الصفحة الأساسية > البديل الوطني > القضايا المفبركة علامة من علامات إفلاس الدولة
على هامش محاكمة بن بريك:
القضايا المفبركة علامة من علامات إفلاس الدولة
3 كانون الثاني (يناير) 2010

أصدرت إحدى الدوائر بالمحكمة الابتدائية بالعاصمة، يوم 26 نوفمبر الماضي حكما يقضي بسجن الكاتب والصحفي اليساري المستقل توفيق بن بريك لمدّة 6 أشهر نافذة من أجل العنف والقذف والاعتداء على ملك الغير. إنّ السلطة، رئيسا وحكومة وبوليسا وقضاء ووسائل إعلام، تزعم شديد الزعم أن بن بريك "المتهور"، "المتجبّر"، "المتغطرس"، "اعتدى" على "مواطنة مسكينة"، قادتها "الأقدار" إلى اعتراضه "صدفة" في يوم من أيام شهر أكتوبر الماضي، فـ"ضربها" و"سبّها" و"شتمها" و"كسّر مرآة سيارتها". ومما يؤكد "صحة" روايتها هو أنها استظهرت بـ"شهادة طبية" تمنحها راحة بخمسة عشر (15) يوما، كما أنها أحضرت "شهودا" على ما "حصل لها". وبما أننا في تونس "موطن الطاهر الحداد ومجلة الأحوال الشخصية" أي بعبارة أخرى "موطن الريادة في حماية حقوق المرأة"، وبما أننا أيضا في "دولة القانون والمؤسسات" فإنه لا يمكن أن تمرّ "جريمة" "الصعلوك" توفيق بن بريك دون عقاب، ولا يمكن لهذا الأخير أن يتحصّن بصفته "الكاذبة" (حسب الصحافة الرسمية وشبه الرسمية والخاصة) ككاتب وصحفي ليدوس قوانين البلاد، فالجميع في تونس، والكلام هنا لبن علي، يوم تجديد تنصيبه لرئاسة مدى الحياة، يقع التذكير بها وتأكيدها مرة كل خمس سنوات عبر مهزلة انتخابية، "متساوون أمام القانون بقطع النظر عن انتماءاتهم الفكرية والسياسية" (12نوفمبر 2009).

وبطبيعة الحال ينبغي أن يكون المرء مغفّلا، ونحن لا نعتقد أن تونس ما زال فيها مغفّلون كثيرون، بعد الثورة الإعلامية التي أحدثتها الفضائيات وشبكة الانترنت، حتى يصدّق الاتهامات الموجهة إلى توفيق بن بريك وكلام بن علي المعسول حول المساواة أمام القانون وحول استقلالية القضاء التونسي إنّ بن بريك أوقف بسبب المقالات التي كتبها والمقابلات الصحفية التي أجراها، بمناسبة المهزلة الانتخابية، مع عدد كبير من رموز المعارضة السياسية والمدنية ونشرها في وسائل إعلام أجنبية. وقد اتسمت هذه الكتابات بنقد حادٍّ لنظام بن علي ورفض شديد لسطوه المستمر على إرادة الشعب التونسي. وكان من بين تلك الكتابات حوار صحفي خيالي مع بن علي حول كيفية تصريفه لشؤون البلاد خلال هذه الفترة الطويلة من حكمه. وحول تمسّكه بـ"الكرسي" بعد أن كان وعد بوضع حد للرئاسة مدى الحياة.

فبركة القضايا: سياسة ممنهجة

ليس بن بريك هو الوحيد الذي وقع في هذه الفترة ضحية التلاعب بالقانون والقضاء ولفّقت له قضية حق عام من طرف السلطة وبوليسها، على خلفية سياسية، فـزهير مخلوف الناشط الحقوقي وعضو الحزب الديمقراطي التقدمي اعتقل وحكم عليه بثلاثة أشهر سجنا وخطية مالية بـ:6 آلاف دينار، على خلفية تحقيق مصور أجراه حول تردّي الحالة البيئية بالمنطقة الصناعية بنابل وانعكاسات ذلك السلبية على حياة السكان. كما أن عددا من ناشطي الحركة الطلابية (14) هم الآن بالسجن بسبب التحركات التي قادوها أو شاركوا فيها دفاعا عن حق الطالبات والطلاب في السكن الجامعي (مبيت منوبة بالعاصمة). وقد أحالهم البوليس بتهم حق عام، أصبحت معتادة في قضايا الطلاب، وهي "السكر والعربدة في الشارع والاعتداء على الأخلاق الحميدة" وقد صدرت في شأنهم أخيرا أحكام قاسية وصلت إلى ثلاث سنوات وشهر سجنا. ومن بين ناشطي الحركة الطلابية المعتقلين أيضًا، يوجد الطالب محمد السوداني (الذي أطلق سراحه أخيرا) والذي اختطف بالعاصمة يوم 22 أكتوبر إثر لقائه مع صحفيتين فرنسيتين. وقد تعرّض لتعذيب وحشي وأحيل بتهمة "السكر والاعتداء على الأخلاق الحميدة، وحكم بـ:4 أشهر سجنا. في انتظار ما سيصدر ضده من أحكام في قضايا أخرى على خلفية نشاطه النقابي.

وبالإضافة إلى هؤلاء المناضلين والمناضلات المعتقلين يمكن إضافة حالتي حمّه الهمامي الناطق الرسمي باسم حزب العمال الشيوعي التونسي ومدير جريدة "البديل" المحظورة، وراضية النصراوي، المحامية ورئيسة الجمعية التونسية لمقاومة التعذيب، الملاحقين بتهم لم تتضح بعد، على خلفية تصريحاتهما لوسائل إعلام عربية (الجزيرة، قناة الحوار اللندنية) وأجنبية (فرنسا 24 الناطقة بالعربية...)، تعرّضا فيها للأوضاع في تونس وانتقدا ظاهرة الفساد والتزوير الانتخابي وانتهاك الحريات وحقوق الإنسان. ومحمد بن سعيد الناشط الحقوقي ببنزرت الذي اكتشف أخيرا أنه ملاحق من أجل " الاعتداء على الأخلاق الحميدة..." ولا بد من الإشارة إلى أن عددا من الناشطين والناشطات "دفعوا بالحاضر" دون أن تلفّق ضدهم قضايا حق عام. فالصحفي سليم بوخذير اختطف قرب مقر سكناه بباردو، على إثر تصريح للـ"بي بي سي" ونقل في سيارة مجهولة إلى حديقة البلفيدير بالعاصمة حيث اعتدى عليه مختطفوه اعتداءً وحشيا خلّف له أضرارًا جسدية، ونزعوا له أدباشه وسلبوه وثائقه الشخصية قبل أن يتركوه طريح الأرض وشبه عار. كما تعرّض الناشط الحقوقي عمر المستيري للاختطاف من أمام مكتب الأستاذ عياشي الهمامي بالعاصمة وزجّ به في سيارة "للنقل الريفي" واعتدي عليه بالضرب وألقي به خارج العاصمة في منطقة غير آهلة بالسكان.

ولكن ظاهرة افتعال قضايا الحق العام ضد المناضلات والمناضلين ليست جديدة حتى تنطلي على الرأي العام الداخلي والخارجي، بل هي ظاهرة قديمة قدم نظام بن علي الذي وصل إلى السلطة في 07 نوفمبر 1987. لقد كان بورقيبة دون أي شك، حاكما مستبدا، دكتاتورا، ولكنه كان واضحا، لا يتصنّع الديمقراطية مثل خلفه، ولا يدّعي "صيانة حقوق الإنسان في معناها الشامل". كان "ثبّت الله أجره" يحيل ، في أغلب الأحيان، معارضيه بتهم ذات طابع سياسي، سواء كان ذلك أمام "محكمة أمن الدولة" التي أنشأها لهم خصّيصا في عام 1968، أو أمام المحكمة العسكرية أو المحكمة العليا التي أنشأها لمحاكمة رجالات نظامه ولكنّ التاريخ لا يعيد نفسه، وإن حصل ذلك ففي شكل مهزلة، وهو ما كان "قدر" بلادنا. فعندما افتكّ بن علي السلطة من سلفه، عن طريق انقلاب أبيض، صرّح في بيانه "الفَجْري" قائلا: "لا ظلم بعد اليوم"، كما أنه "وعد بتحقيق الديمقراطية" و"إعادة الاعتبار إلى مبادئ النظام الجمهوري"، ومنها "علوية القانون والمساواة أمامه واستقلالية القضاء". ولكن، "الله يرحمك يا راجل أمي الأول" كما يقول المثل الشعبي. إن القمع السياسي لم يتواصل في "العهد الجديد" فحسب، بل إنه اشتدّ، حال انتهاء بن علي من "إعادة ترتيب البيت"، وخلافا للعهد القديم، أي عهد بورقيبة، أصبح معارضو نظام الحكم غالبا ما يساقون إلى المحاكم كـ"مجرمي حق عام" يتهمهم بالعنف والتزوير واستهلاك مخدرات والانتماء إلى عصابة مفسدين"، الخ.

إنّ من أشهر القضايا المفبركة، تلك التي شملت الأمين العام السابق لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين محمد مواعدة. لقد اتُهِم هذا الأخير بـ:"العمالة للنظام الليبي" و"تسلُّم مبالغ مالية منه تقدّر بـ 6 آلاف دولار". وحكم عليه بقرابة 11 سنة سجنا. وقد لفّقت هذه القضية ضد مواعدة على خلفية الرسالة المفتوحة التي وجهها إلى بن علي في سبتمبر 1995 والتي انتقد فيها أوضاع الحريات ببلادنا. ومن المضحكات المبكيات، أن محمد مواعدة نسى اليوم كل ذلك، وانتقل إلى صف جلاده، يمدحه ويسبّح باسمه، "ويخوّن" كل الذين دافعوا عنه بالأمس وأنقذوه من التعفن بالسجن، ومن بينهم على وجه الخصوص زميله بالمكتب السياسي آنذاك، الحقوقي خميس الشماري الذي أودع السجن بسببه وحكم عليه بخمس سنوات، قضى منها قرابه العام. ومن بين ضحايا القضايا المفبركة أيضا نذكر الأمين العام السابق للاتحاد العام لطلبة تونس، والقيادي في "الحزب الاشتراكي اليساري" والمترشح أخيرا للانتخابات التشريعية نوفل الزيادي. فقد اتهم هذا الأخير في عام 1993 باستهلاك المخدرات على خلفية مواقف المنظمة الطلابية النضالية وأعتقل وحكم عليه بعام سجنا. وها إنه اليوم هو أيضا يلتحق بأحزاب الموالاة ويتهجّم على رموز المعارضة المستقلة بنفس ما كان يتهجّم به عليه في "السنوات الغابرة". وإلى جانب محمد مواعدة ونوفل الزيادي فقد افتعلت السلطة قضايا حق عام ضد حمّه الهمامي (1992، 1994) والناشط الحقوقي نجيب الحسني (1994) ومحمد عبو (2005) وزكية الضيفاوي (2008)، الخ. وكانت التهم في هذه القضايا تتراوح بين "الاعتداء بالعنف" و"التزوير والتدليس" و"الاعتداء على الأخلاق الحميدة"، الخ. ولم يشمل افتعال القضايا المناضلين السياسيين والحقوقيين فحسب، بل طال رموز من ميادين أخرى، فخلال العام الحالي افتعل البوليس قضية حق عام للاعب كرة القدم الشهير طارق ذياب، على خلفية رفضه مصافحة وزير الشباب والرياضة، عبد الله الكعبي، بمناسبة نهائي كأس تونس (2008). أقصي طارق ذياب من منصبه كنائب رئيس للترجي الرياضي التونسي وأحيل على المحكمة بتهمة "محاولة إرشاء عون أمن" وحكم عليه بالسجن مع تأجيل التنفيذ وخطية مالية. كما أنه افتعل قضية حق عام ضد الفكاهي الهادي أولاد باب الله على خلفية "سكاتش" قدمه أمام جمهور ضيّق، ولكنه انتشر عبر الهاتف الجوّال. وقد أثار في هذا السكاتش موضوع الفساد في صلب "العائلة الحاكمة". اعتقل الفنان واتهم بـ"مسك مخدّر" وبـ"حيازة عملة مزيّفة" وكاد "أن يذهب في داهية" لولا التعبئة المحليّة والدولية التي أنقذته من البقاء سنوات في السجن.

وهكذا فإن ما يحصل اليوم لتوفيق بن بريك وغيره من رموز الحركة الديمقراطية، إنما يندرج ضمن تقليد ممنهج سار عليه بن علي منذ اعتلائه السلطة. ولا يخفى على أحد أن الهدف من هذه السياسة هو أولا: الإيهام بأن الحريات وحقوق الإنسان "مصانة ومحترمة" في "العهد الجديد" وأن لا أحد يُضْطَهَدُ من أجل آرائه وأنشطته الفكرية والسياسية والحقوقية والنقابية. ثانيا: تشويه سمعة المناضلات والمناضلين في مختلف الميادين وتقديمهم إلى الرأي العام على أنهم "مجرمو حق عام"، لا هم تحرّكهم مبادئ وقيم نبيلة ولا هم يسعون إلى تحقيق أهداف سامية، وإنما هم "أشخاص يتستّرون بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان" لـ"الارتزاق والنيل من حقوق الآخرين والاعتداء عليهم وتشويه سمعة تونس" لذلك لا يتوقف بن علي ووزراؤه عن التصريح بأنه "لا وجود لمساجين سياسيين في تونس" وبأن الذين تطلق عليهم المنظمات الحقوقية المحلية والإقليمية والدولية هذه الصفة هم "مساجين عاديون، تورّطوا في قضايا حق عام عادية، وطبّق عليهم القانون كما يطبّق على أيّ مواطن وتمتعوا بكافة ضمانات المحاكمة العادلة" وبعبارة أخرى فإن هذه المنظمات إذ تدافع عن "مجرمي حق عام" قد أصبحت هي أيضا "منظمات غير جادة ومناوئة ومتآمرة على تونس" وعلى "ما تحقق لها من إنجازات عظيمة في العهد الجديد".

العداء للحرية والديمقراطية وراء افتعال القضايا

إنّ لجوء ين علي إلى مثل هذه الأساليب في التعامل مع معارضي نظامه، ينبغي البحث عن أسبابه في معاداته للحرية والديمقراطية أي في عقليته الاستبدادية. لقد ورث بن علي نظاما استبداديا، كان هو ذاته ساهم في بنائه وتركيزه، بل إنه كان طوال السنوات التي سبقت اغتصابه للسلطة على رأس أجهزته البوليسية (وزارة الداخلية) وتولى بنفسه إدارة أهم الحملات القمعية التي استهدفت الحركات السياسية والنقابية والطلابية، الخ. وما أن أصبح على رأس الدولة، حتى حافظ على نظام الاستبداد بأجهزته القمعية وقوانينه ومؤسساته الجائرة التي عمد إلى تدعيمها وتقويتها أكثر من ذي قبل. ومن هذا المنطلق رفض بن علي وما يزال وجود أحزاب وجمعيات ومنظمات مستقلة في تونس، كما رفض وما يزال أن يكون للجماهير الشعبية نشاط حر ومستقل للتعبير عن آرائها والدفاع عن مصالحها وطموحاتها. وإذا كان لا بدّ من وجود أحزاب وجمعيات ومنظمات، تأقلما مع الأوضاع الدولية الجديدة، فلا يمكن أن تكون غير كيانات ديكورية، لتجميل الاستبداد، على غرار أحزاب الأينوبلي ومنذر ثابت ومحمد مواعدة ومنجي الخمّاسي ومحمد بوشيحة، تسبّح دائما بحمد صانعها ومُرْشيها "الضامن في استمرار وجودها".

كما ينبغي البحث أيضا عن تلك الأسباب في الطابع البوليسي البارز لنظام بن علي. كان بورقيبة قمعيا وكان يعتمد في قمعه على جهاز البوليس، ولكن هذا الجهاز كان تحت إمرته هو وتحت إمرة حزبه الذي كان له نسبيا حضور إيديولوجي وسياسي. أما مع بن علي فقد تغيّر الوضع إذ أصبح جهاز البوليس يسيطر سيطرة كلّية على أجهزة الدولة، كما أصبح الحزب (التجمع) الدستوري مجرّد جهاز في خدمة البوليس السياسي، لا وجود فيه لأية حياة فكرية وسياسية بل إنه "يراقب" و"يبلّغ" لقد تكيّف الجميع مع العقلية البوليسية السائدة ومع أساليب العمل والتصرّف المرتبطة بها، علما وأن بن علي ذاته، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، لم يأت من خارج جهاز البوليس، بل من داخله وهو الذي أعاد تنظيمه وعزز دوره ليكون في خدمة نظامه وفي خدمة الأقليات التي تسنده وتنتفع منه.

كان بورقيبة ،الدكتاتور، يجادل خصومه، في خطبه. يجادل أتباع الحزب الدستوري القديم، والحزب الشيوعي التونسي واليوسفيين و"أفاق" و"العامل التونسي" ومناضلي الاتحاد العام لطلبة تونس والقوميين، ناصريين وبعثيين، ويحاول إظهار أنهم "على خطأ" بينما هو "على صواب". وكان يبرر القمع الذي يسلّطه نظامه عليهم بـ"ضرورة الحفاظ على الوحدة القومية" و"تجنّب كلما من شأنه أن يعيق أو يعرقل مجهودات التنمية"، وهي كلها بالطبع ذرائع لا أكثر ولا أقلّ، لتبرير الحكم الفردي المطلق ولكن الرجل لم يخرج على الأقل عن مجال السياسة. أما بن علي فإن مرجعيته المخابراتية – البوليسية لا مكان فيها لنقاش الأفكار والمواقف والنظريات بل هي تستند في الأساس إلى الكذب والخداع والدسائس والتشويه والعنف والمناورة "كأدوات عمل" (ماعون خدمة) للإيقاع بالخصوم وسحقهم. وقد حوّل بن علي بعد وصوله إلى الحكم هذه الأساليب البوليسية إلى سياسة دولة في التعامل مع المجتمع ومع المعارضة بصفة خاصة. إنّ المعارض وفقا لهذا المنطق، هدف للسحق والمحق بتلك الأساليب مجتمعة. لذلك ليس من الغريب أن يلاحظ المراقب غياب أي جدل فكري أو سياسي في خطاب بن علي وفي الخطاب الرسمي بشكل عام، غياب أي محاولة للردّ على الحجة بالحجة، والموقف بالموقف والنظرية بالنظرية. إنّ المنطق السائد هو المنطق التسلّطي في كل الاتجاهات: "قرّرنا..." "أذنّا بـ...." "وجّهنا تعليماتنا إلى...." "أمرنا بـ....." وحين يتعلّق الأمر بالمعارضة، فالخطاب لا يخرج عن معجم "الجريمة" و"الانحراف" و"الارتزاق" و"الخيانة". وعند الاقتضاء تلصق برموزها وبمناضلاتها ومناضليها قضايا حق عام ويزجّ بهم في السجن وينكّل بهم أكثر حتى من مجرمي الحق العام.

ثقافة سياسية هابطة

إنّ الحملة التشويهية التي تشنّها صحافة العار والتعليمات أو صحافة "المجاري" كما نعتها بعض الإعلاميين، المموّلة أو المدعومة من نظام الحكم (الحدث، كلّ الناس، الصريح، الشروق، الإعلان، لابراس، la presse، قناة حنبل الخاصة، إذاعة موزاييك...) تمثّل الوجه الآخر للأساليب البوليسية التي ذكرناها. إنّ وسائل الإعلام هذه تأخذ التعليمات مباشرة من البوليس السياسي أو من بعض أحفاد "غوبلن" (مسؤول الدعاية النازية) القابعين وراء مكاتبهم بالقصر أو بوكالة الاتصال الخارجي وفي العديد من الأحيان فإن البوليس السياسي هو الذي يكتب المقالات والتعاليق التشهيرية التي تمررُ في وسائل الإعلام المذكورة إما دون توقيع أو بتوقيع أسماء مستعارة أو بتوقيع أشباه الإعلاميين العاملين فيها. كما أن البوليس السياسي هو الذي يوجّه القائمين على تلك الصحف والإذاعات والقنوات التلفزية ويمدّهم بالمعطيات المختلقة أو المحرّفة انطلاقا من التنصت على المكالمات الهاتفية ومراقبة البريد العادي والبريد الالكتروني، ليستعملوها كمادة في حملاتهم المرذولة. وقد وصلت الحملة التي شنّتها وسائل الإعلام بمناسبة المهزلة الانتخابية الأخيرة، على رموز أحزاب المعارضة والجمعيات والمنظمات المستقلة وعلى عدد من الشخصيات، مستوى غير مسبوق من الانحطاط الذي يعرّي الطبيعة المتخلفة والموغلة في الرجعية للثقافة السياسية، إن صحّ أن نسمي ذلك ثقافة، للقائمين على النظام الذي يحكمنا.

إذا كان الاستبداد ظاهرة عربية بالأساس في عالمنا اليوم، فإن ما يميّز النظام التونسي عن بقية الأنظمة العربية الاستبدادية الأخرى من المحيط إلى الخليج، هو هبوطه بالسياسة إلى الحضيض وحصر الكلام فيها في حدود النصف الأسفل من الجسم فتونس "موطن الطاهر الحداد ومجلة الأحوال الشخصية" و"الرائدة في الدفاع عن حقوق المرأة" هي البلد العربي الوحيد، حسب علمنا، الذي لا رَدَّ فيه على المناضلات في مختلف المجالات السياسية والحقوقية والنقابية والثقافية، وعلى مواقفهن وأنشطتهن إلاّ بكونهن "عاهرات" و"بائعات هوى" و"شاذّات جنسيا" و"سحاقيات"، الخ. وإذا تمّ "الارتقاء" بمستوى الجدل معهن فإنهن يوصفن "بالخائنات" و"المرتزقات" و"الصهيونيات" مع العلم أن هؤلاء المناضلات هنّ ممّن يحضون في العالم باحترام وتقدير كبيرين لثقافتهن ومعارفهن الواسعة وتفانيهن في خدمة القضايا العادلة لشعبهن وللشعوب العربية والإنسانية جمعاء.

كما أن تونس هي البلد العربي الوحيد، حسب علمنا أيضا، الذي لا ردّ فيه على المناضلين السياسيين والحقوقيين وعلى المثقفين والمبدعين المستقلين إلاّ بكونهم "مثليين" و"طَحـّ..." و"معربدين"، الخ. وإذا تمّ الارتقاء بالجدل معهم،فإنهم ينعتون بـ"العمالة" و"الخيانة". وإذا كان المناضل يحمل إعاقة أو عيبا جسديا، فإنه يُعيَّرُ به، رغم أنّ "سيادته" ما انْفكّ "منذ التغيير يغمر بعطفه وعنايته الموصولة المعوقين " !!! لكن المعاق، يكفّ على ما يبدو، عن أن يكون إنسانا، حالما يرفض التسبيح بحمد "السلطان" ويبدي معارضة له، كما أنّ "العناية الموصولة به" تتخّذ شكلا آخر!!!

إنّ تحوّل الأساليب المخابراتية البوليسية إلى نمط من الأخلاقيات العامة الرسمية في "العهد الجديد" بمثل هذه السهولة ودون كابح أو معارضة من داخل السلطة، إنما يعكس بعض التحولات في مستوى القاعدة الاجتماعية لهذه السلطة. فالتحولات الاقتصادية التي شهدتها تونس خلال الربع قرن الأخير، أدت إلى مزيد تفكّك النسيج الاقتصادي المحلي وتفسّخه بسبب الخوصصة التي تمثل العمود الفقري لـ"النيوليبرالية" الرأسمالية التابعة في بلادنا، وهو ما أتاح الفرصة لأقليات جشعة كي تضع يدها على خيرات البلاد وثرواتها بتواطؤ مع الشركات والمؤسسات والدول الأجنبية. وترتبط هذه الأقليات رأسا بالقصر. فهي تتركب من أفراد العائلة ومن الأقرباء والأصهار والأصدقاء. وقد تطوّرت إلى درجة أنها أصبحت هي الحاكم الفعلي للبلاد وما الحكومة المكوّنة في الأساس من تكنوقراط وبيروقراط سوى واجهة لتصريف الشؤون اليومية للحكم. وتحمل هذه الأقليات مواصفات العصابات المافيوزية التي لا تقيم وزنا إلاّ لتكديس الأرباح بكل الوسائل، عن طريق النهب والعنف والضغط والابتزاز والتحيّل والإرهاب والترهيب والغش والتزوير.

وهكذا فقد توافقت أخلاقيات "القاعدة" مع أخلاقيات "القمة" لـ"تثمر" النظام البوليسي المافيوزي الذي يحكم بلادنا ويفقّرها حسًّا ومعنى حسب العبارة الشهيرة لابن أبي الضياف في وصفه لـ"لإيالة التونسية"، في عهد البايات الجهلة الظالمين المستبدين، لذلك لا غرابة أن تصاب الحياة الفكرية والسياسية ببلادنا بالجدب والتصحّر، ويسود الظلم والاضطهاد ويعامل كل من يعارض نظام بن علي أو ينتقده كـ"مجرم حق عام" وتلفّق له التهم، ولا غرابة أيضا في أن يصاب مجتمعنا بأزمة أخلاقية وقيمية عميقة ما انفكت تفتح الأبواب لرياحٍ عدة من التطرف الديني إلى الانحلال والتفسّخ التام.

إفلاس الدولة

إنّ فبركة قضايا الحق العام ضدّ المعارضين وأصحاب الرأي المخالف بشكل عام، كما يحصل اليوم لتوفيق بن بريك وزهير مخلوف وناشطات وناشطي الحركة الطلابية المسجونين وحمّه الهمامي وراضية النصراوي الملاحقين، وكما حصل لغيرهم في السابق، وهم كثر، إنما يؤشّر بشكل واضح لإفلاس الدولة البوليسية في بلادنا. ومن مؤشرات هذا الإفلاس المرتبطة مباشرة بظاهرة افتعال القضايا ومعاملة المعارضين كـ"مجرمين" يمكن ذكر ما يلي:

أوّلا: غياب دولة القانون، إنّ الدولة في تونس اليوم لا هي تحكم بالقانون ولا هي يتحكّم فيها القانون. إنّ بن علي، الحاكم الفردي المطلق، الدكتاتور، هو القانون. يتلاعب به ويطوّعه كما يشاء لخدمة مصلحته ومصلحة الفئات التي تسند نظامه من جهة ولتشريع العسف والظلم المسلّط على الشعب وعلى القوى السياسية المعارضة ومكوّنات المجتمع المدني المستقلة من جهة أخرى.إنّ القانون يشهر في وجه الفقير والضعيف والخصم والمعارض الذي لا يصطف وراء الاستبداد. أما "الأقوياء والأثرياء" المتنفّذون، فهم فوق القانون، ينهبون ويستغلّون ويسرقون ويبتزّون ويعتدون ويرتكبون ما يرتكبون من جرائم اقتصادية وسياسية دون حسيب أو رقيب.

إنّ "التعليمات" هي التي أصبحت تعلو على كلّ القوانين، وهي التي تحكم سلوك الإداري وعون البوليس والجمارك، كما تحكم سلوك القاضي وموظف البنك وغيرهما. وقد وصلت الحالة إلى درجة من التدهور جعلت الناس يطالبون حتى بتطبيق القوانين الموجودة على سوئها وتخلّفها، ومع ذلك فإن السلطة لا تتقيّد بها، خصوصا إذا كانت تنصّ على بعض الحقوق للمواطنين. وفي هذا المناخ القائم على العسف (L’arbitraire) انتشر الارتشاء والابتزاز والمحسوبية في كافة المستويات. إنّ كلام بن علي، في خطاب تنصيبه أمام البرلمان يوم 12 نوفمبر 2009 عن "المساواة أمام القانون"، في إشارة منه إلى توفيق بن بريك وزهير مخلوف وكافة المناضلات والمناضلين، ضحايا القضايا المفبركة، هو كلام ديماغوجي، وإذا كان له من دلالة فهي تأكيد مسؤولية بن على المباشرة في فبركة هذه القضايا التي ديسَ فيها القانون مرتين، الأولى عند الافتعال أو الفبركة التي تمثل في حدّ ذاتها جريمة والثانية عند عدم احترام حق الضحايا في الدفاع عن أنفسهم والزج بهم في السجون بصورة تعسّفية.

إنّ دولة الاستبداد ودولة القانون ضدّان لا يلتقيان، شرع الأولى الجور والتعسف وشرع الثانية الحق.

ثانيا: غياب دولة المؤسسات: إنّ ما يميز الوضع في تونس اليوم، هو ما يمكن أن نسميه "خصخصة" (Privatisation) مؤسسات الدولة ومنها في موضوع الحال المؤسسة الأمنية والمؤسسة القضائية اللتان تحوّلتا إلى مجرد مؤسستين لحماية المصالح الخاصة، الضيقة، والأنانية لـ"العائلات المتنفذة" على حساب مصالح الشعب والمجتمع بأسره. فجهاز البوليس مثلا على ضخامته واستهلاكه لقسط كبير من ميزانية الدولة، لا يوفر الأمن للمواطن، لأنه لا يهتم بأمنه وأمن المجتمع، بقدر ما يهتم بأمن بن على ونظامه. وكمثال على ذلك يمكن أن يتعرّض أي مواطن، في هذا الظرف الذي تفاقمت فيه الجريمة، للاعتداء في قلب العاصمة وفي وضح النهار دون أن يجد عون أمن ينجده. ولكن يكفي أن يرفع مواطن صوته للاحتجاج أو أن يوزّع منشورا أو بيانا حتى يجد نفسه مطوّقا بالعشرات من أعوان البوليس السري المنتشرين في كافة أنحاء المدينة.

وإلى ذلك فإن البوليس ذاته يسهم مباشرة في انعدام الأمن للمواطن، لأنه هو الذي يحمي أحيانا العصابات الإجرامية ويقتسم معها الغنيمة. وهو الذي يعتدي ويبتزّ وينهب ويساوم دون حسيب أو رقيب. ولا يسلم من كلّ هذا لا المعارض ولا المواطن العادي. إنّ البوليس يستبدّ بالمواطن العادي لأنه مغلوب على أمره، لا قانون ينصره ولا "أكتاف" ولا "معارف" تحميه. كما أنه يستبدّ بالناشطات والناشطين في مختلف المجالات، لإن حرماتهم الجسدية والمعنوية مستباحة له ، ففي قضية بن بريك مثلا افتعل البوليس القضية من أولها إلى آخرها، كلّف المرأة المعنيّة التي تتعامل معه بكلّ تأكيد، باعتراض بن بريك ومخاصمته والاعتداء عليه وتقديم شكوى ضده. ولما أوقف بن بريك حرر له البوليس محضرا "يعترف" فيه بارتكاب "الجريمة" وأمضى عليه مكانه، وأحاله على المحكمة. ونشرت صحافة العار مقالات تزعم فيها أنّ بن بريك "اعترف ووقع" فكيف تدافع عنه المنظمات الحقوقية؟

"حاميها حراميها" هذا ما يمكن أن ينطبق على جهاز البوليس في بلادنا الذي لا رادع له ولا رقابة عليه. وعندما يصبح الأمر كذالك، لا يبقى للقانون والمؤسسات معنى أو وزن في المجتمع ويفتح الباب على مصراعيه أمام الفوضى، أمام حكم "العصابات". وليس من الغريب والحالة تلك أن يطلق الناس على البوليس في تونس تسمية "بوليس بن علي" أي البوليس الذي ينفّذ تعليمات بن علي ويحميه ويحمي نظامه، مكان تسمية "البوليس التونسي" التي كانوا يطلقونها عندما كانوا يظنّون أنّ البوليس يسهر على أمنهم وأن لا ولاء له إلاّ "للدولة والقانون" وليس لشخص الحاكم.

أما المؤسسة القضائية، فقد تحوّلت أكثر من أي وقت مضى إلى مجرّد إدارة تابعة للسلطة التنفيذية وخصوصا للبوليس السياسي، لا دور لها غير حماية مصالح الطغمة الحاكمة وتشريع القمع المسلّط على الشعب وعلى المعارضة، السياسية وقوى المجتمع المدني المستقلة. فلا أحد يمكنه أن يشكّ اليوم في أن بن علي شخصيا هو الذي يقرر الإدانة في القضايا ذات الطابع السياسي كما في القضايا "الحساسة" التي تتعلّق بتصفية الحسابات في مجال الأعمال، وفي أي مجال آخر. ولا يقوم القضاء إلاّ بإعطاء تلك الإدانة صبغة قانونية عبر محاكمات تداس فيها أبسط مبادئ العدل. وما حصل هذه الأيام من مهازل في محاكمات بن بريك ومخلوف ونشطاء الحركة الطلابية يبيّن أن نظام بن علي لم يعد يعير أهمية حتى لأبسط الشكليات، وأن بلادنا تسير نحو الهاوية بخطى حثيثة.

لو كان القضاء يتمتّع بأدنى درجات الاستقلالية لما أوقف هؤلاء جميعا ولما أحالهم على المحاكم، بل لكان أطلق سراحهم وفتح بحثا حول من لفّق ضدهم القضايا مهما كان مركزه، ليقع تتبّعه ومعاقبته. ولكن هيهات ففاقد الشيء لا يعطيه! لقد قضى بن علي على كلّ نزعة استقلالية لدى القضاء التونسي. ويمثّل الانقلاب على مكتب جمعية القضاة المنتخب في أواخر 2004 والذي أظهر عبر مواقفه، رغبة في تحرير القضاء من حالة التبعية المطلقة للسلطة التنفيذية خير مثال على معاداة بن علي لاستقلالية القضاء ولمبادئ العدل بشكل عام.

ومن البديهي أنّ قضاء تابعا كهذا، في خدمة "السلطان" وليس في خدمة الحق والقانون، من المنطقي جدّا أن يتحوّل إلى وكر للفساد. فالقاضي يعمل وفقا "للتعليمات" حتى يحصل على امتيازات. والسلطة التنفيذية تغض الطرف عن حصوله على رشاو من المتقاضين، لتستعمل ذلك للضغط عليه، ومزيد إخضاعه ليكون لعبة بيديها. وتستمرّ الحلقة المفرغة، ويستمرّ معها انهيار المجتمع.

ثالثا: دولة بلا أخلاق (sans Ethique)

إنّ الدولة التي تفتقد أعمالها إلى شرعية القانون والمؤسسات وتتحوّل أجهزتها إلى أوكار للظلم والفساد، لا تختلف في شيء عن العصابات الإجرامية، بل إنّ الدولة التي ترعى وسائل إعلام كـ"الحدث" و"كل الناس" و" الصريح" و"حنبعل"... وغيرها وتكافئ أصحابها بالمال والأوسمة على قدر فحشهم وكذبهم وافترائهم، لا يمكنها ان تأتمن على المجتمع وعلى تطوّره لأنها عاجزة عن المحافظة على أي توازن أو استقرار فيه، كما أنها عاجزة عن السهر على تربية أفراده على قيم وأخلاق عالية وعن توفير مدرسة وجامعة راقيتين يحظى فيهما العلم والمعرفة بالمكانة التي تليق بهما وثقافة تسمو بالنفس وتنأى بها عن الغرائز الوحشية وتزرع فيها القيم الإنسانية، قيم المحبة والتضامن وحب الغير واحترامه، الخ.

إنّ الاستبداد في بلادنا لم يطوّر غير قيم "تدبير الراس" والأنانية والرّشوة والانتهازية والعنف والعدوانية واللهث وراء إشباع الغرائز. وإذا كانت كل هذه المظاهر لازمة من لوازم النمط الاقتصادي الاجتماعي النيوليبرالي المتوحّش الذي يكرّسه نظام الحكم، فإنّ الطابع الاستبدادي لهذا النظام عمّقها، لأنه يعمل باستمرار على قمع مظاهر المقاومة التي يبديها المجتمع، فإذا كانت البرامج التعليمية تقتل الروح النقدية لدى الناشئة، وإذا كانت المنظومة التربوية تعلّم التلميذ أو الطالب أن مستقبله ليس في العلم والمعرفة، بل في "تدبير الراس" حتى عن طريق الغش، وشراء الشهائد، أو المنصب بالمال، وإذا كانت وسائل الإعلام، تتحدّث بلغة "المجاري" وإذا كان "حاميها حراميها" فأي مستقبل لهذه البلاد إذا لم يقع التصدي للانهيار؟

لا يمكن لأحد أن يستغرب استفحال الأزمة الأخلاقية ببلادنا. كما لا يمكن لأحد أن يستغرب احتلال مجتمعنا المرتبة الأولى عربيا في فحش اللسان وبذاءته. إنّ الاستبداد من جهة والقيم والأخلاق النبيلة من جهة ثانية ضدّان لا يلتقيان، فهو لا يتطوّر إلاّ في مياه آسنة، أما هي فلا تنتعش إلاّ في ظل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

في الختام

إذا كان علينا أن نناضل بشكل مباشر من أجل إطلاق سراح بن بريك ومخلوف وكافة الطلبة المعتقلين، ومن أجل كفّ التتبعات ضد حمّه الهمامي وراضية النصراوي وجلول عزّونة ومحمد بن سعيد وغيرهم، ومن أجل وقف الاعتداء على الإعلاميين والنشطاء السياسيين والحقوقيين ورفع الحصار عن مقرات الأحزاب والجمعيات المستقلة وعن صحافتها وأنشطتها، فإنه لا ينبغي أن يغيب عنّا لحظة واحدة المهمة الأساسية، والجوهرية، التي تفرض نفسها على كل الديمقراطيين، وهي مهمة القضاء على الاستبداد. فمن دون ذلك لا أمل في قيام دولة القانون والمؤسسات والديمقراطية، وبالتالي لا أمل في وضع حد بشكل نهائي للجور والعسف.

إنّ الدولة الديمقراطية الحقيقية هي "الدولة الأخلاقية" الوحيدة، إن جاز التعبير، لأن الدولة التي تكون تعبيرا عن إرادة مواطناتها ومواطنيها فتكفل لهم حريتهم وحقوقهم وتضمن لهم بصورة فعليّة أسباب العيش الكريم ويكون لهم عليها سلطة الرقابة والمحاسبة، ليست مضطرة إلى الكذب عليهم ومخادعتهم وتضليلهم وقمع طموحاتهم، وحتى إذا صدر سوء تصرّف عن مسؤول أو جهاز ما فإن الدولة الديمقراطية توفّر لمواطناتها ومواطنيها إمكانية محاسبة المذنب ومقاضاته.

والدولة الديمقراطية هي أيضا الدولة الوحيدة القادرة على توفير الأمن والطمأنينة لمواطناتها ومواطنيها لأن أمن النفوس وطمأنينتها يكمن فيضمان المساواة والحريات والحقوق والعدل حتى أنّ المواطنة/المواطن الذي يشعر بالحيف والظلم يعرف أنه قادر على استرجاع حقه مهما كان المركز الاجتماعي أو السياسي لخصمه، كما يعرف أنّ الدولة ذاتها خاضعة في تصرفاتها للقانون وليست طليقة اليدين، تتصرف في مواطناتها ومواطنيها كرعايا أو قطيع.

وأخيرا، وليس آخرا، فإنّ الدولة الديمقراطية، هي الوحيدة التي تستعيد فيها السياسة مكانتها، لا بوصفها حقًّا لكل المواطنات والمواطنين فحسب، بل بوصفها أيضا الوسيلة التي يقع عبرها التنافس والصراع من أجل إيجاد الحلول المناسبة لمشاكل المجتمع، فتكون مجالاً للسجال والجدال بين وجهات النظر الفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية المختلفة.

لقد أفقد الاستبداد السياسة في بلادنا كلّ معنى، لا بحرمان التونسيات والتونسيين من حقهم في ممارستها فحسب، بل كذلك بـ"تعهيرها" و"ترذيلها".

ح. ب. ع.
أستاذة علم اجتماع


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني