الصفحة الأساسية > البديل الوطني > جانفي 1952: ذكرى اندلاع الكفاح المسلّح بتونس، أي مغزى يمكن استخلاصه؟
وجهة نظر:
جانفي 1952: ذكرى اندلاع الكفاح المسلّح بتونس، أي مغزى يمكن استخلاصه؟
4 شباط (فبراير) 2010

غنيّ عن البيان أن انتصاب "الحماية" في تونس وما مهّد لذلك من تغلغل للرأسمال الأجنبي، ارتهنت بموجبه المملكة التونسية لدوائر القرار الأوروبي، وعجزت بحكم مديونيتها وتدني قدرتها التنافسية عن الصمود أمام تطوّر أشكال الغزو إلى شكله المسلّح الاستيطاني المباشر، لم ترافقه من الجهة المقابلة تنظيم محكم وفعّال لأشكال المقاومة والتصدّي، حيث انحصرت في محاولات معزولة من قبل الأهالي في الأرياف عموما، والتي كانت ذات صبغة "جهادية" لمقاومة الكافر الغازي، يغيب عنها الطابع "الوطني" والعمق السياسي لزعاماتها القبلية، في الوقت الذي اصطفّت فيه السلطة المحلية إلى جانب المستعمر (معاهدة باردو 1881 والمرسى ماي 1883) والتي أخضعت بموجبه الإيالة إلى حكم فرنسا، وعاضدتها في ما بعد أهمّ القوى الدينية (الطرق الصوفية).

1- ما قبل 1852

لم تتواصل أعمال المقاومة لدى قدوم الاستعمار سوى بضعة أشهر بأغلب مدن وأرياف الإيالة التونسية، حيث استطاعت فرنسا ذات القوّة والعدّة والعتاد والتنظيم أن تواجه فلولا من المقاومين/المجاهدين المعزولين والذين، رغم بسالتهم والحمية التي دفعتهم للذود عن الأرض والعرض كانوا بعيدين كلّ البعد عن إمكانية سحق آلة الاستعمار المدمّرة.

ولئن ظهر منذ أوائل العشرية الأولى من القرن الماضي بوادر نهوض "وطني" لدى زمرة من المثقفين المتنورين (حركة الشباب التونسي)، ورغم بوادر ظهور نزعة التأطير السياسي بالمعنى الحديث للكلمة، فإن ضيق الأفق البرجوازي لهؤلاء، جعلهم لم يتخطّوا طابع النضال البرجوازي الإصلاحي، حيث تشكّلت أهم نواتات "الإصلاح" في صفوف النخبة، ولم يكن ممكنا بالطبع الحديث، لأسباب تاريخية، عن وعي طبقي ثوري لقيادة دفّة النضال، رغم الاستعداد الغريزي للسّواد الأعظم للنضال وهو ما عبّرت عنه الجماهير المنتفضة في أحداث "الزلاّج" و"الترامواي" وحتى في أحداث "التجنيس" وأحداث أفريل 1938 فيما بعد.

لقد كانت الطبقة السياسية، المتزعّمة للعمل الوطني، بعيدة عن أن تطرح المسألة الوطنية بالمعنى الراديكالي للكلمة، بل ظلّت آفاق مطالبها في حدود المطالبة بالمشاركة في ظلّ الهيمنة الفرنسية في كلّ مستويات وهياكل القرار، حتى أنّ الأحزاب التي بعثت للوجود، من أمثال الحزب الدستوري، في نسختيه، والحزب الشيوعي، لم تطرح في أجندتها ضرورة استنهاض الشعب ضدّ الاستعمار الفرنسي وربط تحرّره على أنقاض هذا الأخير حتى يرسم لنفسه طريق الخلاص من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية، بل إنه من بين هذه الأحزاب (الحزب الحرّ الدستوري القديم) من تآمر على نقابة "جامعة عموم العملة التونسيين"، وعلى زعيمها النقابي الفذّ محمد علي الحامّي، التي أدركت فرنسا سريعا ضرورة حجر نشاطها ونفي قائدها المؤسّس خارج "مجالها الحيوي" حتى لا يمثّل نواة بروز وعي طبقي/عمّالي يهدّد وجودها وتحالفاتها، ويرشد العمال التونسيين والمهمّشين إلى خلاصهم في ربطهم بين النضال من أجل مصالحهم الحياتية المباشرة والنضال ضدّ الاستعمار الإمبريالي النهّاب. غير أنّ التاريخ لا يؤمن بالثبوتية ولا بالوثوقية، ففي تطوّره وتقلّبه، عادة ما ينتج ظروفا جديدة وتناقضات وصراعات تتجدّد باستمرار.

فكيف كان ذلك؟

2- 1952: تاريخ مفصلي في الوعي الوطني الجمعي

ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وما وقف عليه العالم من دمار كوني على مستوى الضحايا والممتلكات وما خلّفته من مآسي للإنسانية وجروحا لم تندمل بعد (التقسيم العالمي جيوبوليتيكا ومخلّفاته العرقية والعنصرية، "المحرقة" النازيّة وعقدة اليهود وتعويضهم بوطن خاص في فلسطين...) كلّ ذلك قد مهّد لقيام حركة "عالمية" لمناهضة الاستعمار وإدانته وعبر دعم حركات التحرّر الوطني في عديد بلدان العالم كلّ حسب درجة تطوّر الوعي فيه. وقد تزعّم كتلة الدفاع عن المستعمرين وضحايا الإستعمار البربري، الإتحاد السوفياتي بقيادة ستالينيّة مستمدّا هذا الدعم من مقولات الماركسيّة اللينينية، تعتبر أنّ السير بالبناء الاشتراكي لا بدّ أن يدمج قضية البناء الاقتصادي بالتحرّر السياسي، وأنّ البلدان التي تخضع تحت السيطرة الإمبريالية هي احتياطي للدولة الاشتراكية العالمية، لذلك لابدّ لنضالها أن يجمع بين مقاومة الاستعمار وتوطيد الوعي الطبقي، حتى تضمن أحقيّة قيادة الصراع الطبقي على مستوى وطني وعالمي.

ولئن كانت الانتصارات التي تحرزها المقاومة في هذا البلد أو ذاك، سببا في تدويل قضية التحرّر الوطني، فإنّه يعتبر ثانويّا مقارنة ببروز نوازع وطنية لدى "المثقفين" واتّجاه العمل الوطني خاصة من النخبوية إلى الجماهيرية. وقد سمح ذلك باشتداد وتيرة الاستغلال الفرنسي لثروات البلد وما خلّفه من ردّات فعل واعية عبر الإضراب والاحتجاج، خاصة بقيادة "الإتحاد العام التونسي للشغل" وزعيمه النقابي الوطني الشهيد فرحات حشّاد.

إنّ مراكمة تجارب طويلة ضدّ الأعراف الأجانب، والصراع ضدّ محاولات الاحتواء والتهميش، لتجربتين نقابيّتين، وتفشّي البؤس والحرمان شكل غير مسبوق (ما يقارب 45 ألف متسوّل في الحاضرة سنة 1945) جعل من الضروري أن تتبنّى النقابة الوليدة لأوّل مرّة مطالب سياسية بحيث أدمجت في مطالبها انعتاق العامل من القيود التي تكبّله مرهونا بترحيل المستعمر الفرنسي.

ونتيجة الضغط المسلّط على الدول المستعمِرة من الخارج عبر الكتلة الشرقيّة الاشتراكية وبتآمر تكتيكي من الإمبريالية الصاعدة، الولايات المتحدة الأمريكية، ومن الداخل عبر التذمّر الإجتماعي والدعاية السياسية لأحزاب الحركة الوطنية، كان لابدّ لفرنسا أن ترضخ لمطلب طالما رفعه رموز الوطنيين وهو تشريك التونسيين في مؤسّسات القرار (المجلس القيادي، المجلس البلدي...) إلى جانب الفرنسيين غير أنّ تلكّأ فرنسا في منح هذا "المكسب" وتراجعها عن مذكّرة 15 ديسمبر 1951، التي أقرّت ذلك، قد فوّت عليها فرصة تدارك الوضع واحتواء حركة الإحتجاج النامية والمتسارعة في تصاعدها. وقد كان من السهل على القيادة السياسية أن تركب موجة الغضب هذه، وتوجّهها نحو إعادة التفاوض من جديد لذلك "أعلنت" ليلة 17 جانفي 1952 رفع السلاح ضدّ الإستعمار ومن الغد كان معظم القياديين من الدستوريين والشيوعيين في المعتقلات والسجون، بالتوازي مع انطلاق شرارة الإنتفاضة المسلّحة في المدن والأرياف.

من البديهي أنّه لا يجوز الحديث عن "ثورة" بالمعنى السياسي العلمي للكلمة في هذا المثال، حيث لم تكن آفاق هذه الإنتفاضة واضحة المعالم ولم تطرح بعد ملامح البديل المجتمعي لما بعد رحيل الإستعمار، غير بعض التصوّرات الليبرالية في أذهان زعمائها (الحبيب بورقيبة).

لقد اندلعت أعمال "العنف" و"التخريب" في عدّة مناطق من البلاد تمثّلت بالخصوص في قطع خطوط التيّار الكهربائي والهاتف وتخريب السكك الحديدية والإعتداء على أملاك المعمّرين واغتيال ومحاولات اغتيال لبعض المعمّرين والمتعاونين مع الإستعمار الفرنسي. وقد كان وقود هذه الهبّة الشعبيّة من المهمّشين ومن أشباه البروليتاريا والنازحين من دواخل البلاد ومن الريفيين المعدمين الذين كانوا سريعي الغضب والإندفاع بحكم وضعيّتهم المزرية، وكانت تحملهم الحمية الوطنية بدوافع الجوع والحرمان الذي يتخبّطون فيه. ومن الطبيعي أن يكون في صدارة الإنتفاض هذه الفئات المعدمة وعموم المحرومين والمضطهدين، وليس أصحاب المصالح والمتنفّذين. فقد سجّل التاريخ أسماء أبطال أفذاذ لم يتوانوا عن دفع حياتهم في سبيل وطنهم دون أن ينتظروا جزاء أو شكورا، من أمثال الدغباجي وبن سديرة ومصباح الجربوع وزرق العيون (...) وعديدون هم الذين حملوا السلاح وصعدوا جبال عرباطة والشعانبي والسلاسل الغربية المتاخمة للحدود الجزائرية، الذين إمّا دفعوا حياتهم عربونا للوطن، أو نذروها في ما بعد ليواصلوا الكفاح ضدّ من استغلّوهم وخانوهم واستبدل القمع والإضطهاد من "الإفرنجة" بنظيره من أبناء الجلدة والملّة.

3- كيف ننظر لـ"18 جانفي 1952"

إنّ تجربة "الفلاّقة " التي اندلعت بتونس منذ التاريخ المذكور والذي جعل من العمل السياسي لأوّل مرّة في متناول أولئك البسطاء المنحدرين من الأرياف ومن الأوساط الفقيرة والمحرومة، وانتقل بالعمل الوطني إلى " الجماهيرية" وقطع مع النخبوي والعفوي منه، قد أجّج نقمة المستعمرين ودقّ نواقيس الخطر بضرورة رحيلهم، فتصدّوا لهم بكلّ ما أوتوا من قمع وبطش (نفي، تعذيب، عمليات تمشيط و مجازر ارتكبت في حقّ الأهالي على طول البلاد وعرضها)، وهو ما كان له ردّة فعل عكسي، بحيث ازدادت قناعة التونسيين بمزيد بذل النضال والتضحية لينعم أبناء الوطن بثروات بلدهم وسيادتهم عليه، الشيء الذي جعل من القضية التونسية مدوّلة ومثالا يحتذى به، بحيث سرعان ما انطلقت شرارة الثورة الشعبية الجزائرية والثورة الفيتنامية الرائدتين في مستوى النضال الوطني الشعبي التحرّري. غير أنّ الجدير بالذكر، وللأمانة التّاريخية، رغم "الجدارة" السياسية الدستورية، في قيادة عمل المقاومة في تلك المرحلة التاريخية المفصلية عبر تنسيق دبلوماسي بين دول شمال إفريقيا من أجل النضال المشترك الجبهوي ضدّ الإستعمار الذي حان أفوله عبر نجم شمال إفريقيا، مكتب القاهرة لتحرير دول المغرب (...) فإنّ هذه القيادة، ولطبيعتها الطبقيّة تلك، سرعان ما تنكّرت لجيوش المنتفضين في الجبال وخضعت لإغراءات الفرنسيين بمنع "الاستقلال الداخلي" والتخلّي عن برنامج الوحدة النضالية المغاربية، وفي الوقت الذي قفز خلاله بورقيبة على هذه التنظيمات و"المكاسب" ليضمن لنفسه القيادة اللاحقة والدعم الضروري من "الحكومة الفرنسية" الصديقة مثلما كان يردّد حتى فترات الاعتقال والنفي وهو أمر أثبتته رسائله للمقيم العام الفرنسي وللحكومة الفرنسية.

لقد فوّت بورقيبة الفرصة على الشعب التونسي من أجل أن ينعم بالاستقلال التام والفعلي والسيادة الفعلية والطبيعية على وطنه وثرواته، عبر مواصلة النضال الوطني، وحتى تفرز الظّروف الإستحقاق التاريخي لأبناء تونس في تشييد مجتمع خال من الإستغلال تسوده الحرية والعدالة الإجتماعية.

لقد كان لاتفاقية الإستقلال الداخلي واتفاقية الخيانة لـ 20 مارس 1956 في ما بعد، الأثر البعيد والعميق في انتكاس العملية التحرّرية.

ولأنه "ليس من يصنع التاريخ كمن يكتب فيه"، فقد طويت صفحة تجربة الفلاّقة سريعا، عبر إرغام المقاومين بتسليم أسلحتهم، ثمّ "محاكمتهم" وتصفية اليوسفيين فيما بعد وبقايا هذه التجربة الذين رفضوا تأليه بورقيبة وتصدّوا له عبر محاولة الإنقلاب (1961) ولم يذكر التاريخ كثيرا عن إعدام الهادي بن جاء بالله وغيره كثيرون، في حين تمّ توسيم بورقيبة وعديد الدستوريّين الذين لطّخوا جباههم في الوحل، دون أن يرفعوا ولو حجرا في وجه الإستعمار.

لقد كفّت البرجوازية منذ "الزمن الإحتكاري" (الطور الإمبريالي) عن أن تكون صاحبة رسالة تاريخية نبيلة وعن أن تشيّد وطن الرفاه والعدالة والمساواة وعن أن تقود دفّة البناء هذا، فلقد فشلت كلّ محاولات إرساء نظام وطني مستقلّ بقيادة برجوازية وطنية، ولم تنجح في الإنفلات من قبضة الرأسمال العالمي، بل وخضعت سريعا لنسقه الإستعماري الجديد، وارتكبت مذّاك مصالحهم بمصالحه في إرتباط عضوي. لذلك فمن الواجب الخروج باستخلاص جوهري مفاده أنّه لابدّ لكلّ القوى الوطنية والديمقراطية أن تدرك المغزى التّاريخي لأحداث 18 جانفي 1952 عبر النضال بلا هوادة ضدّ الإستعمار الجديد وحلفائه البرجوازية العميلة من خلال إدراج المسألة الوطنية والمسألة الديمقراطية في كلّ لا يتجزّأ. إنه النضال من أجل الجمهورية الديمقراطية الشعبية.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني