الصفحة الأساسية > البديل الوطني > رسالة خاصة في الممنوعات
رسالة خاصة في الممنوعات
21 نيسان (أبريل) 2010

أهلا صديقي الداودي،

حدثتني المرّة الفارطة عن موقع الحوار المتمدن الذي تُصدر فيه نصوصك الشعرية والنثرية، وقد تبيّن أن يد الحجب قد طالته أو حاصرته في المجال الذي يمكنها أن تسيطر عليه أي على شبكة الانترنت المستعملة في تونس.

يبدو الحدث عاديّا فالعشرات من المواقع والمدوّنات الخاصة محجوبة، ولكن لديّ ملاحظة أريد أن أبديها لك:

إذا كانت المواقع المحجوبة في أغلبها مهتمة بالشأن العام وصنفتها السلطة مناوئة لها، فإن الحوار المتمدن ليس موجّها أساسا ضدّها بل هو موقع متعدّد الأطروحات والكتابات والتوجّهات وخاصة مروج التمدن المختص في الأدب إبداعا ونقدا، ولكن يبدو أن درجة الحساسية بلغت مأخذها ودرجة الهستيريا لم تعد مضبوطة بحدود ما.

خطر ببالي الموقف الذي أنت فيه، فمن ناحية لا يمكنك نشر نصوصك في المواقع والجرائد التونسية الرسمية منها وشبه الرسمية وكذلك الحزبيّة وأنا وأنت نعرف معنى شبه الرسمية، فإن لم يكن للمنع فلأنها تحولت إلى خرقة من الأوراق الملونة بالإعلانات. فإذا وضعت فيها نصّا ابتلعته فإذا بنصّك على مائدة فطور أو بوتيك للملابس الداخلية والماكياج وفي أحسن الحالات إعلانات العرافين ونجوم الرياضة والإجرام ، ومن الأدب واحتراما للنص، فعليك إبعاده لأن المكان ليس بمكانه. أمّا إذا قرّرت أن تنشر في صحف المعارضة فعليك أن تنتظر تاريخ صدورها والذي في كل مرة يكون بعملية قيصرية وبخوف من سحبها من الأكشاك، وإن صدر، فمهما كان محتواه فإن البيانات التنديدية وأخبار الانتهاكات إمّا أن تجعل منه نصا من ذات النبرة العامة للجريدة أو الموقع أو أنه سيكون مقالا متروكا، فإذا به يقتلك حتى لا تفكر في النشر ثانية.

ماذا تفعل إن أردت أن تربط جسورا مع قراء عبر عمود خاص بك يكون دوريا؟

مَن مِن الصحف يمكن أن تمنحك هذا الجزاء العظيم؟

لم يبق لك غير المواقع الإلكترونية يا صديقي، ولكن الموقع الذي تنشر فيه محجوب أي أنك مجبر على التوجه إلى مواقع أخرى أو أن تبحث عن طرق ملتوية لإرسال مقالك إلى الموقع الذي تريد.

في الحقيقة وأنا أفكر في حالك وأهذي عمّا يمكن أن تفعله، فأنا أتحدث عن عموم الكتاب وبالأخص العشرات من الشبان الذين يواجهون مثل هذا الأمر بتغيير محتويات مقالاتهم وتطويعها إلى المائدة التي حدثتك عنها لأن السبيل أمامهم مقطوع.

ما شدّ انتباهي أن الكاتب من المفترض أن يكتب ويفكر في عناصر وأفكار ما يكتب بكل حرية دون أن تربكه عناصر من المفترض أن تكون ثانوية، فإذا بالكاتب بات يفكر أين ينشر قبل أن يكتب، ليس من جهة الإجراء النشري والبرمجة وإنما من جهة ضوابط النشر قبل الفكرة التي يريد أن يكتبها.

ولكن حتى في هذه الحالة عليه أن ينضبط إلى الإطار المسموح به أو أن يكتب ويناضل من أجل النشر.

لا أقصد أن يناضل من أجل حرية النشر بل من أجل أن ينشر ما يكتب لأن بين الأمرين مساحة شاسعة. يصبح الكاتب إمّا تابعا للمطحنة العامة ويكون تافها أو إنه يتساقط بالتدريج أو إنه يتحوّل إلى مكافح من أجل نشر مقال.

ليس من السهل أن نكتب، لأنه بعد ذلك علينا أن نبحث عن طريقة ملتوية لإرسال مقال ثم الدخول بالبر وكسي للموقع الذي نشر المقال وأن ننزله ونطبعه ثم نوزّعه على بعض الأصدقاء لنقول لهم لقد صدر في الموقع الفلاني ونمدّهم بالعنوان ولكنهم في النهاية لا يمكنهم الإطلاع على المقال وهو على الصفحة كما نشر، وبدل اهتمامهم بالأفكار في النص يكون اهتمامهم مرتبط بحجب الموقع وبذلك نكون قد أدخلناهم في شراكة معنا، دون وعي منهم أو منا، في الإطلاع على موقع محجوب وهو إجرام مفترض.

في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ورغم بدايات التجربة الصحفية في الأوطان العربية ورغم سيطرة الاستعمار على منافذ النشر والتوزيع ورغم وضع المجتمعات العربية الإقطاعية ورغم الانهيار العثماني وسيطرة الغريب الأجنبي على دواليب الحياة ورغم عدم وجود الانترنت والاتصالات الحديثة، كانت الكتابة والنشر وقودا للتربية والإبداع والتمرّد والمقاومة والجمال لدى شعوبنا وأعمدة الصحف كانت أقوي تأثيرا في تشكيل الذهنية العامة من الآن.

ما أتصوّره قد يبدو أخطر ممّا نعتقد نحن أنه بديهة : "القادم أفضل". فيتملكنا جراء ذلك، في كثير من الأحيان، الانتظار ويحولنا تدريجيا إلى منهزمين بأوهام نحن صنعناها ونحن صدقناها لأن الواقع لم يسربها لنا بل على العكس من ذلك هو يدلل بالوقائع أن القادم أسوأ..

ربّما لو غيّرنا أفكارنا ونفسياتنا والذهنية العامة بأن القادم أسوأ، ربما يثور الناس من أجل تغيير مستقبلهم ولكن يظهر أن الوهم أقوى لأنه يعمل على احتمالات مفتوحة يتبين منها ما يريده الواحد منا من قادم الأيام أي المستقبل.

ماذا لو كتبت بالفرنسية أو بالانجليزية؟

أنا شبه متأكد أنك ستجد في أقرب وقت ممكن جريدة أو موقع ينشر عمودك أو نصوصك وربما وهو المرجح إذا كان هذا الإطار له مداخيل أن يمارس الشفافية المالية معك وأنت لست بطالبها.

ألا يعنى هذا أنك محاصر وبذلك لغتك محاصرة في حين أن اللغات الأخرى تنتشر وتنشر حبرها الفكري وتأثيراتها؟

طبعا أنا مدافع عن اللغة العربية ليس من موقع شوفيني ولكن الأمر قاتل إلى حدود اللحظة.

كثير من الأصدقاء يقولون لي أن العولمة أقوى من الحجب، صحيح، ولكن مثل الديمقراطية أقوى من الدكتاتورية. هي مستقبل البشرية ونحن في زمن الديمقراطية، معنى ذلك أن الأنظمة بدل أن تصبح ديمقراطية عندنا تزداد شراسة وتسير عكس التيار جاعلة من القادم فضاعة لا تطاق، انظر مثلا إلى جمهورية جيبوتي "العربية". عام 1977 تمت صياغة دستور جديد نص أحد فصوله على أن رئيس الجمهورية يمكنه الترشح مرة واحدة على إثر انتهاء مدته الأولى فحكم الرئيس الأول إلى 1999 ونحّاه المرض لأن سنه تجاوز الثمانين وجاء ابن شقيقه ليحكم مدة أولى ست سنوات ومدة ثانية ست سنوات أخرى تنتهي في المستقبل، في الوقت الذي يتصوّر فيه شعب هذا البلد أن مستقبلا آخر خارج دائرة هذا النموذج المسيطر، ولكن الرجل استبق أحلامهم قبل نهاية ولايته بتنقيح الدستور ليسمح له بولاية ثالثة.

أنا أتحدث عن جيبوتي لأنني لا أفكر في الذهاب إليها خلال السنوات القادمة على الأقل، أما البلدان الأخرى وأنا اكتب عنها فعليّ أن أفكر قبل ذلك هل لدي نية لزيارتها أو لا لأن للكتابة ضريبة فهل كتّابنا في تونس مستعدون لدفع ضريبة نشر مقال خارج دائرة الطحانة والفاسدين لصياغة مستقبل بديل ما دمنا لم نتمكن من فرض واقع بديل؟

أليس بالضرورة على العقول الحرّة في تونس أن تناضل ويكون الكاتب عندئذ مقاوما أو فلاقا...؟؟

مع هذا يعجبني كُتّاب التّقيّة والسرية والتلميح والرمزية والسريالية والتنقيطية والتكعيبية، ولكن في بلد يصبح فيه الكاتب والناشر والقارئ في مكتب واحد بمنزل الحاجب، ألا يجعل ذلك من كل هذه الإبداعات والتقليعات والمدارس حاملة لمعنى الخوف والرهبة والتقيّد كما أن أيّة قراءة أو دراسة نقدية لا يمكنها إغفال ذلك إذا كانت جادّة. تدور الدائرة ونعاود من الجديد الحديث عن الرقابة والمحاصرة والسمسرة وحجب الحوار المتمدن...

قلْ ألم يفتحوا إلى الآن وزارة الخوف؟

صديقي صلاح

لنا لقاء بمقهى الدينار للإطلاع على نصك القادم

صديقك
لطفي الهمامي

باريس: 21 أفريل 2010


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني