الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > وداعا بابا الطاهر**.!
أضْـــوَاء وظِــــلاَل*:
وداعا بابا الطاهر**.!
15 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010

بقلـم: رضا البركاتي
ridhabarkati@gmail.com

بُعَيْد تكريمه في اختتام الدّورة الأخيرة لأيام قرطاج السينمائية (من 23 إلى 30 أكتوبر)، غادرنا باب الطّاهر، يوم الخميس 4 نوفمبر الجاري عن سنّ 83 سنة، وهو الذي ولد بصيادة سنة 1927 وتابع تعلمه الثانوي بصفاقس وتحصّ على الإجازة في الآداب العربية من جامعة تونس وانتقل إلى فرنسا لتعميق دراساته.

بدأ تعلّقه وغرامه يالسينما بنادي سينما صفاقس وسرعان ما تحرك صحبة رفاقه لبعث الجامعة التونسية لنوادي السينما، سنة 1949-1950 التي ترأسها... ثمّ بعث مصلحة السينما بوزارة الثقافة... وساهم بصفة فعّالة في إعداد النصوص التي ستنظم قطاع السينما وستعرف بمجلّة الصناعة السينمائية... وفي 1966 بعث أيّام قرطاج السينمائية، أوّل مهرجان سينمائي في إفريقيا والبلاد العربية... وقد ترأس دوراته الأربع الأولى: 1966 – 68 – 70 – 72.

لم يكن باب الطاهر تكنوقراطيا في مجال السينما بل كان من محبّي السينما الأوائل في بلادنا، عاشقا للفنّ السابع، ناقدا جادّا، واعيا بأهميّة وخطورة وضرورة هذا الفنّ الجديد في هذا الوطن الجديد، وكان أيضا رجل مبادئ، منحازا إلى الفنّ الواقعي، منحازا إلى قضايا الجماهير، مستقلاّ عن السلطة السياسية... حتّى أنّه شارك في إحدى الانتخابات الأولى في القائمة الزرقاء (الحزب الشيوعي)... كما تعرّض لـ... السجن !. وسوف تظهر في القريب، هنا وهناك، وتحت الأضواء الكاشفة، حلقات من حياته، كانت تحت الظّل، حول نشاطاته ومسيرته وعلاقاته بعديد الأطراف...

هي حياة، هي مسيرة نضال مكنوزة بالتجارب والعبر، لذلك هي جديرة بالاهتمام.

الطاهر شريعة

1. الروّاد لا يموتون..
هم يرحلون فقط.!

إنّه الموت.
هو مناسبة، عند الإنسانية، للتأمّل.

إنّ الذين يدخلون التاريخ قِلَّة لأنّ الأمرَ يستوْجِب شروطا جَمَّة. ذلك أنّ التاريخ ليس عروسا تُشتَرى أو تُخْتَطَفُ ولا مدينة تُفْتَحُ ولا كرسيّا يُسْتَوْلَى عليه.

التاريخ عِطرُ الزمنِ بل روحُه التي تطرِّزُ مسيرةَ الإنسان عبر الأيّام فتَشْبِكُ، من الماضي ما به بذرةُ حياةٍ وتنسِجُه مع ما يَشِعُّ بألوان ضوْءِ ساعةِ "الآن وهنا" وتصِلُه بالآفاق ليطرحَ نوّارَه وثماره في الربيع الآتي.

والذين وعَوْا المرحلة التي يمُرُّ بها مجتمعُهم واختاروا الوقوفَ الحرَّ إلى جانب العام الموضوعي، الجديد الجنيني، ونبذوا الخاص الذاتي، القديم السّائد، قد خَبِرُوا الدنيا وفهِموا سُنَنَها وراهنوا على الفجر الجديد وأنكروا ذواتهم بل صَرَّفوا حياتهم بتذويب "الأنا" الأنانية في "نحن" الجمعية.

كذلك كان شأن العديدين مُذْ فَتَّحَ الشعب التونسي عينيْه على العصر وطمح إلى دخول الحَداثة من باب الإسهام فيها وإعادة إنتاجها، بنكهتنا المحليّة الخاصّة، والمشاركة، إلى جانب كلّ الشعوب، في تطويرها. لقد انبرى الروّاد كلّ في ميدانه، وبتجربته، وحسب صروف أيّامه، يؤسسون ويبعثون ما به ينبعث الإنسان الجديد من رماد القرون.

في أواسط القرن التاسع عشر، فتح خير الدين التونسي ملف الإصلاح تنظيرا وممارسة. فكان أب حركة الإصلاح في ديارنا. وفي بداية القرن العشرين، عاد محمّد علي الحامي من ألمانيا وقد درس، بجامعتها، شيئا من الاقتصاد السياسي وتعلّم، مع جماعة "السبارتكيس [1]"، الكثير عن الصراع الاجتماعي. فكان رائد الحركة العمّالية المجيدة. أمّا الشابي فهو رائد حركة التجديد في الشعر واللغة. وعلي الدوعاجي أب القصّة التونسية... وعدّة أسماء أُخَرْ، كلٌّ في مجاله: في الموسيقى والمسرح والسينما...

هؤلاء لا يموتون بل يرحلون عنّا ويظلّ فعلهم حاضرا معنا، فينا، يعاصرنا بل به نعاصر أيّامنا، منه ننطلق وإليه نضيف فنجدّد ونتقدّم.

إنّ رحيل بابا الطاهر، الطاهر شريعة، أب السينما التونسية والإفريقية يُعتبر لحظة فارقة في أيّامنا المنقلبة هذه وقد التفّ التجّار على إرث الثوّار. لذلك لا بدّ من الوقوف وقفة تأمّلٍ وتدبّرٍ وما استذكار الماضي إلاّ لاستشراف المستقبل.

2. نَعيب زمانَنَا والعيْبُ فينا [2]!

في بداية القرن الجديد، وقف نائب في البرلمان يسائل وزير الثقافة عن السياسة الثقافية، عن المهرجانات، عن قطاع السينما، وعن حريّة النشاط لنوادي السينما في فضاءات دور الثقافة، وعن المنحة الهزيلة المخصّصة لجامعة نوادي السينما المهدّدة بالإجلاء عن مقرّها...

في الحقيقة، كان النائب قد اتصل برئيس جامعة نوادي السينما لإعداد مداخلته أمام وزير الثقافة. سأل فوجد جوابا.

وجاءت مداخلته غريبة عن قصر باردو التاريخي. كان النائب يظنّ نفسه منتخبا ومن واجبه/ من حقّه (لا ندري. ومن يدري؟) أن يسائل الوزير.

وكان الوزير ذكيا - وكلّ وزير ذكيّ- فهم مربط الفرس. وجاء ردّه واضحا:
- يتنحّى رئيس جامعة نوادي السينما ويعوّض برئيس آخر أو تُقْطعُ المنحة.

واجتمعت هياكل نوادي السينما وحضر القدماء والأنصار وكان بابا الطّاهر في الموعد. جاء ليساند. ليقف في صفّ الاستقلالية. في خندق الحريّة.

وكان ردّ جامعة نوادي السينما واضحا:
- التمسّك بالاستقلالية.

وحُرِمت الجامعة من منحتها في تلك السنة.

"من يحبّ الحياة يذهب إلى السينما" [3] هذا شعارنا وهذا ما يجمع بيننا نحن محبّي السينما، أجيال نوادي السينما، أبناء الطاهر شريعة، ولأنّنا نحبّ الحياة ومنحازون للحياة نعلن عن عدم استعدادنا لأن نبيعها بمال الدنيا فما بالك بلَـِفْتَة (بكسر اللام أو فتحها)؟

في صفوف المثقفين والمبدعين كلام كثير عن الرِّدّة والتراجع، شكوى وحديث عن الماضي السعيد، الزمن الثوري، والحاضر التعيس، واتهامٌ للزمان ولانقلاب الأيّام. وهؤلاء يصحّ فيهم قول الشاعر [4]:

نَعِيبُ زمانَنَا والعيْبُ فِينا *** وليْسَ في زمانِنَا عيْبٌ سِوَانا

وفي صفوف المثقفين والمبدعين من سكت، سكت، سكت طويلا.. حتّى انتهى ظهر الحمار.
وفي صفوف المثقفين والمبدعين جيلٌ جديد واعد وله مع الثقافة والفنون مواعيد.

رحل بابا الطّاهر بُعَيْد تكريمه لآخر مرّة في الدورة الأخيرة لأيّام قرطاج السينمائية. لعلّه وكأنّه وأظنّه... رحل والحسرة تملأ قلبه لمرأى ساحة الإبداع "التانيتي" [5] سوقا يرتع فيه تجّار الفرجة من ربوعنا ومن بلاد الإفرنجة.

لقد ترك لنا بابا الطاهر إرثا، عهدا قسما لن نفرّط فيه.

نمْ بابا الطاهر هانئا أولادك على العهد وعائدون.

ملاحظة

(*) هذه نافدة نفتَحُها على أعمدة "الشعب" نُطِلُّ من خلالها، أسبوعيا، على عالم الصّورة والسّينما وبها نحاول بعثرة أوراق الملفات المُهمَلة والمُأرشَفة والمُعتّمة والمغلقة والمزيّفة والمطلسمة والمقدّسة والمدنّسة... في مجالات الإبداع (الفنّ) والإنتاج (الصناعة) والفرجة (التجارة)... عسى أنْ نساهم في إعادة ترتيب أوراق سابع الفنون في حياتنا... هو عالم مادته أضواء وظلال ولغته أضواء وظلال ومعانيه من أضواء وظلال وقضاياه بين الأضواء والظلال... ونوافده فُتْحة بين الضوء والظلِّ.!

(**) للإطلاع على ترجمة حياة الطاهر شريعة مؤسس الجامعة التونسية لنوادي السينما وباعث أيّام قرطاج السينمائية يمكن، خاصة، الرجوع إلى كتابات الناقد السينمائي عبد الكريم قابوس في الأسابيع الأخيرة على صفحات "الشعب"، ولا أخاله إلاّ عائدا في الأعداد القادمة لسيرة أب السينما التونسية...

هوامش

[1سبارتاكيس – Spartakus - هو زعيم وقائد ثورة العبيد في روما القديمة، وإليه انتسبتْ مجموعة يسارية في ألمانيا كان محمد علي الحامي قد تعلّم أبجديات النضال الاجتماعي في صفوفها.

[2هذا صدر بيت شعري شهير للمعرّي: "نَعيبُ زمانَنَا والعيْبُ فينا *** وليْس لزمانِنا عيبٌ سِوَانا"

[3"من يحبّ الحياة يذهب إلى السينما" العبارة لـ"رولان بارط" Roland Barthes

[4قائل هذا البيت الشهير هو الشاعر الفيلسوف المعرّي.

[5"التانيتي" نسبة لتانيت إلهة الحبّ والخصب والعطاء في الحضارة البونيقية. والجوائز تسند باسمها في مهرجان قرطاج.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني