الصفحة الأساسية > البديل الوطني > الفصل الأخير من مهزلة بائسة
على هامش مؤتمر "الحزب الحاكم":
الفصل الأخير من مهزلة بائسة
16 آب (أغسطس) 2008

انتهى مؤتمر "الحزب الحاكم" (التجمّع الدستوري الديمقراطي) في نهاية الأسبوع المنقضي. وقد افتتحه بن علي "رئيس الحزب" و"رئيس الدولة" بخطاب لم يجد ما يعلن فيه لأتباعه وللشعب التونسي سوى أنـّه سيترشـّح للرئاسة للمرّة الخامسة على التوالي، زاعما أنه يفعل ذلك "استجابة للنداء" الذي توجهت به إليه "كافة فئات الشعب" كي يواصل "مسيرة البناء والتشييد" الذي ابتدأها منذ وصوله إلى الحكم ذات فجر يوم من أيام نوفمبر 1987.

وفي الحقيقة فإنّ بن علي بإعلانه هذا ينهي الفصل الأخير من مهزلة بائسة يعرف القاصي والداني مسبقا كامل فصولها. لقد بدأت المحبوكة في قصر قرطاج "برعاية" بن علي نفسه بتحريك عدد من الدمى مدفوعة الأجر كي تناشد "البطل" بالبقاء في الحكم بدعوى أنّ "البلاد والعباد في حاجة ماسّة إليه" بل بدعوى أنّ "السفينة ستكون عرضة للغرق إذا لم يكن هو في قيادتها". وقد تواصلت حملة "المناشدات لمدّة تزيد على العام مع إعطاء انطباع كاذب بأنـّها "تتوسّع" وذلك بالإيعاز لكافة "التابعين والتوابع والتبّاع" بتحرير البيانات وإرسال البرقيات التي يُفرض على وسائل الإعلام المرهون بقاؤها بما تمنّ به عليها "وكالة الاتصال الخارجي" من "إعلانات إشهاريّة" نشرها.

وقد لازم "البطل" - أي بطل المهزلة البائسة- الصمت طوال هذه المدّة حتى يظهر كأنّه ليس المدبّر لهذه الحملة وكأنّه "يفكـّر" في الأمر ويتعاطى معه "بجدّية"، بل حتى يظهر كأنـّه "متردّد" أو"غير راغب" في البقاء بعد كلّ السنوات التي قضاها في الحكم والتي ستصل إلى 22 سنة عام 2009. ولكنـّه في النهاية صعد إلى الركح، وكان هذه المرّة ركح "حزبه"، ليعلن وهو يتصنـّع التشويق (مردّدا ثلاث مرات عبارة "أقول لكم...") أنـّه "يقبل" بـ"بالغ التأثـّر" للاستجابة لـ"نداء الشعب ليواصل المسيرة معه" شاكرا إياه على "العرفان بالجميل"!!!

وقد قام الجالسون بالقاعة ليصفقوا ويهلـّلوا. وفي خارج القاعة انطلقت في "العديد" من المدن "مسيرات عفويّة" كان مُعَدّا لها منذ شهور إن لم نقل كانت مبرمجة منذ سنوات، للتعبير عن الفرحة بـ"استجابة القائد" لـ"مواصلة المسيرة مع شعبه". كما سارعت بعض الجهات بإصدار بيانات "الاستبشار" و"الارتياح" و"الابتهاج" وكانت أوّلها جمعيّة "بسمة" "الخيريّة" التي ترأسها ليلى بن علي أي زوجة الرئيس/المترشـّح، وكان من بينها المجلس الإسلامي الأعلى الذي لم يتخلـّف هذه المرّة عن التعبير عن بهجته.

إنّ قمّة النفاق و"الترهدين" (بالعاميّة التونسيّة) تتمثل في تظاهر كلّ هؤلاء بأنهم كانوا يخشون أن "يرفض" "القائد" الاستجابة لـ"نداء الشعب" و"يخيّب الآمال"، وفي تظاهرهم أيضا بالشعور بـ"الراحة والاطمئنان" بعد أن "قبل" الترشح مرّة خامسة. فيا له من إخراج بائس لمهزلة غاية في الرّكاكة والابتذال!!! فمن في تونس، حتى البلهاء، لم يكن يدرك مسبّقا أنّ بن علي سيعلن "في آخر حلقة" عن "قبوله" الترشـّح؟! ومن في تونس لا يعرف أنّ بن علي هو كاتب "المسلسل" المملّ ومخرجه وبطله من بدايته إلى نهايته؟!

لقد كان بورقيبة، وهو الدكتاتور الذي حكم تونس أكثر من ثلاثين سنة، أكثر وضوحا وصراحة على الأقلّ عندما قرّر سنة 1974 البقاء في الرئاسة مدى الحياة، قالها دون تردّد: "لماذا يبقى فرانكو (دكتاتور إسبانيا – من عندنا) وتيتو (دكتاتور يوغسلافيا) وغيرهما في الحكم مدى الحياة ولا أنا الذي حرّرتكم من الاستعمار وجعلت منكم أمّة؟!"، أمّا بن علي فقد اختار أسلوب الاحتيال: الرّئاسة مدى الحياة "دورة، دورة" بعد أن غيّر الدستور عام 2002 وألغى منه الفصل الذي يحدّد عدد الولايات رغم أنه هو الذي قال بلسانه عام 1987 أن "لا رئاسة مدى الحياة بعد اليوم" ورغم أنه هو الذي حوّر الدستور حينها كي لا يتجاوز ولايات الرئيس الثلاث (أي 15 سنة).

يا لتونس المسكينة!!! يهزأ بن علي وطغمته من ذكاء شعبها ويمعنان في الاستبداد به وباسمه وبدعوى خدمة مصالحه! والحال أنّ الذي له مصلحة في بقاء بن علي في الحكم وبالتالي في الرئاسة مدى الحياة ليس هذا الشعب الذي يكتوي بناته وأبناؤه يوميّا بنار البطالة والتهميش وغلاء الأسعار وبسوط المرض وعصى القمع الذي يصعب أن توجد عائلة لم يطلها خلال العشرين سنة ونيّف من حكم بن علي، وإنّما هو حفنة العائلات من أقارب بن علي وأصهاره وأصدقائه الذين استولوا على خيرات البلاد وثرواتها وعرق شعبها والذين تمثل الديمقراطيّة تمثـّل الديمقراطيّة عدوّهم اللـّدود لما فيها من خطر على مصالحهم الأنانيّة.

إنّ الاستبداد، وهذا ما ينبغي أن يفهمه الجميع، ليس نظاما سياسيا معزولا عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي أي عن الطبقات الاجتماعيّة والصراع بينها، بل هو الأداة السياسيّة أو النظام السياسي الذي تحقق به تلك الفئة من مصاصي الدماء نهب البلاد واستغلال الشعب وتفقيره وتدمير مقدراته بالتعاون مع الشركات والدول الامبرياليّة الأجنبيّة.

إنّ ما عاشه أهالي الحوض المنجمي خلال الأشهر الأخيرة يمثل خير شاهد على طبيعة الاستبداد وحقيقته، فرغم ما يوفـّره الفسفاط من أرباح خياليّة للدولة، دولة الكمبرادور واللصوص، فإنّ أهالي المنطقة لم يجنوا سوى مزيد البطالة والفقر والتهميش وتفاقم الأمراض الخطيرة الناجمة عن التلوّث الذي أصاب الهواء والتربة والماء. ولمّا خرجوا إلى الشارع للاحتجاج على وضعهم المتدهور باستمرار وللمطالبة بأدنى مقوّمات العيش الكريم بطريقة سلميّة، بعث إليهم بن علي بالآلاف من أعوان بوليسه لينكـّلوا بهم ويطلقوا عليهم الرصاص ويعتقلوا أبناءهم ويعذبوهم ويلقوا بهم في غياهب السجون وينهبوا، كجيش "الانكشاريّة"، ممتلكاتهم الخاصّة. وهكذا ظهر للأهالي مدى الارتباط بين الاستبداد والاستغلال، كما ظهر لهم أنّ الدولة ليست دولتهم بل دولة حفنة العائلات والشركات الأجنبيّة التي تنهب تونس.

وبطبيعة الحال، لا يمكن لأيّ عاقل أن يتصوّر أنّ أهالي الحوض المنجمي من مصلحتهم بقاء بن علي في الحكم أو من مصلحتهم الحكم الفردي المطلق، بل لا يمكن لأيّ عاقل أن يتصوّر أن من مصلحة الشعب التونسي قاطبة أن يستمرّ بن علي في الرئاسة مدى الحياة، لأنّ ذلك يعني استمرار القمع السياسي والنهب والاستغلال والتبعيّة. واليوم، وبعد أن أعلن بن علي "قبول الترشح لولاية خامسة" وبعد أن مرّر يوم 24 جويلية الماضي القانون الدستوري الخاص بانتخابات 2009 الرئاسيّة والذي حدّد فيه مسبقا من سينافسه أي في الواقع من سيقوم بدور "التيّاس" لإضفاء شرعيّة زائفة على بقائه في الحكم، ماذا بقى على المعارضة الجادّة أن تفعله سوى أن توحّد صفوفها على أرضيّة دنيا وتتحمّل مسؤوليّتها من أجل إخراج تونس وشعبها من النفق المظلم. لقد سارت قوى المعارضة إلى حدّ الآن في مسارات مختلفة أدّت إلى شيء من التوتـّر داخل صفوفها. ولكن، ودون إلقاء المسؤوليّة على هذا الطرف أو ذاك، فإنّ الأمر اليوم أصبح واضحا. فنظام الحكم ممعن في نهجه الاستبدادي بل كلّ المؤشرات تدلّ على أنـّه متجه نحو تصعيده وليس في نيته تقديم أيّ تنازل لمعارضة مشتـّتة الصفوف. لذلك فإنّ من أوكد الواجبات تجميع الصفوف حول حدّ أدنى لا يختلف حوله الجميع وهو تعبئة الناس حول شروط الانتخابات الحرّة، حتـّى يدركوا حقوقهم ومدى دوس نظام الحكم لها ولمبدأ السيادة الشعبيّة. وعلى كلّ طرف أن يقرّر في نهاية المطاف ما إذا كان يريد المشاركة أو المقاطعة، ولكن المهمّ اليوم أن لا توفـّر المعارضة فرصة أخرى لنظام الحكم كي ينظـّم مهزلة جديدة دون أن يجد في وجهه معارضة قويّة.

تونس في 5 أوت 2008


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني