الصفحة الأساسية > البديل الوطني > الطاهر الهمامي وداعـا
الطاهر الهمامي وداعـا
11 أيار (مايو) 2009

إخوتي في محبّة الطّاهر.. الطّاهر الطائر، إنّ عِظم الرّزية وجلال المقام يعقدان كلّ لسان مهما أُوتي صاحبه من رباطة الجأش وثبات الجَنان فلا يقوى على البَوْح بما يجيش في النّفس من صادق الودّ وآيات العرفان. ورغم ذلك فلا بُدّ ممّا ليس منه بدٌّ.. لابدّ من كلمة وفاء للوفاء ولو اقتضى الأمر الاستعانة بالورق كما ترونني أفعل الآن.

وأخيرا ودّعنا الطّاهر الهمامي يوم 2 ماي فجأة وعلى عجل يحثّ خطاه نحو مثواه الأخير وكأنه ضاق ذرعا بحياة لا تُقدّر المبدعين حقّ قدرهم.

لقد غادرنا دون أن يُمهلنا قليلا من وقته لالتقائه وتوديعه الوداع الأخير فخلّف فراقه في القلب لوعة وفي النُفس حسرة.

لم تمنحه الحياة إلاُ ستة عقود قضّى أربعة منها منتصرا للإبداع الحرّ وقضايا الكادحين والكادحات، والعامل والمرأة، مدافعا عن قيم الحرية والعدل والمساواة، متمرّدا على البالي المكبّل لنهضة العقول والعتيق المناهض لروح التقدّم، ومحاصرا حصاره. أحبّ الطاهر البلاد كما لا يحب البلاد أحد، وأخلص لها كأسمى ما يكون الإخلاص وأتقن فنّ عبادة الشعر في محاريب شعرائها الجهابذة الخالدين فظلّ يكتب الشعر ويتكلّم على الشعر..

دخل الطاهر الهمامي معترك الساحة الأدبية وهو شاب في العشرين من عمره فرفع شعار التجديد وخلق أدب تونسي لحما ودما.فكان واحدا من مؤسسي تيار شعري سُمِّي "في غير العمودي والحرّ" الجناح الشعري لحركة الطليعة الأدبية. وقد ظلّ الطاهر، منذ ذلك الوقت أي منذ أربعين سنة ، لا يكِلُّ ولا يملُ، يُبدع وينقد ويُنظّر ويُجادل ويُترجم ويُؤطُر ويُحاضر مشرقا ومغربا مُعرّفا بالشعر التونسي ورموز الحركة الأدبية في هذه الرّبوع.

إلاّ أنّ الاهتمام الأكبر للطاهر الهمامي انصبّ على حركة الطليعة الأدبية الّتي خصّها ببيانات ومقالات ودراسات وأطروحة جامعية فاقترن اسمه بها واقترنت به. فكان تارة منافحا عنها وطورا معرّجا على نقائصها وثغراتها. وفي الحقيقة ليس من اليسير تعديد مشاغل الطاهر والمجالات التي ارتادها واحتساب المقالات التي كتبها. فهو مفرد في صيغة الجمع وجمعٌ لا يُكرّر نفسه: كان شاعرا وناقدا وباحثا ومدرّسا جامعيا ومشرفا على أطروحات الطلبة ونقابيا ومناضلا تقدميا وصاحب مواقف جريئة. وأينما حلّ ترك بصمة وخلّف ذكرى. وكلمتنا هذه ليست رثاء أو تأبينا له. فهو أسمى من هذا وذاك وإنّما هي احتفاء به وتكريم له. وهو جدير بكل ذلك.فأينما حلّ الطاهر كُرِّم. وكلّما نزل ضيفا على شعراء حلب الفيحاء أكرموا وفادته، وإذا ما حلّ ركبه بالجزائر زائرا صديقه الطاهر وطّار كان الودّ والترحاب. وما إن أقصته وزارة التعليم العالي على الهوية لمّا بلغ سن التقاعد حتى سارع زملاؤه بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة إلى تكريمه في السنة الماضية بمناسبة الدورة السادسة عشرة للأيام الشعرية باعتباره مؤسس هذه الأيام.

غادرنا الطاهر مخلّفا وراءه إرثا أدبيا غزيرا ومتنوّعا يربو على أكثر من عشرين مؤلفا. رحل عنّا الطاهر لا كما يرحل الرّاحلون: يرحل الرّاحلون في المكان يمكثون به ولا يبرحونه ويرحل هو في الزّمان يرتاد آفاقه من وراء الآفاق يُؤنسه شعره ويهديه فكره. وإذا كان الموت قادرا على خطف أجساد العابرين فهو أكثر من عاجز عن قنص أرواح الخالدين. أيموت من أمات الموت؟! وهل يموت من ملأ الدنيا وشغل النّاس بشعره وأسلوبه ولغته "وتخريجاته" وكتاباته الساخرة وروحه الفكهة المرحة؟ وهل يموت من عاش فارع القامة مرفوع الهامة يتحدّى ويصارع، يشقّ طريقه وسط الزّحمة ليجلو العتمة ويرسم على شفاه المحرومين البسمة ويُسمعهم أحلى نغمة؟ وهل يموت من كانت تونس له خيمة يتظلّل بها وغيمة يرتوي من كوثرها ونجمة يهتدي بسناها؟

خذ العهد علينا ستظلّ يا حبيبنا الطاهر معنا وفينا. نم قرير العين مرتاح البال هادئ الضمير فسيكون تراثك خير نبراس لنا نستضيء به في الليلة الظلماء..

إبراهيم العـثماني
نور الدين بوثوري


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني