الصفحة الأساسية > كتب ومنشورات > بمناسبة المهزلة الانتخابية أكتوبر ‏‏2004‏ - مشروع وثيقة: من أجل بديل ديمقراطي (...) > التلاعب بالدستور لا يكسب ترشّح بن علي وبقاءه في الحكم أية مشروعية
بمناسبة المهزلة الانتخابية أكتوبر ‏‏2004‏ - مشروع وثيقة: من أجل بديل ديمقراطي وشعبي
التلاعب بالدستور لا يكسب ترشّح بن علي وبقاءه في الحكم أية مشروعية
التلاعب بالدستور لا يكسب ترشّح بن علي وبقاءه في الحكم أية مشروعية المشروعية

إن ترشح بن علي لولاية رابعة غير شرعي لأن الاستفتاء الذي بُني عليه هذا الترشح غير شرعي وذلك لسببين اثنين: أولهما يهم الظروف السياسية التي جرى فيها استفتاء 26 ماي 2002 وهي ظروف تتسم بغياب كلي للحريات السياسية وبقمع منهجي وشامل لكافة أشكال النقد والمعارضة وبتبعية الإدارة التامة للحزب الحاكم وبخضوع الجهاز القضائي للسلطة التنفيذية خضوعا مطلقا. ومن البديهي أنّ استفتاء يُنظّم في ظروف كهذه لا يمكن أن يعبّر بأي شكل من الأشكال أو بأي درجة من الدرجات عن الإرادة الشعبية إذ أن الشعب لا يمكن أن يمارس سيادته إلا إذا توفرت له الشروط الضرورية وفي مقدمتها الحرية السياسية وبالخصوص حرية التعبير والتنظّم. إن الدكتاتورية النوفمبرية لم تسمح لأي طرف معارض لهذا الاستفتاء أو حتى متحفّظ عليه من التعبير عن رأيه حتى لو كان معترفا به قانونا (الحزب الديمقراطي، حركة التجديد…) رغم أن نسبة المشاركة في الاستفتاء كانت ضعيفة للغاية بشهادة عديد الملاحظين (17%). فقد زوّرتها ورفعتها إلى أكثر من 90% لإضفاء الشرعية على قرار سياسي طُبخ في مكاتب قرطاج. ومما يؤكد الطابع الصوري لهذا الاستفتاء أن بن علي وفريقه لم يحترما فيه حتى أبسط الشكليات القانونية. فالدّعوة إلى تنظيمه تمت بأمر رئاسي بينما كان من المفروض أن تتم بمقتضى قانون أي عن طريق السلطة التشريعية. وهو ما يجعله باطلا حتى من الناحية الشكلية.

أما السبب الثاني فيهمّ مضمون الاستفتاء. إن الجميع يتذكّر أن بن علي عندما أزاح بورقيبة وأخذ مكانه في نوفمبر 1987 صرّح بأن "لا رئاسة مدى الحياة مستقبلا" ونقّح الفصل 39 من الدستور لِئلاّ يتجاوز عدد ولايات رئيس الدولة الثلاث والفصل 40 لئلا تتعدى السن القصوى للمرشح للرئاسة الـ70 سنة. واعتبر هذا التنقيح "عودة بالجمهورية إلى أصولها" وحاول أن يجعل منه مبررا لانقلابه على بورقيبة ويصنع منه شرعيّة لنفسه. ولكنه ما أن شارفت ولايته الثالثة والأخيرة على النهاية حتى سعى إلى إلغاء ما كان أقرّه بالأمس فحوّر من جديد الفصل 39 لإلغاء مبدأ تحديد عدد الولايات والفصل 40 لرفع سن الترشّح إلى 75 سنة وهو ما يمكّنه من الترشّح لا لانتخابات 2004 فحسب بل كذلك لانتخابات 2009. وبما أن الانتخابات في بلادنا صورية فمعنى ذلك أن بن علي ينوي البقاء في الحكم إلى سنة 2014 على الأقل. ولا شيء ينفي إمكانية تلاعبه بالدستور مجددا لإلغاء السقف العمري المحدد حتى يبقى في الحكم بعد ذلك التاريخ. وما هذا في الواقع إلا رئاسة مدى الحياة.

ولم يكتف بن علي بتنقيح الفصلين المذكورين لضمان بقائه في السلطة بل إنه أضاف فقرة جديدة إلى الفصل 41 تمتعه بالحصانة القضائية أثناء ممارسة مهامه وبعد انتهاء مباشرته لها حتى لا يحاسب على كل ما ارتكبه هو وحاشيته وأعوان نظامه من جرائم على حساب الشعب. كما حوّر بعض الفصول الأخرى (الفصل 48 مثلا) لتعزيز صلاحياته على حساب السلطة التشريعية التي هي من الأصل مقزّمة بل مجرّد صدى لما يقرّره. وهكذا يمكن القول إن مضمون الاستفتاء يتلخص في ما يلي: رئاسة مدى الحياة مقرونة بحصانة قضائية مدى الحياة. مما يعني تكريسا واضحا للحكم الفردي المطلق. وأخيرا وليس آخرا وتحسبا لكل طارئ ترك بن علي باب الترشح للرئاسة مغلقا حتى لا ينافسه أحد بل إنه خوّل لنفسه بواسطة تنقيح جديد أدخله سنة 2003 على الفصل 40 من الدستور، اختيار من "ينافسه" أو بالأحرى من يقوم له بدور التيّاس لإضفاء تعددية زائفة على انتخابات رئاسية مزوّرة من الأساس.

إن تحديد عدد الولايات في الأنظمة الرئاسية في الديمقراطيات البورجوازية مثلا يهدف إلى الحيلولة دون تحوّل الرئاسة إلى حكم ملكي مُقَنّع. كما أن تحديد آليات لمراقبة أداء الرئيس لمهامه ومحاسبته ومقاضاته أو عزله عند اللزوم هو ركن آخر من أركان الجمهورية التي يعلو فيها القانون على الجميع وهو ما يميّزها عن الحكم الفردي المطلق الذي لا رقيب عليه ولا حسيب. وفي نفس الوقت فإن ضمان حرية الترشح لمنصب الرئاسة لكافة المواطنات والمواطنين لا يمثّل احتراما لحق أساسي من حقوق المواطنة فحسب وهو الحق في الترشح للمناصب العامة ولكنه أيضا مقومة أساسية من مقومات ممارسة الشعب لسيادته مما يجعله قادرا على الاختيار الحر لمن يمثله أو يحكمه. ولا بد من التذكير بأن النظام الرئاسي لا يمثل رغم هذه التقييدات أكثر النظم ديمقراطية في الجمهورية البورجوازية لما يمنحه من سلطات للرئيس الفرد.

إن انتهاك بن علي للمبادئ التي ذكرناها وتقنين هذا الانتهاك عبر استفتاء مزور من الأساس لينزع عن هذا الاستفتاء كل مشروعية لا من زاوية المبادئ الديمقراطية العامة فحسب بل حتى من زاوية الدستور التونسي على نواقصه ورغم افتقاده لأية قيمة بسبب التلاعب المستمر به. فالفصل 76 من هذا الدستور لئن أعطى رئيس الدولة وثلث أعضاء مجلس النواب على الأقل الحق في تقديم مشاريع لتنقيح الدستور فإنه اشترط صراحة أن لا تمس هذه المشاريع بـ"النظام الجمهوري للدولة" ولا نخال الرئاسة مدى الحياة وتمتيع الرئيس بحصانة قضائية أثناء مباشرته لمهامه وبعدها ومنع حرية الترشح للرئاسة من أسس النظام الجمهوري بل إنها تعزيز سافر لحكم فردي مطلق قائم في تونس منذ عهد بورقيبة.

وفي الواقع فإن بن علي كرر ما كان قام به بورقيبة سنة 1974 حين أوشكت ولايته الثالثة والأخيرة على النهاية مع فارق في الشكل. فإذا كان بورقيبة أعلن نفسه صراحة رئيسا مدى الحياة فإن بن علي ومراعاة لاختلاف الظروف، أعلنها رئاسة مدى الحياة مقنـّـعة. وإذا كان الأول اكتفى بتمرير القرار عبر مجلس النواب فإن الثاني مرره عبر استفتاء صوري على أمل أن يكسبه في الظاهر قوة قانونية أكبر.

إن الشعب التونسي، لو كان يتمتع بالحرية السياسية ما كان ليسمح بإجراء مهزلة كهذه بل إن بن علي ذاته ما كان ليجرأ على استفتائه حول مسائل كهذه تضرب حقوقه في الصميم. إن الغياب التام للحرية السياسية وانعدام ممارسة الشعب لسيادته هما اللذان جعلا بن علي يقدم على تنظيم استفتاء 26 ماي 2002 المهزلة لأنه يعلم أن بوليسه وإدارته، لا الإرادة الشعبية، هما اللذان يحددان مسبقا نتيجته عبر التزوير المنهجي والشامل ومن البديهي أن مثل هذا التلاعب بالسيادة الشعبية لا يكسب ترشح بن علي لولاية رابعة وبقاءه في الحكم أية مشروعية.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني