الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > مقهى الاتحاد... تحية
مقهى الاتحاد... تحية
12 آذار (مارس) 2008

(من هذه المقهى أصبح للرديف سجل وكتاب.. ونبي)

يروي لكم خيبان مشهدا يوميا برائحة البنّ والصداع..

"أطلّ كشرفة بيت على ما أريد"

محمود درويش

من هنا بدؤوا..!! قالها أحد المخبرين الذين يظنون أنهم سرّيون والناس يعرفون أنه مخبر فيشفقون عليه ويسبّون الدولة كي يشتغل.. لم أره في تلك القرية عاطلا عن العمل قط..

من هنا انطلقوا..!! قالها وهو يسرع الخطى أمام الدرج الأسفل في سلم المقهى.. كان يسرع كي لا يراه الحاضرون.. ولا يعلم المسكين أن أولئك المنقرضين منذ الاستقلال - الدينصورات - ينظرون إلى الأعلى لعلهم يسمعون خطاب الأحد أو وحي الحجر..

صاحب المقهى ديمقراطي جدا.. يسمح بلعب الورق والبصاق وثلب النظام.. لا يمكن أن يكون صاحب مقهى الاتحاد إلا ديمقراطيا.. وهو في هذه المقهى يملك ولا يحكم... فالذين يشربون بنّه اللذيذ من الصباح إلى المساء يفتلون على الطاولات أحاديث الجرائد الحكومية ليشعلوا بها الشيشة والقلوب.

فوق رؤوسهم.. صورة الرئيس.. ثم فوق المقهى أيضا.. ولكن أعلى من الصورة بكثير.. ارتسمت وجوه ليست كالوجوه.. تشرب القهوة من مقهى الاتحاد وتخربش على جدار أو على ورق.. ثم ثلاث دقات للقلب ويبدأ الخطاب..

البلاغة والفصاحة غير مطلوبتين في هذه المقهى.. فلمقهى الاتحاد بلاغتها.. المشبه لا وجه شبه بينه وبين المشبه به.. أما الاستعارة فمكنية دائما وحينما تكون تصريحية فلترديد النشيد الوطني.. أو "صامدين صامدين.." البلاغة في هذه المقهى لها إيقاع بسيط..

يا لهم من أوباش غيّروا اللغة والتاريخ..!! زوّروا انتصارات البلد.. تصوّرا .. أيها المواطنون..؟؟ في مقهى الاتحاد يسمون التحوّل.. محوالا..!!؟؟ هناك فرق في اللغة بين التحول المبارك (المبارك لصيقة بالتحول منذ كتب سيبويه الكتاب) والمحوال... فالأول مصدر من تحوّّل (وتحوّل فيما تعني الحلو وهو عيب يصيب العين) وأما محوال فهو على وزن مفعال ومفعال اسم آلة.. مثله مثل مسمار.. وما أكثرها مسامير..

البلاغة في المقهى حرفة التائهين.. في كل يوم يعجنون رائحة التبغ في أفواههم ويصدحون بمر الحقيقة..أو نصفها.. قلوبهم مليئة بالضجيج كمقهى الاتحاد..

التفت المخبر وراءه فوجد المقهى قد انتفخت وكادت تنفجر.. دخان وهموم وسياسة وعيون محمرة تشتعل كجمر في يوم قيظ.. أسرع خطاه نحو المكتبة العمومية.. فتح كتابا ريثما تعود المقهى حكومية كما يشتهي.. فتح الكتاب وفتش فيه عن تهمة لهؤلاء.. فهو متعود على التفتيش عن التهم في العقول والخزائن والكتب.. لم يطل بحثه طويلا فوجد ما أراد.. عنوان الكتاب الذي بين يديه "إرادة الحياة".. وهذا وحده تهمة.. كتبه شاعر انتفخ قلبه.. فمات قبل الأوان.

فوق المقهى غيمة لا تزول.. أو هكذا يراها الناس.. وأمام المقهى سوقان.. سوق يباع فيه البصل والخيار والنكت.. وسوق على يسار المقهى تباع فيه الذمم.. ومقهى الاتحاد شاهدة على الأسواق والأرزاق واللون البنفسجي.. تستبدل البصل ببطاقة الانخراط.. لأن الذي يشرب القهوة ويستمع إلى الغيمة المطلة من الأعلى هو بائع البصل والخيار لا غير.. حتى بائع بطاقة الانخراط يجلس في المقهى أيضا ويلعب الورق.. ولكن على يمين الباب لأن اليمين منصوح به في الدين وفي البيان.. ثم لأنّ أذنه اليمنى قادرة على الإنصات أكثر إلى أحلام رواد مقهى الاتحاد.. ينصت صاحب القميص البنفسجي.. ولكنه لا يبيع بطاقة الانخراط في مقهى الاتحاد... فيضحك منه بائع البصل... يحيا البصل..!!

*************

في سوق الخضار ربّى عمي عبد الستار أبناءه ورمى بهم من ذلك المنحدر الذي يسكنون فوقه إلى أسفل الدهر.. تدحرج الأبناء إلى السوق أمام مقهى الاتحاد.. وباع عبد الستار بضاعته إلى الناس.. كان يلبس السوق كله.. ويمشي وكأن كوكبة من الرجال تمشي.. يتكئ كملك على أريكة في محل الخضار.. يحسب حسابات لا يعرفها إلا هو..

علّم عبد الستار ابنه أن لا يصدق مكبرات الصوت يوم العيد.. وأن يطير إلى العراق إذا اقتضى الأمر.. وقبل السفر يجب أن يستفتي قلبه والثوّار.. ولكنه لم يفعل. فلعنه أبوه وعاد من العراق حيا لا شهيدا... كان أمام أبناء عبد الستار الخضّار خياران: إمّا الرحيل، وإمّا أن يطلّوا على شرفة الدنيا بشرف. رحل من رحل وها كبيرهم يتسلق الشرفة كنبتة برية شاحبة.. ويبتسم...

وفي سوق الذمم كان الذباب يطوف فوق البضاعة.. ولا يقع عليها خشية أن يتسخ.. فالذباب يختار أين يقع ليس كالبشر الساقط والساقط من أصله "ساقط".. العلم الوطني في سوق الذمم ذابل كجبل "زمرة" حينما يرهقه المغيب وصوت انفجارات "المينة".. أما التاجر في هذه السوق فلا يملك بضاعته كما يملك عبد الستار ثومه.. البضاعة في سوق الذمم كالإشاعة.. تروج في السنة مرّة..أو وقت الانتخابات.. يصدقها الغافلون ويفصّل منها ابن عبد الستار لفافة يدخنها في البار..

تاجر الذمم لا ينام في الليل، مثل الرجال.. فهو دائما في انتظار مكالمة هاتفية.. أو طرقة.. وربما طلقة تقطع عليه شهوة الندم.. رحم الله عبد الستار كان ينام ولا يبالي ويحك خصيتيه أمام البوليس ولا يبالي.. وإذا دق الباب ليلا يعلم من الطارق، فابنه مطلوب للتحقيق.. يذهب ابنه البكر معهم ويكمل عبد الستار النوم باسما مطمئنا على ابنه.. وفي الصباح يعد فطور ابنه المطلوب عندهم، من بقايا حكاية السوق..

لا ينام تاجر الذمم كما كان عبد الستار ينام.. بل يبيت الليل يقسّم الناس إلى شعب وأمم ويحسب من معه ويطرح من عليه.. وفي الصباح كلهم عليه.. حتى زوجته وابنه البكر.. وفي الصباح يرتدي ربطة العنق.. طبعا هذا ضروري.. ثم ينظر إلى سرواله هل أفلح في إظهار مؤخرته كما ينبغي أم لا.. أما القهوة فتأتيه ببنّ ثقيل من مقهى الاتحاد.. لأنه ثقيل.. والثقيل يظل دائما ثقيلا..

الدنيا في عين عبد الستار بسيطة جدا.. يقسّم ما يملك إلى غلال وبصل وثوم.. ويترك الناس يختارون.. وعادة ما يختارون البصل برائحة الرفض.. أما صاحبنا فيختار للناس رغوة الأفكار الجائرة وزبدا بلون البنفسج...

في مقهى الاتحاد يعرف الناس ما يشربون.. ويعرفون بعضهم منذ آلاف السنين.. منذ أن كان الإنسان يمشي حافيا والذئب أيضا..

يشربون ماء معفرا ويضحكون... وفي المساء تتغامز العيون على "حارة بيرة" أو على منشور يرمى ليلا أو خط على جدار.. يحدث هذا على مرأى ومسمع من السلطات المحلية والجهوية والوطنية.. في مقهى الاتحاد.

************

مازال المخبر يرقب المقهى من ثقب في "إرادة الحياة".. لا شيء في الثقب يحيل على أن ما يراه هو مقهى.. لقد رأى أبي وجاري ومن كان في قامة عبد الستار وأصدقاء ابنه البكر وابنه الأوسط والأصغر أيضا.. رأى كل هؤلاء.. ورأى الغيمة فوق المقهى ببرقها وريحها ورذاذ الكلمات... و"القيطون" نشرة، المقهى اليومية.. رأى صاحب المقهى يوزع المشروب مجانا ويتفل على الضرائب.. ويخشى لعنة الغيمة التي تحوم فوقه..

اكتمل الحفل وحضر الزوّار ودارت الكأس.. أنصتوا يرحمكم الله.. ومن لغا في حضرة الغيوم فقد كفر..!! اشرأبّت الأعناق وارتفعت حواجب الناس قليلا أما أنوفهم فقد درّبوها على عدم الانحناء منذ الصغر... وجاءت اللغة.. فهمها عمي علي الحوّات (نسبة إلى الحوت) يبيع عمي علي السمك في أرض لا تنبت السمك وتسميه حوتا ولكن عمي علي يعرف أنه في أرض قانونها حوت.. وقليل الجهد يموت..

فهمتها أختي الطالبة وشيخ الطريقة ومريدوه.. والحلاق القصير ولكن لسانه أطول من ربطة عنق وزير حقوق الإنسان.. ويفهم تلك اللغة بائع اللحم القادم عبر الجبال ليلا، وحتى نهارا..!! لا يهم..؟؟
ولم يفهمها المخبر وتاجر الذمم وبرهان بسيس.. وقد كتب هذا الرجل الفذ مقالا بعنوان "الكلاسيكو...البلاستيكو" (جريدة الصباح 11 مارس 2008 ).. أذكر هذا لرواد مقهى الاتحاد.. فقط للتذكير..

كم أحب هذا الرجل.. مبارك لك يا دولة برهانك هذا...

تذكّرت عمي الطاهر الشنّاي (شنّاي يعني شاعر هجّاء) يهجو نفسه ورئيسه في العمل.. يقول بلهجته المخلوطة بلون النفة التي يتعاطها "ربحتِ يا دولة..!! خدامك الطاهر وشافك (Le Chef) عبد المولى..!!" هذا فقط للتذكير..

وأعدكم أن خيبان سيظل وراء برهان حتى ينزع له سراويله ومقعد الوكالة الوطنية للأنباء.. ثم بعد ذلك...!!!! لا تذهبوا بأذهانكم بعيدا فخيبان لا يفعل شيئا كهذا لهؤلاء.. يكفيه أن يعريهم ويرحل.. لأنه يعانق الحسناوات في المجلاّت وتحت القمر.. هذا فقط للتذكير..

للتذكير بأن غيمة مقهى الاتحاد لا يفهمها إلا أهلها ورواد المقهى.. والبوليس في العاصمة..

اكتمل المجلس.. وانشق الرداء وبدأ الشطح الصوفي.. وفي الحضرة الصوفية يصبح الشيخ قمرا، أو خمرا.. ولقريتي خمرتها تسمى قلوما.. القلوم (اسم محلي).. خمر رديء وبخس الثمن من اختراعات العقول التي أهملتها البلاد حينما أبرمت صفقاتها في ليل البلاد الطويل.. ويبدو أن هذا الخمر يدمّر الخلايا التي لا تتجدّد في الدماغ مفعوله مثل مفعول خطاب الذكرى المجيدة.. فاحذروا يا أهل تونس.. هؤلاء يشربون القلوم.. أو يرتادون الزاوية ليختمروا مع شيخهم قبل العشاء.. الله حي..

صاح القمر.. صاح في السوق.. وبالمناسبة لقد جعلوا للسوق سقفا فأصبح أكثر ظلاما.. وظلما.. صاح في الظلام.. كما صاح الحلاج.. وقد كان الحلاج يثور في سوق بغداد الذي يشبه سوق الخضر قبالة مقهى الاتحاد.. لأنه مليء بالفقراء والأمراء وبقايا الكلام.. كان الحلاج يصيح: "أيها الناس اعلموا أن الله قد أباح دمي فاقتلوني... اقتلوني تؤجروا وأسترح، اقتلوني تُكتبوا عند الله مجاهدين، وأُكتب أنا شهيدا"... كأني بالغيمة التي تتلألأ فوق مقهى الاتحاد تردّد قول أبي منصور هذا.. اقتلوني.. اقتلوني..

وفجأة هبّ الغبار وجاءت الهراوات من كل مكان.. كانت مقهى الاتحاد تربّي روّادها على نفض الغبار.. التفتت الغيمة إلى العيون الملتفة حول السوق قريبا من دكان عبد الستار وثقافة عبد الستار وابنه.. فاهتز اللحن اهتز.. وازداد الوجد وارتاحت الأجساد.. وارتفع الصوت.. وبدا الشطح.. وشطح الغيوم كشطح الأقطاب أو يزيد.. وقال القمر كما قال صاحب الشطح أبو يزيد (البسطامي) "قد ترى الأنهار تجري لها دوي وخرير حتى إذا دنت من البحر وامتزجت به سكن خريرها وحدتها ولم يحس بها ماء البحر، ولا ظهرت فيه زيادة، ولا إن خرجت منه استبان فيه".

فسكت الغبار.. لأن نفضه كان أمرا مقضيّا.. الهراوات لم تعد تخيف ما دام الخبز منقوعا بدم.. وما دامت غيمة مقهى الاتحاد تتلبد وتتلبد.. ومادام السوق مليئا بالفقراء والشعراء.. ومادام تاجر الذمم يرى مؤخرته في مرآة الحزب..

سكت الغبار وارتفع.. وزغردت عجوز الحي وبناتها فوق الهضبة يرقبن الفحول... امتطى ابن عبد الستار كلامه وراح يرقص فوق اللغة.. بئس اللغة التي لا تركع للعظماء.. ركعت اللغة أمام مقهى الاتحاد وفوقه الغيم كطائر يرفع يديه إليه إلى السماء يستصرخ كل من صعد إلى السماء من البشر... ليخبروا ربّهم عمّا جرى ذات شتاء في مقهى الاتحاد... ونزل المطر.

خيبان

من رواد مقهى الاتحاد


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني