الصفحة الأساسية > البديل الوطني > الحوض المنجمي والتنمية الموهومـة: الرديف نموذجا
الحوض المنجمي والتنمية الموهومـة: الرديف نموذجا
27 نيسان (أبريل) 2008

أطلق الجغرافي "راتزل" عضو الجمعيّة الجغرافيّة البريطانيّة، والمُتخصّص في جغرافيّة المدن نظريّته المعروفة في مدن المناجم، والتي لخّصتها مقولة "مدن الأشباح"، أي أنّ ظاهرة النزوح عن المناجم ستفقرها من السكّان، وتبقى المباني شاهدا على عُمرانها، أمّا سُكانها فسيُغادرون مع نفاذ الخام الموجود في تلك المناطق، ومنذ ظهور هذه النظريّة في القرن 19 والغرب الرأسمالي يُولـي أهميّة خاصّـة لمناطق المناجم، وإن بتفاوت ملحوظ.

قد نُوغل في تفاصيل التحليل لهذه النظريّة فيتحوّل هذا المقال إلى طرح جغرافي تكثر فيه الأمثلة والجداول والأرقام، وإنّما نريد منه تحديد واقع الحوض المنجمي بقفصة، وخاصة معتمديّة الرديف كنموذج.

I - الحوض المنجمي: التنمية الكاذبة

1- تناقص عدد العُمّـال: منذ ثمانيات القرن الماضي عمدت شركة فسفاط قفصة إلى مكننة قطاع الإنتاج، وتماهت بذلك مع سير منظومة الاقتصاد العالميّة، التي كانت تُكمل أمتارها الأخيرة وبنسق سريع نحو العولمة، فظهرت المقاطع السّطحيّة لاستخراج الفسفاط، والآلات الضخمة، وشركات المناولة بشكلها الجنيني، وكان العام 1996 بداية ظهور التقاعد المُبكّر للعُمّـال وبأعـداد كبيرة، واتفق الإتحاد العام التونسي للشغل مع شركة الفسفاط على انتداب 20% من جملة المتقاعدين سنويّا وذلك لتجاوز النقص الكبير في الشركة.


2- صندوق تنمية الحوض المنجمي
: أحدِث هذا الصندوق لتأثيث أنشطة اقتصاديّة مُوازية لشركة فسفاط قفصة، ولتشجيع الاستثمار في مناطق الحوض المنجمي، وهذا ما كان مُعلنا، غيـر أنّ ذلك كان للاستهلاك الإعلامي وتنويم أبناء الجهة، فقد أثـرى من هذا الصندوق سماسرة نقابات المناجم وأشباه الرأسماليين (مثل مخابر العفاس، ومعامل خميسة خياطة..)، يُضاف إلى ذلك أنّ الدّعم يُمنح بالرشوة والمحسوبيّة والعلاقات المشبوهة بين الوالي ومدير الصندوق والمدير العام لشركة الفسفاط ولجنة التنسيق.

3- الإنتاج ولعبة التأجير الخيالي لعُمّال الشركة: يتحدّث مسؤولو شركة الفسفاط عن الإنتاج الوفير والأسواق المفتوحة والتنافس الدولي.. توازى ذلك مع مستوى تأجير كبير لعُمّـال الشركة جاوز التصوّر والخيال، وكأنّ بالشركة والسلطة تدفع باتجاه تكميم أفواه العُمّال الذين يُمثلون العنصر الأقوى في الحراك الاجتماعي، فهم من يُحدّد استقرار المجتمع وسهولة النهب لأموال الشركة والمجموعة الوطنيّة عامّة، وليس أدل على مركزيّة عمّال المنجم في التحرّكات والاحتجاجات من أحداث مباراة كرة القدم المشهورة سنة 1992 وكيف أدّى إضرابهم عن العمل إلى تحرّك المسؤولين من كل جهة، ونحن لا نذيع سـرّا إذا قلنا أنّ أجورهم المرتفعة، مقارنة بالمستوى العام للأجور، تلعب دورا هاما في لفت أنظارهم عن الواقع المُرّ الذي تعيشُه المناجم، والانسياق وراء إملاء نقابتهم والسير مع نهج السلطة واللامبالاة بما يحدث.

II - انعكاسات سياسة التنمية الواهية:

1- الانعكاس الاجتماعي:

أ- النّزوح المكثف للسكان: يتندّر البعض بقولهم أنّ سكّان "حي الحبيب" في صفاقس أصبح أم العرايس، ويتندّرون بأن لأم العرايس شعبة في المنستير... وغيرها من النوادر التي تُعبّر عن حقيقة قوامُها فرار العائلات من هول البطالة وقلّة الخدمات الصحيّة والتلوّث وانسداد الآفاق أمام الشباب.

ب- ارتفاع نسبة الإعالة: أصبحت عائلات الرديف والحوض المنجمي تعيش من راتب شهري واحد يُعيل من 5 إلى 7 مُعطّلين عن العمل من كلا الجنسين، هذا إذا استثنينا نسبة تعيش من مبالغ شهريّة وموسميّة مصدرها أبناء الجهة العاملين بالخارج.

ج- انتشار ظواهر اجتماعية غريبة: تمثل ذلك في ظاهرة الكحوليّة والعيش المُهمّش ومصطلح "الكانبة" أصبح معروفا في مناطقنا، وهي المكان الذي يقضي فيه شبابنا يوما كاملا لشُرب الكحول والغياب عن واقع مهموم ومُضني، وقد يلجأ البعض إلى السرقة والسطو، وفي أضعف الحالات يلجأ الشباب الجهة إلى التسوُل الذي يُعدُّ ظاهرة غريبة على المنطقة.

2- الانعكاس البيئي:

إنّ مياه مغاسل الفسفاط المتروكة فوق سطح الأرض والجارية في أودية الرديف خاصة، وأم العرايس والمتلوي تحمـل المواد الكيميائيّة وشوائب الفسفاط مع طريقة الاستغلال السطحي ممّا أدّى إلى هلاك البيئة وتدهور المناطق الفلاحيّة المحيطة، وليس أدل على ذلك منطقة "تبديت" التي كانت تُعدّ سـلّة الخضروات لمنطقة الحوض المنجمي كالرديف وأم العرايس والمتلوي، فأصبحت الآن تُعاني من مياه ملوّثة وتُربة قاتلة للزرع والحيوان.

3- الوضع الصحّي: لن نُطيل كثيرا في هذا الباب، لأنّ العودة إلى إحصائيات الوفيات بمرض السرطان يُثبت مدى خطورة الوضع الصحّي بالحوض المنجمي، يُضاف إلى ذلك أنّ الغالبيّة من السكّان تُعاني من أمراض الحنجرة والأنف والحلق جرّاء غُبار الفسفاط والهواء والمياه الملوّثين بالمواد الكيمائيّة، ولن نُضيف شيئا جديدا إذا تحدّثنا عن أمراض الكلى والفم ولون الأسنان.. كل ذلك في غياب الرعاية الطبيّة اللازمـة، وكأنّ السلطة ترفع شعارها في الحوض المنجمي "فسفاطكم لا غيــر".

4- الانعكاس الاقتصادي: لم يكن تأخيرنا بالحديث على المشهد الاقتصادي سهوا أو خطأ منهجي بل كان مُتعمّدا إذ لا يُمكننا أن نتحدّث بتشكيلاتـه المعروفة من فلاحة وتجارة وخدمات، فالنشاط الوحيـد هو صناعي استخراجي، فهذه المنطقة لا تُصلح إلا للاستخراج والخراج.

III - السلطـة في كمّاشــة الحـوض المنجمي:

كـان يوم 5 جانفي 2008 نُقطة فاصلة وإنهاء لسياسة "اكذب.. اكذب حتّى تصدّق نفسك؟"، فالسلطة أوهمت نفسها بأنّ العباد في بلاد المناجم بخير والتنمية سائرة على أحسن وجـه، لكنّ سياسة الرشوة والمحسوبيّة في التشغيل والتآمر اللامشروط من نقابات المناجـم والقتل لطموحات شباب تونس كاملا والحوض المنجمي خاصة قد أخرجت اللّهيب من الرماد، وانطلقت انتفاضة الفقراء ردّا على نتائج مُناظرة التشغيل في ظاهرها وعُمقها ردّة فعل على تراكم سنوات الإهمال والجوع والتفقير المُنظّم، والتي بلغت ذروتها في السنوات الأخيرة وكانت إضرابات الجوع والإعتصامات والمسيرات سلاح المُحتجّين، وكان للرديف نصيب الأسد من هذه التحرّكات بفضل جهود جملة من المناضلين الذين أطّـروا هذه التحرّكات التي لم تخرج عن إطارها السلمي الأهلي، الشيء الذي أخــرج غسيل السّلطة وأعـوانها من البيروقراطيّة النقابيّة وكلاب حراسة الأمناء.

فشل المؤامرات واللجوء إلى الحل الأمني: لئن سعت السلطة إلى إفشال حراك الفقراء في معتمديّة الرديف (القلب النابض في الحوض المنجمي) وأم العرايس والمظيلة، فإنّ ذلك لم ينطل ولم يُمرّر على اعتبار وأنّ سبل السلطة وطرقها أصبحت مكشوفة لدى عموم الشعب التونسي وأبناء الحوض المنجمي خاصة، فلم يُغن اللجوء إلى العروش ولا تغيير المسؤولين ولا الرحلات المكوكيّة للوزراء، ولا توصيات الأمين العام للتجمّع لقواعده شيئا أمام الوعي الجماهيري بضرورة التنمية الفعليّة والتشغيل الشفاف.

خيّرت السلطة مسار الحل الأمني، فحوّلت مدخل مدينة الرديف إلى معسكر، وتيقن أهـالي الرديف من أنّ الاقتحام البوليسي وارد لا محالة (خاصة بعد التفاوض وإلغاء الإضراب العام الذي تقرّر في مارس الماضي)، وكان يوم الأحد ليلا إيذانا ببدء الحملة بعد أن حبكت السلطة مُؤامرة أخـرى من مؤامراتها الدنيئة حين أرسلت ملثمين ليهاجموا مركز شرطة المدينة، ويتوفر لها المُبرّر لاعتقال النشطاء من المُعطّلين، ثم النقابيين، وبالفعل كان يوم الاثنين 7 أفريل 2008 "يوم الاعتقال"، فمنذ الساعة الرابعة صباحا بدأت مداهـمة البيوت وترويع الأهالي واعتقال الناشطين في مشهد لا يختلف عن مشاهد فلسطين والعراق، ومع طلوع الصباح كانت الأيادي القذرة تعتقل النقابيين العائدين من تونس لتوّهم، وتعذبهم أمام الناس، لتنطلق مسيرة الردّ على الاعتداءات ونشطت المقاومة الشعبيّة والأهليّة، من اعتصامات وإضراب عام شلّ جميع مناحي الحياة في الرديف، لتتراجع قوات البوليس أمام التصدي الشعبي، والضغط الوطني، والمساندة الخارجية للقوى التقدميّة، فأفرج عن المعتقلين، ليُعلن نظام الحكم فشله في الحل الأمني، وبقي الشعار المرفوع لدى أهالي الرديف "التنمية الفعليّة والتشغيل الشفاف"، "التشغيل.. التشغيل لا وعود ولا تضليل..".

أبُو الوليد


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني