الصفحة الأساسية > البديل الوطني > أعداء للحقيقة، خدم للديكتاتوريّة
أعداء للحقيقة، خدم للديكتاتوريّة
23 كانون الأول (ديسمبر) 2010

"... وأنتم أيّها الإخوة الشهداء بصمت
ستكونون معنا في ذلك النهار الرحب
النهار النهائيّ، النهار الفسيح..."

يبدو أنّ البلاغ الرسمي مجهول المصدر الذي تناول وفق المنظور الحكومي حيثيّات احتجاجات سيدي بوزيد مثّلا شارة الضوء الأخضر لوسائل الإعلام التونسيّة وخصوصا المكتوبة منها للخوض في مدلولات تلك الاحتجاجات ضمن حيّز ضئيل وحدود مرسومة مُسبقا بوجهة رسميّة أكّدها وزير الداخليّة التونسي في مداولات مجلس النوّاب مؤخّرا.

قد خيّرنا الاكتفاء بالتعليق على ما ورد بصحيفة الصباح الصادرة يوم 23 ديسمبر، لقناعاتنا الراسخة أنّها بما تضمّنت حول الاحتجاجات الدائرة النموذج الأفضل للإعلام النوفمبري الذي يدّعي الاستقلاليّة والحياد.

وقد ورد بهذه الجريدة خبر قصير ومقال مُطوّل بمثابة الافتتاحية بقلم مُشرفها العامّ للتحرير "فيصل البعطوط" (ص1 وص3) وللتطرّق لما ورد اخترنا المنهج الآتي:

الخبر = أعداء للحقيقة

تناقل الرأي العامّ الوطني والعالمي، مرّة أخرى من قنوات أجنبيّة عربية وغربية خبر إقدام شابّ ثاني على الانتحار يرمي نفسه من عمود كهربائي أمام معتمديّة سيدي بوزيد الجنوبيّة. وأجمع الكلّ على أنّ العملّية تندرج ضمن الاحتجاجات الدائرة رحاها بهذه المنطقة من أجل حقّ الشغل والتوزيع العادل للثروة.

بطبيعة الحال الانتحار الجديد سفّه مقولة الحادثة الشخصيّة ومثّل حرجا أكثر لنظام الحكم زيادة عن إسهامه في تأجيج الحراك الاجتماعي ليلة 22 ديسمبر وإثماره اتساعا لدوائر "الحريق" التي وصلت على الفور معتمديّة جديدة "المزّونة" المحاذية لولاية صفاقس.

الحادثة وكلّ حيثيّاتها معلومة ورغم ذلك ورد بجريدة الصباح في أسفل العمود الأوّل بالصفحة الثانية خبر قصير تحت عنوان "مخمور تسلّق عمودا كهربائيّا فمات بصعقة" ولعلّ الأمر الوحيد الجديد والذي بالإمكان اعتماده هو وفاة الشابّ، أمّا ماعدا ذلك فهو تزوير للوقائع وتشويه مُتعمّد للحركة الاحتجاجيّة العادلة من خلال نعت الضحيّة بالمخمور.

بطبيعة الحال قلب الوقائع ليس بالأمر الجديد فهو عادة إعلامية دأب عليها الإعلام التونسي بصنفيه الرسمي أو المُقنّع منذ عقود طويلة. ولعلّ هذه العادة المُخزية هي السبب الأهمّ في اتساع الهوّة بين التونسي وكلّ وسائل الإعلام "الوطنيّة" المحكومة مثل كلّ مجالات الشأن العامّ في البلاد بقوّة "التعليمات" الفوقيّة والقبضة الأمنيّة.

التحليل = خدم للديكتاتوريّة

اختار فيصل البعطوط عنوان "آفة الأخبار والحادثة المُلتبسة". والحقيقة أنّ مثل هذا الاختيار يُدين صاحبه من البداية. فهل من المعقول أن يصف إعلاميّ المنطلق الأوّل لممارسة مهنته؟ قطعا من يحترم قلمه لا يُمكن أن يفعل ذلك فالخبر كما هو وبقطع النظر عن قناعات من يتعاطى معه هو الشرط الأوّلي للعمل الصحفي. فالإداريّون فقط هم من يتبرّمون من الأخبار. أمّا الالتباس الثاني المُتّصل بالحادثة فالسياق الذي ورد فيه لا يستقيم بالمرّة، فالحادثة منظورا لها من زاوية الوقائع معلومة، أمّا الاختلاف الذي قد يصل إلى التضادّ حول مدلولاتها وسياقها فهو أمر عاديّ لا يختص به هذا الخبر، وعليه فإنّ القول باللبس تشويشا مُتعمّدا من صاحبه واعتداء سافرا على ركن مهمّ في المجال الإعلاميّ يرتبط "بحرّية التحليل".

وكما هو معلوم، الإعلاميّ يسعى إلى الخبر حتّى يُنير الرأي العامّ به. إلاّ أنّ أسرة التحرير لجريدة الصباح تسير عكس ذلك، فقد ورد بالمقال "... أعترف أنّ ما يهمّنا كأسرة تحرير أنّنا اخترنا عدم نشر وقائع الحادثة لأنّ ارتأينا بأنّ مساوئ النشر أكثر من منافعها".

إنّ مثل هذا التعاطي مع الشأن العامّ يُدين أصحابه ويجعل من عملهم الإعلاميّ محكوما بحسابات لا صلة لها بالشفافيّة ولا بشرف المهنة. وهو دليل لا يقبل الشكّ في تفكير القائمين على هذه الصحيفة في مصلحة النظام القائم قبل مصلحة الحقيقة والشعب أيضا.

أخطر من ذلك فإنّ هذا التبرير للتكتّم على الحادثة الأولى يسقط من خلال المُسارعة بنشر حادثة الانتحار الثانية، الذي تمّ مرّة أخرى لفائدة السلطة من خلال تشويه الضحيّة والافتراء عليه بنعته بالـ"مخمور" للتقليل من تداعيات هذه الكارثة على تأزيم الأوضاع.

وعلى أيّ حال فإنّ مثل هذه الصحافة لم تعُد منذ سنوات محلّ اهتمام شعبيّ، فهي حزم من الأوراق أكثرها ينتقل كما صدرت للأكشاك ومصابّ الفضلات.

عمّار عمروسيّة

ملاحظة

لم نتناول مُطلقا محتوى المقال لأنّنا تطرّقنا لأهمّ ما جاء فيه في مقال سابق "صمتكم أفضل من كلامكم".


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني