاقه. الشابي وحلمه بتفجير اللغة وتحرير الخيال. والحداد ، يساهم في انبعاث الجامعة، يضع كتاب "العمال التونسيون"، يواكب الحراك الإعلامي والثقافي والاجتماعي والسياسي، ومعركة "الجلاز"... ويضع كتابه الثاني: امرأتنا في الشريعة والمجتمع.

ولكنّ المهمّ كيف قدّم الفاضل ذلك؟

عندما تشاهد فلما فنّيا.. ترفع رأسك
وعندما تتفرّج على التلفزة تطأطئ رأسك.!

أهو فلم تاريخي بالمنحى التعليمي؟ أي هل المقصد تعليم المتفرجين تاريخهم بوسيلة السينما؟ لا نظنّ أنّ الفاضل سينزع هذا المنزع، لأنّه بكلّ بساطة فنّان ذو رأي وموقف وليس لمن كان في مثل طينته أن يفكّر في تقديم "درس" للجمهور.

"ثلاثون" فلم عن مرحلة تاريخية. وليس فلما تاريخيا كما تصوّره البعض [2]. إذا كيف رأى المخرج الثلاثينات؟ وبأيّ فنيات وأساليب قدّمها؟

ها هو "ثلاثون"، الرقم السحري، عنوان القضية، القضية التونسية، يتجلّى على الشاشة العذراء ببيانه، بنوره وألوانه فيرسم فجر اليقظة، نداء النهضة، ويحيي ميلاد شعب.

لذلك لا يمكن أن يمرّ دون أن يثير جدلا حول القضايا التي يطرحها وحول كيفية صوغها.

لعلّ إحدى أهمّ مزايا "ثلاثون" أنّه مثير للنقاش، للجدل، للبحث، للتفكير في قضايا الإنسان والمجتمع والهوية والتاريخ والسياسة والفكر واللغة والفنّ والأدب والصحافة... وبالتأكيد أيضا في أدوات التعبير السينمائي، في الصورة ومكوناتها، والإنارة وأضوائها، واللوحات وحكاياتها، والمشاهد وتركيباتها والسيناريو وحبكته والراوي ووظائفه... عن كل هذا وما زاد عنه وتفرع منه، يثير "ثلاثون" النقاش والجدل والبحث والتدبّر والتفكير.

واكبت الصحافة [3] شريط ثلاثون بنشر مقالات هنا وهناك... ولكن هل كان ذلك بمستوى الحدث؟

أمام شريط شدّ الانتباه ولقي رواجا يسارع عشّاق الفنّ السّابع عادة إلى تصنيفه وإدراجه في خانة الأفلام التجارية أو الثقافية أو أفلام تجربة وفنّ أو.. صنف الفلم الحدث. وذلك كردّة فعل أولى أي قبل الشروع في قراءته وتحليله وتفكيكه أو، بأقلّ جهد، الاكتفاء بـ"التقطيع والترييش" أو ربّما تجاوزه فحسب...

وضمن هذه الشريحة من المثقفين، شريحة عشّاق السينما، ثمّة مجموعة مارست، منذ عقود خلت، عشقها لسابع الفنون في المدرسة الأولى: جامعة نوادي السينما. جيل السبعينات والثمانينات، ذلك الجيل الذي لا يتخلف عن أيّ حفل ثقافي، وأمام شريط من عيار "ثلاثون" تُطلق الصيحة جماعيا: هذا فلم لنوادي السينما بامتياز.

لأنّه فلم يحلو الحديث عنه ولا يدعك تتلذذ في كسل بليد وفي طمأنينة وهمية لحظات من حياتك المزوّرة ومن عيشك المفتعل السفيه وأنت في غربة عن زمانك تتعلق وهما بعصور مختلقة، مصطنعة تعشّش فيك بصور حمّضت بمخابر البخور الشرقي أو بعنابر الماخور الغربي، وفي الغالب هي صور من كلا المخبرين تتعايش فيك في وئام لأنّ الجوهر واحد رغم اللعب على ثنائيات الطهر والعهر والمدنّس والمقدّس والدنيا والآخرة من هنا... أو الجمال والقبح والنور والظلام والحياة والموت من هناك... هي صور، في كلتا الحالتين، تعتّم العقل وتحرّك الغرائز فتغيّب الإنساني وتستحكم في البهيمي.

وهذه الصور شلاّل أعتى من كلّ الأقدار نازل من السماء، سماء الأقمار، أقمار صناعية سخّرت لها تسخيرا... هي صور من برمجة آلهة جدد، عدوّة للحياة سالبة لإرادة الشعوب.

"ثلاثون": صور التقطت بعيون فنّ تونسية من زاوية نظر صدق وواقعية وحمّضت بمخابز عراك الخبز اليومي في الشأن العام الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفكري والسياسي.

فكر ساكن في فنّ أو فنّ مشبع بالفكر!.

بعد الفرجة الأولى خرجت من القاعة مثقلا، مسكونا، محمّلا بأوزار... وفي فمي طعم لذيذ بل خلفية طعم لروح مرّ كريح مخلفا أريجَ طِيبٍ... هي النشوة، نشوة الفنّ كنشوة المعرفة كنشوة تخلّفها الخمرة الجيّدة فلا تشعر بعدها بحاجة لثمر ولا نقل ولا بقل تمسح به بقايا طعم كالح لخمرة رديئة...

كنت رفقة رفيق من قدماء المجاهدين في الساحة الثقافية... استلّني من دهشتي واستفزّني بسؤاله عن رأيي في الشريط. فانتفضت ورفضت. وقلت: "ليس الآن" قال: "لماذا؟" قلت: "الآن صمت ومتعة وغدا حديث ونقاش" فضحك وقال: "فليكن: اليوم خمر وغدا أمر."

وفي غد من الغدوات الموالية وصلتني دعوة لحضور عرض خاص لـ"ثلاثون"، تنظّمه جريدة "الشعب"، يوم 5 ديسمبر، بمناسبة إحياء ذكرى اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشّاد.

وها هي الفرجة الثانية وقد زالت عنّي الدهشة وطارت السّكرة.

حلّ الغد ووجب الأمر.

لمّا انفتح أمامنا باب القاعة ودخلناها وجدنا "مْدينة" كما يقول الأجداد: "حلِّ المخزن تلقى مْدينة". "لِمدينة" مدينة تونس، الحاضرة في الثلاثينات، حاضرتنا.

فدخلناها بسلام آمنين.

سيِّدة المقام حَاضنة الأولاد.

رُفِعَ الستار.

صور. صور للمدينة، لتونس الحاضرة. صور الحاضرة لا باعتبارها مسرح الأحداث وإطارها بل لأنّ الحكاية حكايتها، والأبطال أبناؤها. وهذا الفلم يصور مرحلة من أهمّ مراحل تاريخها الحديث: مرحلة المخاض.

هذه الأنهج والأزقة مسالكك اليومية وهي التي لم يبق منها إلاّ هيكل وقباب. وهذا الفاضل يعيد صياغتها، يبعثها من طيّ الزمن والأيّام فيبعث فيها الحياة بحزم من نور تنسج المشهد كما تنسج القيروانية سجادا من حرير. الباب... والقبة... والسقيفة... والنوافذ... والكوى... الفضاءات الداخلية... والدروب بين الربضين... ظلال وأضواء. صور من نسج شعاع أمل المسروقي [4] المسروق عبثا من الأقدار. الأمل المسروق من المسروقي خطفا من الدهر الغدار. لوحات نعم هي سجاجيد موشاة بأنامل قيروانية.

بعث. إعادة ابتكار.

بل هي أبهى من ذلك. لأنّك تُبْعَثُ معها من جديد. هذه الصور هي ذاتك، هويتك، منك، وإليك.

ترى الدور والأنهج حيّة بالناس يسعون. والمشاغل وبها العمال يكدّون ...

والجامع الأعظم بما يعتمل فيه من شؤون الدنيا والدين وما يشقّه من صراع بين الفكر والتكفير...

والمطابع تتأرجح بين تأمين الربح وخوض الحرب... مع سوق الحبر أو مع أشرعة البحر...

والرشدية توقّع الطرب الجديد على إيقاع العصر وتخرج بالنغم من المقاصير وتأتيك بشادي الألحان مستجيبا للذائقة الجديدة، ملبيا لما يطلب سماعه المستمعون.

ومقرّ الخلدونية يخلع جدرانه لكي يجنّح خيال الشاعر في الآفاق البعيدة ويستفزّ الرياح والعواصف والأنواء ويخضع الأقدار لإرادة الحياة.

ومكاتب العدلية... والخيرية... ومقرات المنظمات... ومكاتب الأحزاب.... وقصر العدالة والمحاكمات... وإدارة الباي...

صور للمدينة في أيّامها، أيّام كانت المركز، وهي تنبض بناسها وتنهض بأولادها الذين فتحوا بوّاباتها السّبع لتعبّ من نسيم البحر ونسمة الجبل وتطرد الرطوبة التي عشّشت في قبابها... هذه المدينة تتجلّى وتزيدها بهاء لمسات استعراضية تلامسها العين بحنوّ في الملابس التي انتخبت بعناية فائقة فظهرت الجبائب البديعة مع مستلزماتها الأنيقة وتوّجت الشاشية الكلّ وهي التي كانت، لأسباب اقتصادية وثقافية وسياسية عنوان الهوية في مناسبات عدّة (مثل تمسك التلاميذ التونسيين بها في المدارس العصرية وتعرّضهم للعقوبات وللطرد أحيانا من الإدارة الفرنسية).

في موجة غضب، نزع الشابي شاشيته معلنا أنّه "يعرّي رأسه" ليخرج إلى الدنيا في هيئة جديدة... ويومَ همّ للعودة على عجلٍ إلى توزر لزيارة والده المريض... قدَّم له رفيقه شاشيته. !

إذا أخذ الشابي شاشية الحداد ليدخل بها على والده المريض. ولمّا وصل، كان فناء الدار غاصا بالنسوة، أجواء مأتم، أحسّ بهول الموقف، رأى المصاب يحلّ به. مرق بين النسوة متوتّرا بخطو منكسر وبعصبية نزع الشاشية وهو يلج الغرفة. لعلّه فهم أنّ رأسه "تعرّى".

أرأيت كيف كان للملابس ضلع في الموضوع؟ بل أساس في بناء الموقف؟ فهي في الديكور إن شئت ولكنّها أكثر من ذلك بكثير إذ هي في قلب الصراعات بين المحافظة وروح مواكبة العصر وفي نفس الوقت هي علامة احترام وشرط المثول في المقام...

للشاشية دلالات وعلامات شتّى، هي محلّ مفارقات. إنّه لمن الخطأ حصرها في خانة التقليد واعتبارها رمزا للمحافطة فحسب كما أنّ اعتبارها شرطا من شروط إثبات الهوية مجانبة للصواب.

هذا ما جاء في "ثلاثون".

هذا ما رأينا ولمن لم ير هذا ولا يريد أن يرى نقول:

في "ثلاثون"، "لمدينه" والكسوة والشاشية كسوة للحكاية، إن شئت، ولكنّها كسوة على المقاس.

فكيف تجرؤ بعض الأصوات الناشزة على الادّعاء بأن ذلك البهاء وتلك الهيبة والأناقة لم تكن إلاّ من قبيل "الصورة البريدية" [5]؟

السينما كتابة حديثة أبجديتها الصراع وحبرها الضوء.!

لقد ظهرت "لمدينه"، مثل الكسوة والشاشية، في السينما التونسية في عديد الأعمال وما كانت العين –عيني وعيون باصرة كثر- تطمئنّ لصور للمدينة منها أُخِذَتْ، التُقِطَتْ، خُطِفَتْ تَسجيلا، تخييلا، حكيا، تعبيرا عمّا هي الآن أو ما كانت عليه في سابق الزمان... كم هي عديدة الأعمال التي اعتنت بالمدينة وعنتها، وجعلت منها موضوع السرد السينمائي أو إطارا له أو مسرحا لأحداثه أو خلفية توشّي به المشاهد... ولكنّها نادرا ما أظهرتها على وجهها الحقيقي، الموضوعي، الحي باعتبار أنّ الفنّ الصادق ليس تصويرا سطحيا وتزويقا لمناظر وتلفيقا لمشاهد و بهرجة للموضوع بل إنّ الحقيقة الفنيّة تكمن في رصد نبض الظاهرة وإرهاصاتها وتبدّلاتها وتطوراتها والصراعات التي تعتمل فيها.

الصراع هو العمود الفقري لكلّ حكاية. بالصراع ينهض العمل الدرامي ودونه ينتفي لأنّ محلّ الصراع في البناء هو مسكن الروح.

في المدينة، هو الصراع بين القديم والحديث، بين المحافظة التجديد.

نعم، ثمّة حكاية ميلاد لا ككلّ ميلاد. إنّه ميلاد الجديد. الجديد الذي ينبعث من رحم القديم. على الشاشة أمامك حكاية المخاض وأوجاعه وصيحة الوليد ينشد النور يريد أن يخرج للحياة.

هو الصراع بين الظلام والنور، بين الوراء والأمام. هو الصراع الأبدي بين التقليد والتجديد، بين الاتباع والإبداع، بين النقل والعقل. تذكّر "نصائح" الشيخ بلخوجة بعد اطلاعه على مخطوط "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" للحدّاد وهما في الجامع –الزيتونة- ثمّ يسيران في الطريق العام حيث ينبض السوق حياة. التاجر يعلم الشيخ أنّ نصيبه من الفاكهة الجديدة جاهز والشيخ لا يرد بل يواصل خطابه الطويل الداعي لغلق أبواب المعرفة والتستّر على الحقيقة التي وإن منّ الله بها عليك فينبغي أن تحتفظ بها لنفسك وألاّ تنشرها للناس مخافة أن يلحقك منهم مكروه... هكذا الصراع يشقّ المدينة. كانت الكلمة للشيخ نفيا ورفضا، طولا وعرضا. وكان ردّ الحداد مختصرا، مصرّا، موجزا، قاطعا. فهمه الشيخ وعلّق: "قصدك تعدّدت الأسباب والموت واحد؟"

هو الصراع. الصراع محرّك. هو الريح النافخة على جذوة الحرية المتقدة أبدا في ضمير الشعب الحي.

لقد رأينا "لمدينه" في أواسط السبعينات في "رسائل من سجنان" لعبد اللطيف بن عمّار وهي مدينة 1952، مدينة إعلان المقاومة ضدّ المستعمر... فبدت بدورها وأزقّتها ومدارسها ومواطن العمل والعيش والنضال فيها تفوح برائحة الصدق... فالمكان والزمان والأحداث والشخصيات والحكاية ... كلّه في تناسب وانسجام. "في مَاهَا وِتْعُومْ"

وكذلك بداية شريط "عزيزة" لنفس المخرج –إنتاج 1980- والذي يصوّر أحوال تونس ما بعد قانون أفريل 1972. حيث ينفتح الشريط على مشهد قوّي ومعبّر للغاية: أثاث البيت يكدّس في النهج الضيّق والأدباش تنزل. هذه العائلة تغادر "لمدينة" إلى حيّ من الأحياء الجديدة... تحوّل مجتمعي. مرحلة جديدة.

أمّا في ما عدا ذلك فهي في الأغلب موضوع حنين لدور وقباب، وأزقة وأبواب، وظلال ونور، ومسجد وماخور، وحمام وقبور، وكتاب وبخور، وحرير وعطور... كلّ ذلك بدعوى الحقّ في الميراث وإحياء التراث... وهكذا صور، مهما اجتهد مهندسوها ومديروها وتقنيوها، لن تشعّ حياة ما دامت فاقدة للروح.

ذاك منزع جديد، ساد منذ الثمانينات، عاد للقديم ليتعامل معه تعاملا متحفيا ويوظّفه خدمة لغايات هي إلى الموضة أقرب وإلى الاستهلاك الفرجوي أنسب.

ها هي "لمدينه" في "ثلاثون" تبعث من جديد حيّة شاهدة.

لا غربة، لا عجائبية. لا عجب، لا غرائبية.

صور. هي للحاضرة سيّدة المقام، حاضنة الأولاد.

الثالـوث

هذا الفلم يقدّم ملحمة أبطال معاصرين يتحدّون الأقدار ويفتحون فجوات ويحدثون شروخا في أسوار السجون التي شيّدتها الآلهة والملوك والاستعمار.

تتتالى المشاهد. هذا محمّد علي والطاهر وبلقاسم ومعهم رفاق الدروب كالدوعاجي محفوفين بكلّ من رافقهم وشاركهم في حمل القضية. وهؤلاء من ناصبوهم العداء ووقفوا في وجوههم واصطفوا في صف الأعداء... قائمة الشخصيات طويلة وطويلة جدّا ولا يمكن حصرها إلا بالعودة إلى ملفات الشريط والقائمات التي لدى "السكريبت"...

لقد كانت المشاهد غالبا عامة أي في إطار الصورة ترى أكثر من شخصية. فالحركة جماعية. والقضية مشتركة... والبطل، في هذا الشريط، ليس واحدا ولا يمكن أن يكون واحدا. إنّما في كلّ مجال ثمّة متقدّم، متزعّم، قائد، رائد.

محمّد علي رافع راية العمّال.

بلقاسم يطلق جناح الخيال ويفتق اللسان ويحرر اللغة من قيود اللغو وينشئ كلما مشبعا بنور "الحقّ والجمال والحرية" [6].

والطاهر يفكّ أغلال المرأة وينزع عنها برقع النفاق وشعار الدونية ويدعوها للخروج، من الصدف، درّة بإرادة حرّة وذات مستقلة وحقوق الند للندّ ووضع اليد في اليد لإشاعة فرحة اليوم وبناء الغد.

قد تَذْكُرُ أنّك رأيت الشابي أو الحداد يستقلُّ بحقل الصورة للحظات، أتذْكُر مثلا جلوسه إلى مكتبه الصغير وعليه كتب وأمامه أوراق؟ لعلّ موضوع صورة كهذه هو إبداع النصّ الذي ينشأ من بين الأصابع فيكشف عن وجدان الشاعر أو عن مهجة المجتمع التي يعبّر عنها المفكّر.

كانت الشاشة في الأغلب عامرة بوجوه فاعلة، متفاعلة، منفعلة.

إذن الصورة مزدحمة بالشخصيات، حافلة بالوجوه وقد انتشرت مظاهر الاحتفالية في فضائها ذلك أنّ المخرج اختار أن يحتفل بالثلاثينات ويحتفي برجالاتها فسهر على أن تكون الصورة جميلة والمشهد بهيّا والحكاية رائقة والأولاد أبطالا، أما كانوا كذاك.؟ وهل ثمّة أروع منهم؟

عندما تسمع الحوار ويأتيك قول أحدهم: "بلقاسم" أو "محمّد علي" أو "الطاهر"، هكذا اسم بلا لقب، في الحين تزول الحواجز التي بينك وبينهم وتمّحي المسافات التي تفصلك عنهم، وإذا بيد خفيّة تلقي بك بينهم، وإذا بك معهم بل منهم...

جزئية من جزئيات عديدة بسيطة تنضاف إلى المجهودات الكبيرة المنجزة بحرفية عالية وخبرة وليدة دربة طويلة وشاقة في شتّى فنيّات الإخراج السينمائي وما جاورها وصاهرها وانصهر فيها من تقنيات الفنون الركحية.

تنفتح الحكاية على ملحمة محمد علي يغزل القول ويعرّي البؤس ويؤاخي السواعد ويوحّد الطريق ويؤسس. يخطب فيشحن أصحاب القضية ويكشف الأعداء والمنافقين.

والطاهر ما أن أتمّ وضع كتابه الذي به يؤرخ لظهور الطبقة العاملة وبدايات وعيها بذاتها وأوّل تجربة لها في التنظم المستقل حتى فتح الملف الخطير: ملف المرأة.

وبلقاسم... هذا الشّاب اليافع، الحالم كالرومنسي، المقبل على الحياة كما يقبل الطفل على تفاحته يعضّ خدّها النّقيّ ويتلذّذ طعمها الشهيّ...

بسرعة غاب محمّد علي، هُجِّرَ، نُفِيَ... وينظمّ إليهما، في الحكاية، علي، علي الدوعاجي ذاك الزاهي أبدا الذي أخذ الحياة التي خَبِرَ مأخذ اللاّهي حينا والماجن حينا، ولكن خلف هزلِه المنشورِ تصريحا ثمّة جٍدُّه المكنوزُ تلميحا.

يجمعهم الفاضل في مشهد خارجي مفتوح، في "نزهة رائقة" [7] "في شاطئ .. " [8] من شواطئ ضواحي الحاضرة.

في الصورة ثلاثتهم. وفي الصورة الماء والسماء، الأزرق والزرقاء، وما بينهما يومض خطّ الأفق تحت وهج الشمس الحامية، وعلى بساط الرمل فراش وطيّ ومجلس بهيّ وسمك مشويّ وخبز طريّ وأكل شهيّ و.. عنب رفرافي [9]...

في الصورة الماء والسماء. في الصورة ثلاثتهم. على الرمل ثلاثتهم: الصدر عار والسراويل بيضاء. زهو ولهو. عوم وطرب. عبث ولعب. أكل وشرب. وغناء.

إنّه نشيد الحياة.

هؤلاء المتخرجون من الجامع الأعظم قرؤوا الآيات باجتهاد اليسر وما راموا قراءة العسر. تعلّموا في مدارس تعرف طفلا من ذاك النهج يسمّى عبد الرحمان ويكنّى ابن خلدون. وفتّحوا أعينهم في متون هي منابع في شتى مجالات المعرفة فوجدوا أعلاما صارت منارات تهدي القلوب التائهة، الحيرى، الضائعة في مهبّ الرياح. متون متينة وهل ثمّة أوثق عروة من ابن رشد بفكره الرشيد وابن خلدون في وضع علم التاريخ وإرساء أسس العمران البشري والمعري في إمامة العقل والتوحيدي إمتاعا ومؤانسة وابن المقفع في أخلاق الساسة والعامة... حتّى لا نذكر من الأعلام إلاّ ما وقع تداوله في برامج الدراسة وصار علما في رأسه نار.

وعند باب المدينة الأوّل، باب البحر، استمعوا لنشيد الحرية الجديد الموقع على رياح المدنية الجديدة.

فكيف بالحياة لا يحتفلون ؟

وما بين المدينة والبحر طريق، هو باب البحر. وفي باب البحر تعشّش العصافير في كلّ ربيع.

إنّها عصافير باب البحر.

عصفـور

من رحم المدينة، من زحمة أزقتها، من صلب ناسها. من أوجاعها، طلع علينا عصفور. نراه في قلب الحدث، حاضرا، شاهدا، مراقبا، مصاحبا. يتنقّل بين طيّات السرد بخفّة رشيقة و.. القدم حافية...

الطفل تجاوز طفولته دون أن يتفطن. مات الوالد منذ سنتين "وها أنا أشتغل بالمطبعة لإعالة أمّي وإخوتي". يعمل. يعيش في دائرة الكبار، وأيّ كبار؟

هو الطفل المسؤول. الطفل الكهل. الطفل العامل. صار كبيرا لأنّه يحمل همّا، بأريحية، ويهتمّ بالهموم العامة أيضا.

عصفور خيط من الخيوط التي تنسج الحكايا حياكة حبكا في حكاية كبرى هي سيرة شعب نهض ليبدأ مسيرته.

هو في الداخل، في المطبعة وفي الخارج: في الشارع، في الساحة، في البطحاء... في كلّ مناسبة. وهو يدخن مع صديقه هشام، أمام قاعة اجتماع احتدّ فيه النقاش، يقول: "هاي كلات بعضها هيا نرجعو."

الخبر يأتينا على لسان عصفور الذي ينشره. يطوف بالخبر على المنازل يدعو رفاقه الأطفال للتظاهر غدا، للمواجهة في مقبرة "الجلاّز" فيعلمنا: "بورقيبة دبّر فتوى من عند مفتي بنزرت ؤُ مفتي صفاقس"

هكذا الأطفال في كلّ الثورات: عصافير الحرية.

اليوم في فلسطين: أطفال الحجارة.

بالأمس في الثورة الفرنسية: قافروش. [10]

C’est la faute à Voltaire si je tombe par terre.
C’est la faute à Rousseau si je tombe à l’eau.

وكذلك الشأن بالنسبة لأطفال تونس في كلّ المواعيد، في "ثلاثون"، وبالأمس القريب أيضا في انتفاضة الخبز مثلا.

وفي الخضمّ يأتي المشهد: مشهد المواجهة. ثمّة معسكران: الأوّل على ربوة المقبرة. النسوة ثابتات على الأرض، منغرسات في التراب، متمسكات بحقّ الدفاع عن.. قبور موتاهنّ. نعم هكذا.

وأمامهنّ الرجال والأطفال. هم هنا لحماية المقبرة من دنس التجنيس.

النسوة رابضات على الربوة والرجال والأطفال واقفون والقبضة عالية يرددون:

"لا. لا للتجنيس. توانسة موش فرنسيس."

والمعسكر الثاني: عسكر وأزلام وقوّادون يتقدّمون بخطى الجيش الزاحف والبنادق على الأكتاف مرتكزة، وفوهاتها مصوّبة، والأصابع الباردة، برودة الموت، على الزناد...

ولعلع الرصاص. وتساقطت الأجساد وطارت المهج على أجنحة التحدّي تسخر من قوّة النار وترفرف الأرواح فراشات نور. هذا الموت يزعق ويصعق. غاب الصوت. واختلط في الصورة غبار الأرض بدخان البنادق بضباب السماء. وخبا الضوء فساد الصورة غبش.

يسقط عصفور فيسود الصمت.

توقف الزمن. الطاهر ينحني على عصفور. الطفل هشام يرفع رأس عصفور. وتمرّ الصور منكسرة في بطء متعمّد مقصود. تجزئ الحدث الرهيب. تعود إلى مشهد التصادم بين نور الحق ونار الباطل. التركيب يقطّع الزمن الغادر. لكأنّ الكامرا تقوم بتشريح اللحظات القصوى. مشهد المواجهة. وجها لوجه. لحظة العناد حتّى الموت. مشهد رائع. قمّة في التعبير. تركيب مؤثّر معبّر يذكّرك لقوّته بمشهد مدارج أوديسا [11] في شريط المدرعة بوتمكين [12] لإزانسشتاين [13].

سلطان المديـنة

انهار الحداد لمّا بلغه نعي محمّد عليّ، أغمي عليه وهو في الصبّاغين...

ولما كان بالرشيدية يحضر حفلا موسيقيا متميزا، كان قد دعي له، بلغه نعي بلقاسم. صرخ صرخة تمزّق أحشاء الوجود.

وهذه عصفور تخطفه يد الغدر من بين يديه.

وتتتالى المناورات وتحاك المؤامرات وتُحْكَمُ دائرة العداء المقيت حوله. يمنع من الإفتاء. تسحب منه شهائده. يطرد من العمل. يُكَفّرُ. يعتدى عليه بالعنف...

"راس الهمّ سيدي الطاهر"

وتسوء حال الطاهر الحداد فيمضي لزيارة "سيدي عمر الفيّاش"، الابن الآخر للمدينة، لقد بلغه أنّه مريض.

يدخل الحداد بخطى ثقيلة، تعبة، يجتاز البهو الخارجي وهو عبارة عن قاعة كبرى، ملأى بالنساء المنتظرات... يجتازهنّ وراء خادم المقام الذي ينط كالقرد وفي ذلك أكثر من دلالة...

يدخل الحداد غرفة فسيحة وبها سلسة تشدّ "سيدي عمر الفياش" من رجله إلى الجدار الخلفي. ورغم ذلك يشاع أنّه شوهد بجهة قفصة وجهة كذا. وواجهة هذه الغرفة بها قضبان عوضا عن الجدار وتنفتح على فضاء ثالث حديقة داخلية بها شجرة كبيرة.

هنا يلتقي الرجلان: المفكر والمشعوذ، ابنا المدينة. إفرازان لمجتمع واحد.

للمكان هندسة وتوزيع وله دلالات ويضمّ ثلاثة فضاءات: بهو الانتظار وغرفة السلسلة والروض.

هي زيارة مجاملة تبدأ بالسؤال عن الحال ثمّ هي حوار ومجادلة... ويباهي "سيدي عمر الفياش" بسلطته على سلطة المجتمع رغم السلاسل: "ها هم نساهم قدام بابي مرجبين..."

المفكّر كان مريضا، تعبا، محاصرا لا بمواجهة الفكر بالفكر بل بالعسف بالطرد بالتجويع بالترويع...

كلّما قام في البلاد خطيب *** موقظ شعبه يريد صلاحه [14]

كذلك كانت نهاية أيام الحداد. المرض والحاجة والعزلة و.. ربّما اليأس. لقد أحسّ بالنهاية. وها هو يرى أشباحا في لباس أبيض تحت الشجرة الكبيرة.

- "ثلاثة يستنوا فيَّ.."
- عيطولك؟
- لا. توحّشْتهم.
- علاش تزرب؟

المشهد ثري بالمفارقات ... المفكّر في حضرة المشعوذ. المفكّر حرّ ولكنّ قوى الجذب إلى الوراء في المجتمع أرهقته أتعبته نهشت منه كما ينهش منه اليأس... والمشعوذ حكمت عليه نفس القوى بالقيّد، بالسلاسل، بالأصفاد ولكنّ نصف تلك القوى يقبع في البهو وينتظر الساعات والأيّام حظوة الدخول عليه وقد بايعته: "سلطانا للمدينة" [15].

لعلّ بعض عناصر الإجابة عن هذه المفارقة الرهيبة، والتي لا تزال تعمل في ذات المجتمع وفي ذات الفرد تشويشا، نهشا وتشويها، أحد هذه العناصر ورد على لسان الراوي في نهاية الشريط في قالب جناس ملغوم: "التفكير والتكفير".

مرّة أخرى يبهرنا الجزيري. وذلك بتوظيف الهندسة المعمارية لدور ورياض المدينة العتيقة، فيجعلها أكثر بلاغة من تحليل سوسيولوجي بل هي الصورة الواعية المهندسة تصنف المجتمع وترتبه، فانطلاقا من بناءاته قد تكشف لك عن بنيته وتركيبته، عن حاله ودلالات ذلك في مجالات الفكر والثقافة والسياسة...

للمنزل في الحضارة الغربية بنية عمودية توزع أقسامه إلى فضاءات تحيل على البنى الفوقية والبنى التحتية. ويُعْتَمَدُ ذلك في قراءة الأعمال الفنية.

وللمنزل في حضارتنا بنية أفقية. انغلاق على الخارج وانفتاح على الداخل وتوزيع للفضاءات حسب التنظيم الاجتماعي للأسرة والمجتمع. هنا: قاعة انتظار ونسوة قابعات خاشعات خانعات. وغرفة بها مفكر ومشعوذ. وجنان أخضر به شجرة وأشباح.

فانظرْ وتدبّرْ.

أرض المطلـق

وسكت الراوي عن الكلام المباح وما طلع الصباح. في النهاية الطاهر في فراش المرض ويسمع طرقا على الباب. امرأة تطرق الباب. الطاهر لا ينهض بل يغطي وجهه. هو في شبه ظلام الغرفة ونحن في شبه ظلام القاعة.

وينفتح فضاء شاسع مهيب مشعّ بنور لا تدري له مصدرا. بل ليس له مصدر ولا منبع. نور يعمّ المجال المنفتح أمام الحداد، المرتسم أمامنا على الشاشة.

ثلاثة يقفون على أرض جرداء. لاحجر. لا نبت. لا شجر. لا ماء، لا نماء. لا شاء ولا ثغاء...

هو الفضاء الأجرد بل لعلّه المجرّد.

فضاء أخر. الآخر.

أرض المطلق.

ثلاثة في الأبيض من عمق الفضاء يتقدّمون. ثلاثتهم في الأبيض. يتقدّمون، محمد علي وبلقاسم وعصفور لاظلّ لهم كأنّهم أشباح أو شخوص في عالم الأحلام أو عالم الخيال...

والطريف أنّ هذا الفضاء ينفتح أمام الحداد كأنّه شاشة – أو هو نافدة أمامه على عالم آخر .. وأمامنا أيضا. لكأنّ الطاهر بيننا معنا أمامنا ينظر إلى ثلاثتهم الذين "توحّشهم" اشتاق إليهم وهم يتقدّمون... وها هو يلتحق بهم... يدخل ذاك الفضاء. كيف؟ لا يدخله من جهة اليمين. ولا يأتيه من شمال. لا ينزل إليه من فوق. لا يصعد إليه من تحت. يدخله من الواجهة. من الأمام. يملأ بهامته الشاشة. يبدأ كبيرا كثيفا ويتقدّم. ويمضي نحو الرفقة الذين افتقدهم وبعدهم عاش في وحشة. ها هو يلحق بهم في زيّه الأبيض. يتقدّم نحوه عصفور. يستقبله. يرفرف حوله في فرح وهو يتقدّم إلى رفيقيه. ويمضي الثالوث وعصفور حولهم يرفرف.

وتمضي مهجتك معهم وهي ترفرف مع عصفور في عالم السموّ وأرض المطلق وفضاء يشعّ بالمبادئ الإنسانية الخالدة. وتجتاحك نخوة، نخوة الإنتماء إلى عالمهم، عالم الفكر والفنّ والحرية والمبادئ الإنسانية النبيلة الخالدة.

هكذا ينزل الستار على ملحمة الأبطال.

"ثلاثون" ثمرة من شجرة

وهكذا إذن يتبيّن أنّ شريط "ثلاثون" ليس تسجيلا ولا توثيقا ولا هو رواية وخيال محض بل هو ضرب من لعب ولون من التعبير السينمائي لحكاية عامة حكاية معلومة ذات أبعاد عدّة تضافرت في حكيها منابع شتّى من تجارب وألوان الفنون في بلادنا.

تجارب طويلة وثرية قد تعود بداياتها إلى زغوان ومسرحيات "التحقيق" و"العرس" [16] وصولا إلى "للّة بيّة" [17]. وأنت تتابع في "ثلاثون"، ومنذ البداية، مسيرة محمد علي يأتيك خطابه كلاما مغزولا على وقع أنشودة المطر [18] أو "غسّالة النوادر" [19]. وهو أسلوب في القول تميّز بنسج الكلم وتوليد اللفظ من اللفظ ولفّ المعنى في لغة غير قابلة للثبات بل هي الحركة، رقصا ونطّا لا تعرف هدأة إلاّ لتنفجر واثبة مولدة معنى جديدا تطرحه تورية حينا وتعرية أحيانا. كذلك كانت لغة الراوي الذي نجح في فرض موقعه في السرد السينمائي وكسب الرهان وأدّى وظائف شتّى.

ولجماعة المسرح الجديد، المسرح الطلائعي، سوابق مع الإخراج السينمائي. ولم يكن الفاضل غريبا عن الفاضل، بل كانت للجزيري يد في المعجنة مع الجعايبي في "العرس" و"عرب" [20] مثلا. كما خاض منفردا تجارب أخرى كمشاركته بأداء الدور الأوّل في "عبور" [21] ولا يفوت المتفرّج المنتبه المواكب للساحة الفنية ومستجداتها أن يتمتّع بتلك اللوحات التي يذكرك إخراجها بفنّ الإخراج الاستعراضي الذي خاض فيه الجزيري تجربة في "الحضرة" و"النوبة" [22].

ويأتي "ثلاثون" بعد عدّة عناوين في السينما التونسية مثل "الفجر" [23] و"سجنان" [24] و"التحدّي" [25] و"الرديف 54" [26] وغيرها وهي أفلام تشترك على الأقلّ في تغطية فترة ما قبل 1956.... منها ما هزّ الناس في حينه حماسة فقاعية جوفاء. ومنها ما في القلب سكن وفي الوعي عشّش. ومنها ما سكن الرفوف بدهاليز وزارة الثقافة وما رأته عين. ومنها ما شوّه ما صوّر وشوّش ما عرض فأعرض عنه الناظر وغضب منه الكل وتجاهل وجوده ما زاد عن الكل...

ولكنّ "ثلاثون" عمل طالما انتظرناه. فهو تلبية لحاجة فنيّة ثقافية مجتمعية.

هذه صورة عن الثلاثينات بعين الجزيري مخرجا وصاحب الإبداع ورئيس جوقة من الفنيين المقتدرين الذين سهروا على تحقيق "ثلاثون" ودون سعيهم ما كان لـ"ثلاثون" أن يكون.

هل من المبالغة أن نرى في الجزيري قريفيث [27] تونس إذا كان "ثلاثون" ميلاد شعب.

"ثلاثون" موّال الفكر والفنـون.

"ثلاثون" من الثلاثينات وعنها.

الثلاثينات سنوات. أيّام ملآى بالأحداث، بالنضال، بالعمل، بالإبداع في كافة المجالات التي تعني شعبا ينهض من تحت رماد قرون. وهي أيضا ليالي من المعاناة والعذاب والتعذيب قضّاها عشّاق الحرية مهرا من أجل أن ينبلج الفجر الجديد.

و"ثلاثون" حوالي مائة وعشرون دقيقة، هي فسحة ضوء، ومشعل ينير الطريق للعين ويثبّت الخطى في الليل البهيم.

ترى ماذا انتخب الجزيري من زحمة الأحداث في زخم العشرية الزاخرة؟

البداية مع محمد علي خطاب حماسي تأسيسي على شاحنة... ثمّ بورقيبة حاضر مواكب موجود حتى تأتي مواجهته مع إدارة الباي والساهرين على إدارة الحزب الحر الدستوري فيعلن عن برقماتيته الميكيافلية ويضع الخطوط الكبرى لخطّته: استعداده لـ"التحالف حتّى مع الشيطان".

في ما عدا ذلك تقريبا ومشاهد حياة الدسائس حول الباي وقائمة أمراضه التي لا تنتهي، بقية الشريط احتفال بالحياة بالنضال الفكري والثقافي والفنّي والأدبي.

نسبة هامة من المشاهد تتم في المطبعة...
في قاعة الخلدونية مناسبتان: الخيال الشعري والمحاضرة الثانية...
فرجة جماعية شعبية في البطحاء: عرض سينمائي – فنّ أجيال القرن العشرين-
حفل موسيقي بالرشيدية.
محاضرة حول الحجاب...
حضور عرض أوبرا بالمسرح البلدي...
حضور عرض مسرحي على ركح المسرح الأثري بدقة
حضور معرض لوحات الفنّ التشكيلي
مشهد ترويج الكتب في السرية...
مشهد حفل "الطهور" ختان وأغنية "الخمسة إلّي لحقوا بالجرّة"

نتوقف عن التعداد حتّى لا نشوّه العمل بهذا الجرد الإحصائي.

"ثلاثون" موّال الفكر والفن.

واضح أنّ الشريط ركّز على الفكر والفنون والثقافة لأنّها الأساس والبوصلة في عملية تحرر الشعوب وتقدّمها. فإذا غاب الفكر النيّر وحلّت مكانه الخرافة والشعوذة وخطب الزيف والنفاق ضاعت البوصلة وتمزّق المجتمع وراح الشعب يضرب في واد غير ذي زرع. فكم من مثال لهذا اليوم، منذ أن تحرّفت المراجع وتشوّشت العلامات وغاب الأفق وراء دخان التلوث الفكري والثقافي والأخلاقي.

أمّا القوّة فهي دون فكر يقودها تعود بالوبال على صاحبها وهي في الحقيقة موجودة كامنة في كل الظواهر والموجودات. والشابي في أغاني الحياة كان يعي كلّ هذا عندما يقول:

أيّها الشعب أنت قوّة لم تسسها فكرة عبقرية ذات بأس
والشقيّ الشقيّ من كان مثلي في حساسيتي ورقّة نفسي

إنّ الصور التي تنفتح لها العين ويرقص لها الوجدان وينبض لها الفكر والمناقضة لذلك الشلال ... قليلة وأقلّ منها ما كان من إنتاجنا، منّا، عنّا، وإلينا، وهي – في حصادها السنوي- لا تكفي لوجبة يوم من فرجة سنة ونحن في عصر الصورة نموت ونحيا بها ولها و.. نموت عليها أيضا، أليس كذلك؟ فهل نصوم العام؟ أنصوم الدهر ونحن في عصر الصورة.؟ أنغضّ النظر؟ أنفقأ العين علّنا نرتاح؟ أم ترانا نخرج من العصر، من الدنيا، وعلى الدنيا السلام؟

هذه حكايتنا، عن أصلنا وفصلنا ومنبعنا... أخبرني صديق أنّ ابنه التلميذ بقسم الباكالوريا قال: "الآن عرفت المؤتمر الأفخارستي وقد كان طلسما وفهمت جامعة عموم العملة وجذور الحركة الوطنية وكثيرا من القضايا الحميمة التي كانت لواجب حفظها دون تمثلها سوط عذاب.

ها هو "ثلاثون" فرصة المصالحة مع مجمع العيون التي تنبجس من الصخر، ومع ذاتنا أيضا. وفرصة للالتفات إلى ماضينا، للنظر في راهن حاضرنا حتّى نستشرف آتي مستقبلنا الذي بصدد التشكّل اليوم ومنذ الأمس. ينفض "ثلاثون" الغبار عن مذلّة الاستكانة وروح الاستقالة وفكرة الاستحالة ويزرع الأسئلة ويدعو للبحث والمراجعة لربط اليوم بالأمس والجذع بالجذر عسانا نساهم في انبلاج الفجر ونضوج الثمر.

وهذه السنة الجديدة، 2009، وبها مواعيد هامة ستجعل النوادي والمنظمات تتهافت على برمجة عروض لـ"ثلاثون" عند احتفالها بإحياء ذكرى مائوية ميلاد الشابي وعلي الدوعاجي والهادي الجويني...

هوامش

[1هل فعلا يعلم الجميع – ونعني خاصة الأجيال الجديدة - عن أهمية الثلاثينات؟

[2السيّد محمّد المي يصرّ إلحاحا على أنّ شريط "ثلاثون" شريط تاريخي رغم أنف المخرج. انظر مقاله بجريدة الصباح ": "ثلاثون" للفاضل الجزيري بين الانحراف الفنّي والتحريف التاريخي. الصادر أيام 13 و14 و15 نوفمبر المنصرم والذي أفلح فيه السيد المي، بتعداده "الانحرافات" التاريخية، في تأكيد أنّ "ثلاثون" ليس فلما تاريخيا كما يتصوره هو. ويمكن أن نضيف إلى قائمته "انحرافا" آخر لم يتفطّن إليه رغم ضخامته وهو: شخصية الطفل عصفور لم يرد ذكرها في كتب التأريخ.

[3لأنّ "ثلاثون" حدث ذو اعتبار كبير فإنّنا نعتبر أنّ الصحافة، بأنواعها، لم تغطّ الحدث بما يليق به.

[4المسروقي: هو الحبيب المسروقي، واحد ممن أهدى إليهم المخرج شريطه "ثلاثون"، والمسرقي رفيق درب للجزيري وجماعة المسرح الجديد وهو فنّان متميّز وذو حسّ مرهف خاصة في مجال الأضواء وقد رحل مبكّرا.

[5انظر مقال السيد: اسماعيل. الصادر بالطريق الجديد عدد:103، السبت 22 نوفمبر 2008، بالقسم الفرنسي بالصفحة الخامسة وقدّمت له الطريق الجديد بصفحتها الأولى في مساحة تتجاوز عشر الصفحة. وعنوانه: L’artificiel et le maniéré. : Thalathoun de Fadhe Jaziri

[6العبارة للشابي: لنحلق في سماء الحق والجمال والحرية.

[7"نزهة رائقة" عنوان أقصوصة للدعاجي ضمن مجموعته. "سهرت منه الليالي". وقد تمّ إخراجها للسينما تحت عنوان. "في بلاد الترنني": شريط قصير لفريد بوغدير 1974.

[8"في شاطئ حمام الأنف" أيضا عنوان أقصوصة للدعاجي ضمن مجموعته "سهرت منه الليالي".

[9هذه الفقرة تذكّر بالوصف الوارد في إحدى مقامات بديع الزمان الهمداني...

[10قافروش: هو شخصية طفل في رواية "البؤساء" رائعة فيكتور إيغو. وفولتير ومونتسكيو هما من فلاسفة الأنوار الذين مهدوا للثورة الفرنسية.

[11أوديسا مدينة على ساحل البحر الأسود انطلقت منها أحداث ثورة 1905 في روسيا. ومشهد مدارج أوديسا مشهد شهير ويعتبر من التراث السينمائي العالمي.

[12"المدرعة بوتمكين" هي باخرة حربية في البحرية الروسية بالبحر الأسود ومنها انطلقت انتفاضة الجنود. وهي عنوان رائعة إزانشتاين السينمائية.

[13إزنشتاين: هو سارج مايكالوفيتش إيزانشتاين مخرج سينمائي روسي يعتبر شريطه "المدرعة بوتمكين" من رائع الفن السينمائي العالمي وهو واحد من العشرة أفلام الأفضل في تاريخ السينما العالمية. وفيه أبدع المخرج تقنيات التوليف السينمائي أي أحدث فنّ التركيب.

[14من قصيدة "تونس الجميلة" للشابي.

[15"سلطان لِمدينهْ" هو الاسم الذي أُطْلِق على "سيدي عمر الفياش". وهو أيضا عنوان لشريط سينمائي تونسي عن نفس الشخصية، من إخراج المنصف ذويب.

[16التحقيق والعرس من المسرحيات الأولى للمجموعة التي ستعرف باسم المسرح الجديد فيما بعد.

[17"للّة بيّة": هي إحدى الشخصيات الرئيسية في مسرحية "غسالة النوادر" إنتاج المسرح الجديد سنة 1980. وقد أدّت دور "للّة بيّة" الفنانة جليلة بكار.

[18"أنشودة المطر" قصيدة الشاعر بدر شاكر السياب نشرها في مجلة الآداب البيروتية سنة 1954 وبها أحدث منعرجا في كتابة الشعر العربي...

[19مسرحية "غسالة النوادر" إنتاج المسرح الجديد سنة 1980

[20"عرب" مسرحية من انتاج المسرح الجديد وقد تمّ إخراجها سينمائيا.

[21"عبور" شريط لمحمود بن محمود قام فيه الفاضل الجزيري بدور البطولة.

[22الحضرة والنوبة عرضان من إخراج الفاضل الجزيري موسيقى وغناء وفنون استعراضية من الفولكلور.

[23"الفجر" شريط عمر الخليفي 1966 يعتبر أوّل شريط سينمائي طويل تونسي.

[24"رسائل من سجنان" لعبد اللطيف بن عمّار 1974.

[25"التحدّي" فلم لعمر الخليفي -1985 - عن الحركة الوطنية وقع أنتاجه بطلب ولا يُذكَرُ أنّه عُرِضَ.

[26"الرديف 54" لعلي العبيدي 1997.

[27"قريفيث"هو دافيد وارك قريفيث (1875 – 1945) من أبرز وأشهر روّاد الفن السينمائي بأمريكا، له اسهام هام في التركيب، معروف خاصة بشريطه "ميلاد أمّة" الذي أنتجه سنة 1915، خمسين سنة بعد الحرب الأهلية الانفصالية بين ولايات الجنوب الزراعية المتمسكة بالعبودية وولايات الشمال المتطورة... والشريط عن تلك المرحلة وقد لاقى نجاحا باهرا بولايات الجنوب ومنع عرضه في عديد المدن الشمالية لتبريره للعنصرية ولتمجيده لعصابات الـ"كيو كلاكس كلان"...


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني