الصفحة الأساسية > البديل الوطني > انتفاضة الفقراء بمنطقة الحوض المنجمي من أجل الشغل والحرية والكرامة
في المنتدى الاجتماعي المغاربي:
انتفاضة الفقراء بمنطقة الحوض المنجمي من أجل الشغل والحرية والكرامة
13 آب (أغسطس) 2008

انعقدت الدورة الأولى من المنتدى الاجتماعي المغاربي أيام 25، 26 و 27 جويلية 2008 بمدينة "الجديدة" بالمغرب الشقيق وقد مثلت فرصة لمختلف الوفود المشاركة لتطارح القضايا الاجتماعيّة في مختلف أقطار المغرب الكبير والتعبير عن مساندتها للحركات الاحتجاجيّة الشعبيّة التي شهدتها عديد المدن والقرى في هذه الأقطار (الحوض المنجمي وفريانة في تونس، سيدي إيفني في المغرب...) كما روّج العديد من النشطاء عددا من الوثائق التي تتعرّض لهذه الحركات بالدراسة والتحليل. وقد نشرت البديل في عدد سابق عريضة مساندة لأهالي الحوض المنجمي ممضاة من عديد المشاركين من مختلف البلدان المغاربيّة فيما تنشر في هذا العدد إحدى الوثائق التي راجت خلال المنتدى الاجتماعي المغاربي والتي أعدتها مجموعة من المشاركات التونسيّات:

تمثل أحداث الحوض المنجمي بقفصة أهم حركة اجتماعية تشهدها تونس منذ انتفاضة الخبز، جانفي ـ يناير ـ 1984. وقد شملت هذه الحركة كل الفئات الاجتماعية بمدن الحوض المنجمي أي الرديف وأم العرائس والمظيلّة والمتلوّي وشارك فيها النساء والشبان بكثافة. وهي الأطول في تاريخ تونس إذ دامت حوالي الستة أشهر، قبل أن تواجهها السلطات بالقمع والاعتقالات التي شملت أعدادا كبيرة من النشطاء حوكم العديد منهم وما يزال البعض الآخر خصوصا من قادة الحركة ونشطائها أو ممّن قدّموا لها المساندة والدعم موقوفين على ذمّة التحقيق أو ملاحقين. وقد أثارت انتفاضة الحوض المنجمي قضايا اجتماعية جوهرية كالبطالة والفقر والتهميش وتدهور المقدرة الشرائية والفساد والمحسوبية وانخرام التوازن بين الجهات. وهو ما كشف فشل الخيارات الاقتصادية لنظام الحكم الذّي راهن على الانخراط في العولمة الرأسمالية من موقع تابع وطبق وصفات (recettes) المؤسسات على تطبيق مؤسسات المالية والتجارية العالمية البنك العالمي، صندوق النقد الدولي والمنظمة العالمية للتجارة.

وسنحاول في هذه المساهمة الوقوف عند أسباب ما أصبح يعرف في بلادنا بـ"انتفاضة الحوض المنجمي" ورصد أهم المراحل التي عرفتها والخروج ببعض الاستنتاجات التي تهم النضال الاجتماعي في بلادنا وفي منطقتنا المغاربية التي هزّتها أحداث اجتماعية مماثلة في نفس الفترة (’سيدي إيفني’ بالمغرب، و’وهران’ بالجزائر).

I. أسباب هيكلية وعميقة

لقد انطلقت أحداث الحوض المنجمي بقفصة على إثر إعلان شركة الفسفاط نتائج المناظرة التي كانت أجرتها منذ مدة لانتداب كوادر وأعوان، وقد خيّبت هذه النتائج التي تأجل إعلانها أكثر من مرّة آمال الأهالي لهزالها أولا ولخضوعها لمنطق المحاصصة بين مراكز النفوذ السياسية والنقابية والعشائرية بالجهة ثانيا. ولكن المناظرة لم تكن سوى القطرة التي أفاضت الكأس، ذلك أن لانفجار الأوضاع بمدن الحوض المنجمي أسبابا عميقة مرتبطة بنمط التنمية المعتمد في البلاد وبانعكاساته السلبية على عامّة الشعب وخصوصا على المناطق والجهات غير المحظوظة ومنها الجنوب الغربي للبلاد.

لقد ارتكز النشاط الاقتصادي بهذه الجهة منذ العهد الاستعمار على إنتاج الفسفاط منذ العهد الاستعماري وظلّت شركة فسفاط قفصة المشغّل الرّئيسي لليد العاملة في ظلّ انعدام حركية فلاحية وصناعية وسياحية هامّة. ولكن دور الشركة تراجع من ناحية التشغيل، منذ أن أخضعت لسياسة التطهير (politique d’assainissement) في إطار برنامج الإصلاح الهيكلي الذي بدأ تطبيقه في تونس منذ عام 1986 بضغط من المؤسسات المالية الدولية (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي...). وقد تقلّص نتيجة لذلك عدد العاملين بشركة فسفاط قفصة من 14 ألف عامل في أواخر الثمانينات إلى 5853 عاملا منهم 492 إطارا في سنة 2006. كما تراجعت في نفس الوقت الخدمات الاجتماعية التي كانت تسديها الشركة للعاملين بها (صحّة، وسائل نقل..) وهكذا أخذت ظروف أهالي المنطقة تتدهور تدريجيا. وحتى بعض الآليات والبرامج والصناديق التي بُعِثت للاهتمام بالمناطق المنجميّة عانت من مشاكل تتعلّق بجدواها وفاعليتها والقدرة على تطبيقها وانجازها. حتى أن صندوق تنمية منطقة الحوض المنجمي، عوض أن يموّل المئات من حاملي الشهادات العليا لبعث جملة من المشاريع، منح المليارات لرجال أعمال معروفين صرفوها في مشاريع وهمية وأخرى غير ذات مردودية إنتاجية وتشغيلية، مما فوّت على الجهة خلق فرص جديدة وإمكانية انجاز مشاريع تنمويّة ذات بال في مجالات فلاحية وصناعية.

ومن جهة أخرى فإن تراجع أداء شركة فسفاط قفصة لم يرتبط فقط بخيارات الدولة الاقتصادية الرأسمالية النيوليبرالية التابعة بل كذلك بسوء الإدارة والتصرّف في الأموال، خاصّة أن السنوات الأخيرة عرفت تطوّرا هاما لأسعار الفسفاط ومشتقاته في السوق العالميّة. فحسب دراسة نشرها الأستاذان محمود بن رمضان وعلي كادل واستندا فيها إلى أرقام رسمية ارتفعت أسعار مواد الفسفاط سنة 2006 بنسبة 11% مقارنة مع سنة 2005، كما انها ارتفعت سنة 2007 بنسبة 47% مقارنة مع نفس السنة. وفي الثلاثية الأولى من سنة 2008 ارتفعت الأسعار بنسبة 125% مقارنة مع نفس الفترة من العام السابق وفي شهر ماي من هذا العام زادت الأسعار بنسبة 55،3 مرّة مقارنة بمعدّل 2005 وقد أثرت هذه الزيادات في مداخيل الشركة التي تطوّرت من 858 مليون دينار سنة 2005 إلى 956 مليون دينار من سنة 2006 ثمّ إلى 1261 مليون دينار سنة 2007 ، ومن المنتظر أن تبلغ مداخيل الشركة سنة 2008 إذا ما استمرّت الأسعار على حالها 2200 مليون دينار (الطريق الجديد ـ 7 جوان 2008)

وإلى ذلك فإن الجهة أصبحت تشكو من معضلة أخرى وهي التدهور البيئي. لقد كان السكان يشكون في السابق من غبار الفسفاط الذي كان يشكّل سحبا كثيفة تحط رحالها على المنازل والطرقات وتلحق أضرارا صحيّة بهم ولكن منذ أن جاءت الشركة بالغسّالات أصبحت تستهلك جانبا كبيرا من الثروة المائية بالجهة كما أن المياه المستعملة التي تصرف في الطبيعة لوّثت التربة والمياه الصالحة للشراب والهواء وهو ما خلق مشاكل جدية للأهالي للتزوّد بالماء غير الملوّث، كما سبّب لهم أمراضا خطيرة من بينها السرطان والرّبو والحساسية إلخ... حيث تسجّل المنطقة أعلى نسب الإصابة بمرض السرطان وأضعف معدّلات الأمل في الحياة (espérance de vie) على المستوى الوطني.

ومما زاد الطين بلّة أن الجهة مثلها مثل كافّة مناطق الشريط الغربي للبلاد لا تتمتّع بنفس الخدمات الصحّية التجاريّة التي تتمتّع بها بعض الجهات والمناطق المحظوظة خاصّة مع التدهور العامّ والكبير للمرافق الصحية العموميّة في كامل البلاد والذي يتخذ في المناطق والجهات الداخليّة طابعا أكثر حدّة، فإذا كان المعدّل العام بالبلاد طبيب واحد لكل 1248 ساكن سنة 1999 وطبيب واحد لكل 676 ساكن بإقليم تونس فإن الجنوب الغربي بما فيه قفصة لا يوجد فيه إلا طبيب واحد لكل 2027 ساكن.

وإذا أضفنا إلى هذه العوامل غلاء الأسعار وضعف الأجور وقلّة المداخيل وتفاقم البطالة وتردّي خدمات السكن والكهرباء والغاز والتعليم فإن جهة قفصة أصبحت جهة متروكة ومنكوبة. وهو ما يفسّر تنامي الغضب خصوصا في منطقة الحوض المنجمي ذات التقاليد النضالية العريقة وانطلاق الاحتجاجات فيها لمجرّد إعلان نتائج مناظرة شركة الفسفاط التي كان الأهالي يأملون أن تكون مناسبة لتشغيل جزء من أبنائهم المعطّلين عن العمل وخاصّة من حاملي الشهادات العليا.

II. أهمّ مراحل الحركة

لم تعرف تونس الحديثة حدثا في أهمية انتفاضة الحوض المنجمي من حيث طول المدّة والاتساع وان غلب عليها بعد أكثر من ستّة أشهر، وإذا استثنينا مدينة الرديف، الطابع العفوي. وتتبّع مراحل تطوّرها سيظهر لنا ما عرفته الأحداث من زخم وما رفعته من مطالب وما عكسته من نضج وما واجهته من ردود أفعال السلطة:

1) 5 جانفي ـ 5 أفريل 2008: مشاركة كبيرة وتحرّكات نوعية

لئن انطلقت التحركات الاجتماعية يوم 5 جانفي 2008 بمبادرة عدد صغير من أصحاب الشهائد المعطّلين عن العمل بإعلان إضراب جوع بالاتحاد المحلّي للشغل بالرّديف، فإن اليوم الموالي شهد خروج سيول بشرية عارمة للتظاهر في شوارع الرّديف والمظيلّة وأم العرائس حيث أُغلِقت الطرقات بالعجلات المطاطية المحترقة ونصبت الخيام على مستوى سكك الحديد ومنعت عمليات إنتاج الفسفاط أو محاولات نقله واعتصم المئات أمام مؤسسات الدولة وخرج التلاميذ في مسيرات كبيرة رافعين شتى الشعارات المطالبة بتشغيل الأهالي ومندّدة بسوء الأوضاع وتنامي مظاهر الفساد والمحاباة، وبالتالي كان الشارع مقصد كل فئات المجتمع وأجناسه لتضمحلّ عديد الحواجز النفسية والثقافية والعشائرية، حتى أن أكثر المعتمديات المحافظة وهي المظيلة كانت عرفت مسيرة نسائية صرفة لم تعرف قفصة لها مثيلا منذ 1991 ورفعت فيها شعارات داعية للتشغيل ومطالبة بتحسين الأوضاع الاجتماعية والبيئية بالجهة، وإن لم تواصل المظيلة طويلا في احتجاجاتها فإن تحركات الأهالي في الرّديف وأم العرائس قد تواصلت بأنساق مختلفة ففي الأولى تمحورت التحركات حول الاتحاد المحلّي للشغل (مسيرات، إضرابات جوع، اعتصمات ، تظاهرات...) واحتضنتها قيادات نقابية مناضلة ذات خلفيات يسارية آمنت بدور العمل النقابي في قيادة النضالات الاجتماعية وفي الوقوف ضد سياسات التفقير والتهميش مما جعلها تلقى تقدير الأهالي وانضباطهم لقيادتها وتفرض على السلطة القبول بها كطرف مفاوض. أما في الثانية ورغم غياب نواة قيادية نقابيّة أو سياسية فإن تحركات نوعية قد تواصلت بنسق محترم (رغم طي الخيام في 16 فيفري على إثر اتفاقات مع السلط الجهوية بالتوازي مع تواصل تعطّل النشاط الفسفاطي) ويتعلّق الأمر بخيمة الأرامل الـ"11" التي انتصبت أمام المقرّ الإقليمي لشركة الفسفاط بأم العرائس وتواصلت لأكثر من شهر ونصف بغاية تشغيل أبناء ضحايا حوادث الشغل بالشركة المذكورة، وبخيمة أصحاب الشهائد المعطّلين عن العمل التي انتصبت ولمدّة مماثلة في ساحة الاتحاد المحلّي للشغل دفاعا عن حق العمل القار والعمومي، وقد مثّل هذان التحركان قفزة واضحة في تطوّر وعي الحركة بما عكساه من تنظيم ومن دقّة في تحديد المطالب ومن قدرة على لفّ قطاعات أخرى حولهم. ولقد أعطى دخول المتلوّي إلى ساحة الاحتجاجات بعد خمسة أسابيع من انطلاقتها دفعا هاما للحركة لما تمّثله هذه الجهة من ثقل اقتصادي وبشري إلاّ انه سرعان ما تمّ الالتفاف عليها بتحالف ثالوث عشائري نقابي سياسي أغرق الأهالي في الوعود والمساومات أكد عديد المواطنين أنها شملت تنظيم رحلات "حرقة" جماعية.

ولقد فوجئت السلطة بانطلاقة الأحداث وبتواصلها على ذلك الشكل مما ادخل الاضطراب والفوضى على مسؤوليها الذين اختاروا تجاهلها عسى الأيام تتكفـّل بإرهاق المحتجين وتثنيهم عن مواصلة تحرّكاتهم، بالتوازي مع فرض حصار إعلامي على الجهة حتى لا يطـّلع الرّأي العام على حقيقة الأوضاع التي فضحت إدعاءات السلطة بنجاحاتها الاقتصادية والاجتماعية وحتى لا تنتقل عدوى ما يحصل إلى بقيّة الجهات خاصّة وأن المطالب المرفوعة عامّة والأوضاع المعيشية متشابهة، بالتوازي مع تحريك مسؤوليها المحلّيين والجهويين والحزبيين (الحزب الحاكم) لبث الضغائن والخلافات العشائرية بين المحتجّين ولعقد المساومات ونثر الوعود والتطمينات. ولكن اهتزاز صورة هذه القيادات التابعة للسلطة في أذهان الأهالي وارتباطها بالفساد والإثراء على حسابهم وتغليب مصالحها الشخصية والعائلية، فوّت فرصة نجاح مثل هذه المحاولات وعمّق في وعي الأهالي ضرورة القطع معها مما أدى إلى رفضهم استقبال أمين عام الحزب الحاكم عند زيارته إلى آم العرائس والرّديف ومهاجمته مما جعله يعجّل بالهروب شأنه شأن بعض البرلمانيين وأعضاء اللجنة المركزية للحزب الحاكم (التجمّع الدستوري الديمقراطي).

2) 6 أفريل ـ 5 جوان 2008: مكاسب رغم التوتـّر

إن السلطة التي يضيق صدرها بأدنى الانتقادات والتصريحات والتي اعتادت فرض خياراتها على المجتمع بالقوّة والاستنجاد بالحلول الأمنية والقضائية بمجرّد ظهور احتجاج هنا أو هناك، انصاعت مرغمة لانهيار كل مؤسساتها بالجهة وافتكاك الشارع من قبل الجماهير الغاضبة التي آمنت بقوّتها متوحّدة وبمشروعية وعدالة مطالبها، لكنّها لم تتقبل ذلك بكل سهولة خاصّة مقابل ما عرفته الاحتجاجات من قوّة وأهمية، مما دفعها ليلة 6 أفريل 2008 لإعداد هجوم على مركز شرطة الرّديف من قبل مجموعة من الملثـّمين كمبرر لحملة قمعية لتصفية الحركة والتنكيل بقادتها وهو سيناريو بُدِئ بتنفيذه منذ الصباح الباكر ليوم 7 أفريل باعتقال العديد من القيادات النقابية والشباب الناشطين وتواصل يومين متتاليين وشمل مداهمات ليلية وحملات اعتقال عشوائية وممارسة التنكيل بالأهالي مسّت النساء والشيوخ والأطفال مما دفع غالبية الشباب إلى التحصن بالجبال، وقد ظهر من خلال بشاعة عمليات التعذيب التي تعرّض لها الموقوفون والتي أثارت استياء المنظمات الحقوقية والانسانية محليا ودوليا أن رغبة استئصال الحركة الاجتماعية كانت تقود الخيار الأمني المذكور. لكن الإضراب العام الذي شمل يوم 8 أفريل قطاعات الوظيفة العمومية وشمل المتاجر والمخابز والمسيرات التي غطّت شوارع المدينة وأنهجها أسقطت ذلك الخيار وأجبرت السلطة على تسريح كل الموقوفين.

ولقد لعبت النساء دورا محوريا في ذلك الانجاز، فطيلة أشهر الاحتجاجات كانت المرأة في الرّديف بعيدة عن مثل تلك الاهتمامات لارتباطها بذهنية محافظة لم تستطع التحركات النقابية وحدها جرّها إلى حلبة النضال، لكن بمجرّد أن صُدمت بحجم الانتهاكات والفظاعات الأمنية التي طالت الأبناء والأزواج والأقارب والتي لحقها منها نصيب هام، حتى بادرت المئات من النساء بالاعتصام أمام الاتحاد المحلّي للشغل أردفته باعتصامين 8 و9 أفريل أمام معتمدية المكان والتي أبدعت فيه من خلال صياغة الشعارات وشحن المحتجات وتنظيم التحرّكات مما أشعرها بقوّة تجلّت في باقي التحرّكات. مما قد يترك أثارا بارزة في رؤية الأهالي للمرأة ولطبيعة دورها ويمثّل إشارات هامّة للحركة النسائية بضرورة الاعتماد على الفعل الاجتماعي لتحرير المرأة من براثن الإقصاء واللامساواة والدونية حيث لم يعد العمل النخبوي والتثقيف والتعليم قادرا لوحده على إنجاز هذه المهمّة في ظل تحديات العولمة التي تدفع فيها المرأة نصيبا وافرا من الاستغلال المادي والمعنوي، ومن جهة أخرى فإن الاعتقال والتعذيب والتنكيل لم يثن الحركة عن مواصلة نضالاتها وهي التي تدرك أنها ليست محصّنة في نظام غير ديمقراطي من مثل تلك الانتهاكات، ما لم تسع في لحظات انتصاراتها إلى تحقيق أقصى ما يمكن من مكاسب لفائدة الجماهير المنتفضة، وهذا ما حصل أساسا في مدينة الرّديف طيلة شهرين حيث أُجبرت السلطة على التفاوض حول عديد الملفات ومعالجتها معالجة إيجابية (عمال البلدية، عمال الغابات، عمال شركة الحراسة، التحاق أكثر من ألف شاب بشتى المناولات...) مما جعل الحركة تحافظ على جذوة النضال التي آمنت أكثر من أي وقت مضى بقيمتها في تحسين الأوضاع المعيشية وفي كسر حالة انسداد الأفاق التي كانت تسودهم.

وقد مثـّل الاحتفال بالعيد العالمي للعمال (1 ماي) مناسبة لتقييم مسيرة أربعة أشهر دعيت فيها السلطة مرّة أخرى للتفاعل الجدّي مع مطالب المحتجين والإسراع بمفاوضة ممثلّيهم حول كل الملفات العالقة والكفّ عن سياسة التهرّب والتسويف والأكاذيب التي أعادت أم العرائس في أواسط أفريل إلى الاحتجاج عبر اعتصامات المعوقين من ضحايا حوادث الشغل بشركة الفسفاط والعاطلين عن العمل والتلاميذ، كما مثـّل التواجد الأمني الكثيف عامل استفزاز بات يدفع إلى مزيد تأزم الأوضاع خاصّة بعد محاصرة الشباب المعتصم بمركز الكهرباء عالي الضّغط الذي يزوّد غسّالات المناجم بالطاقة بقرية "تبديت" الذي أستشهد أثناءه الشاب هشام بن جدو العلايمي "23سنة" صعقا بالكهرباء على إثر تعمّد معتمد الجهة إعادة تشغيل المولّد.. وعوض أن تفتح السلطة تحقيقا في جريمة القتل، وتدفع إلى تهدئة الأوضاع عبر الإنصات لمطالب المحتجين وتسوية وضعيتهم الاجتماعية الكارثية، مضت أكثر في الحل الأمني، بشن حملات من الاعتقالات والمداهمات بمدينتي الرّديف وأم العرائس ليلة 6 ماي 2008 شملت خلع الدكاكين التجارية ونهب محتوياتها وإتلاف ممتلكات المواطنين وإمطار بيوتهم بالقنابل المسيلة للدموع والتحرّش بالنساء وتعنيف الجميع وإغراقهم بشتى الشتائم، خالقة حالة من الرّعب والتخويف شارك فيها الآلاف من أعوان الأمن بمختلف تشكيلاتهم مدجّجين بشتى أنواع العتاد، مما ساهم في مزيد تصعيد واقع الاحتقان والغضب ودفع المتلوّي مرّة أخرى للانتفاض، لتعرف المدينة منذ يوم 30 ماي سلسة من المسيرات والاعتصامات والمواجهات لم تتورّع السلطة عن قمعها، مما سبب عشرات المعتقلين والمصابين واستشهاد الشاب نبيل شقرة يوم 2 جوان 2008 دهسا بسيارة حرس كانت تطارده...

3) 6 جوان 2008: المنعرج

طغت على بديات شهر جوان جملة من الاحتجاجات على الاستفزازات الأمنية الآخذة في التصاعد تجاه المواطنين في كل من الرّديف وأم العرائس والمتلوّي ومطالبة الأهالي بخروج تلك القوات وفك الطوق الأمني. إلاّ أن ما حدث يوم 6 جوان بالرّديف خيّب الآمال وفتح الأوضاع على المجهول، وذلك بإطلاق قوات الأمن النار على مسيرة سلمية متّجهة إلى مقرّ المعتمدية مما أدى إلى استشهاد الشاب الحفناوي بن رضا المغزاوي وإصابة حوالي 25 آخرين إصابات متفاوتة الخطورة. وإن سارعت السلطة على لسان وزير العدل بشير التكاري بتبرير ما حصل واتهام مجموعة من الشباب باستعمال العنف ضدّ أعوان الأمن وتحضير قنابل "الملوتوف" لرميها عليهم، فإن ما حصل قبل ذلك وما تلاه دلّ على سيناريو سلطوي لاستئصال الحركة الاجتماعية بالجهة والإجهاز على نشطائها وقادتها. فطيلة شهر ماي نشطت الاستخبارات البوليسية والعسكرية في الجهة، ودرست نقاط ضعف الحركة وقوّتها وتعرّفت على المواقع الإستراتيجية كمواقع الأحياء ومخارجها والجبال والصحراء المحيطة وربطت مع بعض الوشاة والمخبرين الذين لفظهم الأهالي وشهّروا بهم، في تحضير حثيث لخطـّة تصعيدية تكاملت مساء 6 جوان باستقدام وحدات من الجيش والمئات من عناصر البوليس السياسي الغريب عن الجهة في سيارات على وجه الكراء، إضافة إلى آلاف أعوان الأمن القادمين من شتى الولايات، ولئن قام الجيش بسيطرته على أغلب مدينة الرّديف دون إعلان حالة الطوارئ وقام بتمشيط الجبال القريبة، وأعلن من خلال مضخمات الصوت حضر التجوال فإن قوات "البوب" و"البيغ" سارعت بحملات واسعة من التمشيط والمداهمات والاعتقالات في أغلب مدن الحوض المنجمي وأساسا الرّديف حيث ما تزال تتواصل حد هذه اللحظة بما يرافقها من تنكيل بالأهالي وإتلاف الممتلكات واستعراض القوّة وانتهاك للحرمات، قدّر فيها فرع قفصة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في بيان بتاريخ 23 جوان عدد الموقوفين بأكثر من 150 ناشط في الرّديف وحدها أُخضعوا فيها لمختلف أشكال التعذيب الوحشي، تكشف شهادات ضحاياه، التي رووها لمحامييهم، ما وصلت إليه السلطة من احتقار للكرامة الإنسانية ودوس لكل المعايير الوطنية والدولية في التعامل مع الموقوفين، بأن أُعطيت المسؤولين الأمنيين صلاحيات مفتوحة لاستباحة المدينة والتشفي والانتقام والإذلال لأهاليها مما حوّل منطقتي الأمن بالمتلوي وقفصة إلى مخابر حقيقة لتجريب كل صنوف التعذيب والاهانة. كما شرع القضاء على الفور في محاكمة العشرات من الشباب، حيث عرفت المحكمة الابتدائية بقفصة يومي 26 ـ 27 جوان و3 ـ 4 جويلية نهاية الطور الأول من محاكمة شباب الرّديف والمتلوي بتهم حق عام وصلت فيها الأحكام إلى حدود عامين وسبعة أشهر. وتحت ضغط عشرات المحامين الذّين قدموا من جهات مختلفة وتجنّدوا لهذه المعركة تمّ الحكم على البعض بعدم سماع الدّعوى وببطلان الإجراءات.

كما أحيل عدد كبير من قيادات الحركة ونشطائها على حاكم التحقيق في انتظار محاكمتهم بأقصى ما حملته المجلّة الجنائية من تهم إجرامية: "تكوين وفاق قصد التحضير لارتكاب اعتداء على الأشخاص والأملاك العامّة والخاصّة والإضرار عمدا بملك الغير وقطع السبل العمومية ومنع الجولان وحيازة آلات ومواعين محرقة ورميها على أملاك الغير، ورمي مواد صلبة على موظف عمومي حال مباشرته لوظيفته والاعتداء عليه بالعنف الشديد، ومسك وترويج وبيع وعرض على العموم أقراص مضغوطة من شأنها تعكير صفو النظام العام وإحداث الهرج والتشويش بالطريق العام والمشاركة في عصيان دعي له بخطب ألقيت بمحلات عمومية واجتماعات عامّة وبمعلقات وإعلانات ومطبوعات".

ولا تزال الاعتقالات متواصلة إلى الآن، في الرّديف، وأم العرائس بالخصوص، وهو ما يؤكّد رغبة السلطة في اجتثاث هذه الحركة الاحتجاجية بغاية كسر معنويات الأهالي وجرّهم للاستسلام وفي نفس الوقت بعث إشارات تهديد إلى الجهات الأخرى التي تحرّكت القصرين (فريانة، ماجل بلعباس) صفاقس أو التي قد تتحرّك خاصّة أن ارتفاع الأسعار وبالتالي تدهور المقدرة الشرائية للفئات الشعبية لا يتوقّف، وعجز الحكومة عن وجود متنفسات جديدة تمكنها من مواجهة قضية البطالة يتفاقم والفوارق الاجتماعية تتعمّق والفساد يستشري على حساب الأغلبية الساحقة من المواطنات والمواطنين.


III. تطوير حركة التضامن مع الأهالي والمعتقلين

لقد استعملت السلطة، كما بيّنا أقصى ما تملك لقمع انتفاضة الحوض المنجمي بما في ذلك إخراج الجيش من ثكناته في سابقة منذ جانفي 1984 وإطلاق قوات البوليس النار على المتظاهرين سلميا وتسليط عقوبات جماعية على الأهالي وقد ظلـّت طوال شهور تلازم الصمت على المطالب المشروعة التي رفعها هؤلاء. ولما تمّ قمع الحركة واخمادها أشرف رئيس الدولة يوم الأربعاء 17 جويلية الجاري على اجتماع المجلس الجهوي لولاية قفصة وقد ألقى بالمناسبة خطابا اعترف فيه أن "أحداث الحوض المنجمي" ناجمة عن "الإخلالات المسجّلة في عملية الانتداب بشركة فسفاط قفصة والتجاوزات الحاصلة بشأنها" مضيفا أن السلطة بادرت"بتصحيح الوضع في إبّانه" وأعلن جملة من الاجراءات تحت عنوان "دعم مسيرة التنمية بجهة قفصة" وجرّم الاحتجاجات وجرّم المحتجّين.

إنّ ما نلاحظه هو أنّ المناظرة لم تكن سوى القطرة التي أفاضت الكأس، ولو تعلّق الأمر بها هي فقط ما كانت الحركة لتتسع بمثل ذلك الشكل وتدوم تلك المدّة الطويلة ولو لا القمع لاستمرّت الحركة إلى اليوم، وكان من المفروض أن يقرّ رئيس الدولة بوجود أسباب عميقة وجوهرية للأحداث لها صلة مباشرة باختيارات الدّولة الاقتصادية والاجتماعية. بالإضافة إلى ذلك فليس صحيحا أن السلطة عالجت الوضع في الإبان إذ أنها لم تراجع نتائج المناظرة وحافظت على نفس قائمة الناجحين المعلنة وهو ما عمّق نقمة الأهالي. ولم يتعرّض رئيس الدولة لما تعرّض له الأهالي من قمع وتنكيل ولمقتل الشبان الأربعة والاعتداء على ممتلكات المواطنين والمواطنات، بل إنه برر سلوك قوات البوليس والجيش متهما الأهالي بخرق القانون والاعتداء على الممتلكات الخاصّة والعامّة والحال أن كل المتتبّعين للأحداث شهدوا بالطابع السلمي والمتمدّن لاحتجاجات الأهالي وبالدّور الذي قام به قادة الحركة لاجتناب التجاوزات أو السقوط في الاستفزازات.

أما في خصوص الإجراءات المعلنة فإنها ما يلاحظ أنها لا تحوي جديدا بل هي مبرمجة كما ورد في الخطاب في إطار المخطط الحادي عشر وقد تكون الاحتجاجات الجماهرية هي التي عجّلت بإعلانها. ومهما يكن من أمر فهذه الإجراءات غلب عليها الطابع الشكلي وهي لا تلبّي حاجة الأهالي ولا تستجيب لمطالبهم فهؤلاء يطالبون الدّولة بأن تتحمّل مسؤوليتها في التنمية، لا أن تعهد بها إلى أصحاب رأس المال الخواص الذين لا يعرفون إلاّ مصالحهم على غرار ما حصل في المخطط العاشر بالنسبة إلى المشروع الأول للتنمية الفلاحية المندمجة بالجهة، إذ ذهبت الأموال في جيوب الفلاحين الكبار. إن الفلاحين الصغار يريدون من السلطة حلاّ لمشكلة العلف الذّي ارتفعت أسعاره ولمشكلة تلوّث المياه نتيجة النشاط الفسفاطي كما أن الأهالي يريدون خلق مواطن شغل قارة للقضاء على آفة البطالة، وطالبوا بإنجاز معامل للحديد والمطاط والخياطة وغيرها إلى جانب معمل الإسمنت ومعمل إنتاج ثلاثي الفسفاط المعلنين اللذين يمثلان المشروعين الوحيدين الجديّين في صورة إنجازهما واللذين لا يكفيان إطلاقا لحلّ كل مشاكل الجهة.

وهكذا فإن ما أعلنته السلطة من إجراءات لا يحل مشاكل الأهالي في الحوض المنجمي علاوة على أنه يتجاهل ما تعرضوا له من قمع وما لحقهم من أضرار فادحة. وهو ما يفرض تعزيز حركة التضامن مع الأهالي لوقف الهجوم عليهم وإطلاق سراح المعتقلين وإيقاف التتبعات ضدهم وضد الملاحقين وفتح تحقيق في أعمال القتل والقمع والنهب ومحاسبة المسؤولين والتعويض للمتضررين وفتح حوار جدي مع الأهالي حول مطالبهم، وحول موضوع التنمية الجهوية بشكل عام.

إن ما حصل من مساندة لأهالي الحوض المنجمي وطنيا ودوليا لا يمكن إلاّ تثمينه والتنويه به، لكنه يبقى في نظرنا دون المأمول نظرا لأهمية الانتفاضة المذكورة وحجم الفظاعات التي ارتُكِبت في سبيل قمعها، مما يدفع حركة المساندة إلى مراجعة أساليب عملها وتفعيل قدراتها وتشريك عديد الطاقات، التي ظلّت بعيدة عن دائرة الفعل في التحضير لكل الأنشطة والمساهمة فيها ما من شأنه أن يقطع مع كل النزعات الشخصية والفئوية ويفتح أفقا أكبر أمام مهمّاتها وهو ما يتطلب:

1) تفعيل المجهود الحقوقي

منذ المرور إلى الخيار الأمني باتت معركة التضامن مع أهالي الحوض المنجمي في جانب كبير منها معركة حقوقية، يتمتّع فيها نشطاؤها بأرشيف متكامل من الشهادات والصور والأفلام ومحاضر البحث قادرة في صورة استعمالها بنجاعة على تضييق الخناق على السلطة ووضعها على محك تعهّداتها الوطنية والدولية وإحراجها رسميا. لكن مواصلة عمل الجمعيات الحقوقية التونسية المنفردة على هذه الملفات يضعف كثيرا من مجهوداتها وقد يطبعها بالمناسباتية وتسجيل الحضور ومجرّد التوثيق ويضعف صلاتها بالجماهير، مما يجعل من أوكد الأمور توحيد مجهوداتها والمرور إلى عقد ندوة صحافية أو تظاهرة مشتركة في تونس أو خارجها، وإعداد تقارير مشتركة في الغرض.

2) تصليب المساندة النقابية وتوسيعها

إن انتفاضة الحوض المنجمي تعني الحركة النقابية مباشرة أولا لانخراط النقابيين فيها وثانيا لأن حركة نقابية أصيلة ومممثلة ومناضلة لا تحصر نضالها في الدفاع عن منظوريها، بل هي تسند كل الكادحين والمعطلين عن العمل وتدافع عنهم. ولكن الجميع لاحظ أن المركزية النقابية في بلادنا، التي ظلت تحت سيطرة بيروقراطية مرتبطة بألف خيط وخيط بالسلطة تجاهلت انتفاضة الحوض المنجمي لمدة شهور ودعمت قيادات المنظمة الجهوية وخاصة الكاتب العام الجهوي للاتحاد المتهم بالفساد وبالسمسرة باليد العاملة من خلال شركة المناولة التي يملكها والتي تشغل 700 عامل وزكت إجراء التجميد الذي سُلط جهويا على عدنان الحاجي وهو أحد قادة الحركة وأشرف بعض أعضائها على هيئة إدارية جهوية (24 جوان 2008) خصصت لدعم العرش المالي والسياسي والنقابي للكاتب العام المذكور الذي هو فوق ذلك عضو بمجلس النواب عن الحزب الحاكم. كما خصصت للتشفي في الرموز النقابية من قادة الحركة الموقوفين لدى البوليس والمحالين على المحاكم بتهم إجرامية. لذلك تأخرت مساندة الحركة النقابية للأهالي، واقتصرت في البداية على تحركات محتشمة لبعض الاتحادات الجهوية (بن عروس، جندوبة، القيروان...) وعدد من الهياكل النقابية القطاعية ومن الكوادر النقابية الديمقراطية والتقدمية. ولكن اشتداد القمع، خصوصا بعد إطلاق النار على المواطنين واعتقال العشرات من النشطاء وتعذيبهم وتنظيم محاكمات جائرة ضدهم، حرك جموع النقابيين ودفهم إلى التعبير عن مساندتهم وتجاوز ضغوط البيروقراطية النقابية. وفي هذا الإطار انطلقت عريضة نقابية وطنية وقعها عدد كبير من المسؤولين النقابيين الوطنيين والجهويين والقطاعيين والمحليين. كم تعددت لجان المساندة في الجهات والقطاعات وتظاهرات المساندة في مقرات الاتحادات الجهوية. وهو مؤشر هام لنهوض نقابيّ سيكون عنصرا فعالا في فك الحصار عن منطقة الحوض المنجمي وإطلاق سراح الموقوفين وتلبية مطالب الأهالي خصوصا إذا ما توسّعت المساندة وتطورت وصلب عودها.

3) دعم نضالات النساء

لم تعرف جهة قفصة والحوض المنجمي بالخصوص مشاركة نسائية في الحركة الاجتماعية كما عرفته في الستة أشهر الأخيرة، حيث ساهمت بكثافة في المسيرات والاعتصامات وحضرت بأعداد كبيرة في التظاهرات التي أقيمت بالاتحاد المحلّي للشغل بالرّديف، وخلقت الحدث عبر فرض خيمة الأرامل بأم العرائس لتشغيل أبناء حوادث الشغل بشركة فسفاط قفصة [1]، وعبر كسر الحصار المضروب على المدينة، كما حصل مع نساء الرّديف في 7 أفريل 2008 إذ اعتصم عدد كبير منهن أمام مقرّ الاتحاد، تلته مسيرة نسائية جوبهت بالقمع البوليسي. وهو دور مرشّح للتعاظم في ظلّ الأوضاع الحالية قد يتركّز جزء منه على نصرة الأزواج والأبناء والإخوة الموقوفين والملاحقين بما يتطلّبه ذلك من تحرّكات سواء أمام المحاكم أو السجون أو مقرّات الدولة أو في الساحات العامّة، وتتحمّل النخب النسوية الديمقراطية بشكل خاص والحركة الديمقراطية في بلادنا بشكل عام مسؤولية هامّة في هذا الإطار، ليس ارتباطا بأجندتها الاجتماعية فحسب، بل لما يمثـّله هذا الحضور النسائي من تجاوز للذهنية السّائدة المحافظة والعشائرية والأبوية، ومن تطلـّع للتحرر والانعتاق والمساواة على أنقاض الدونية والتمييز. إن الفعل الاجتماعي يمثل ناقلا لكل القيم الحداثية والتنويرية والتثويرية ولا يكتمل مغزاه ما لم يرتبط بقوى واعية تنزل معه إلى ساحاته العامّة والفعلية وتتعاطى مع مشاكله ومصاعبه وتلتحم به في شتـّى أوجهه وتحتضن قواه النسوية الفاعلة والطلائعية والميدانية من أجل مزيد صهرها في النضال العام من أجل التحرر الوطني والديمقراطي والانعتاق الاجتماعي.

4) تفعيل دور الأحزاب السياسية

لا يمكن إنكار أن جل القوى السياسية ببلادنا ظلت لمدة بعيدة نسبيا عن الحراك الاجتماعي بالحوض المنجمي سواء لانكبابها على الاستحقاقات الانتخابية لـ2009 أو لضعف قدراتها أو لمحاولة عزلها الحركة الاجتماعية عن الفعل السياسي بحجة عدم تسييس الحركة وتوظيفها وعدم تقديم مبررات للسلطة لضربها والاستفراد بها، لكن بتهافت تلك الحجج تجد الأطراف السياسية ببلادنا نفسها أمام مسؤولية تاريخية لمراجعة تمشيها السابق ووضع قدراتها السياسية والإعلامية لإسناد المنجميين وهو أمر ممكن ووقع تأكيده في مواقع أخرى وبالإمكان تدعيمه الآن وهو يتطلب إرادة سياسية صادقة ورؤية عملية خلاقة، وقد يمر عبر بعث لجنة مساندة سياسية تسعى للتحقيق في ما حصل من تداعيات وتجمع قواها لخوض معركة الدفاع عن أهالي الحوض المنجمي بكل الطرق المدنية الممكنة (تظاهرات، مسيرات، اعتصامات، إضرابات جوع...).

هوامش

[1عرفت خيمة أرامل أم العرائس بـ"خيمة الـ10 نساء". وقد انتصبت هذه الخيمة منذ انطلاق الحركة أمام شركة فسفاط قفصة بالمدينة. واعتصم بها النساء المعنيات لمدة شهر وزيادة وصمدن في وجه ضغوط عائلاتهن وأقاربهن. كما أن امرأة أخرى تدعى "خيرة العماري" بادرت بالاعتصام بمقر الحزب الحاكم لمدة تفوق الشهر، ولم تغادره إلا لوضع مولودتها بالمستشفى التي سمّتها "انتصار".


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني