الصفحة الأساسية > البديل الوطني > صفعة مدوية لحرية الإعلام بتونس
الحكم بسجن مراسل قناة الحوار التونسي بقفصة:
صفعة مدوية لحرية الإعلام بتونس
14 كانون الأول (ديسمبر) 2008

شهدت المحكمة الابتدائية بقفصة يوم الخميس 11 ديسمبر 2008 الفصل الأول من محاكمة قادة ونشطاء الحركة الاحتجاجية بمدن الحوض المنجمي، والتي تواصلت لأكثر من نصف عام للمطالبة بالتشغيل والتنمية العادلة. ولقد عكست قساوة الأحكام، والأجواء الترهيبية التي حفت بالمحاكمة، ومجمل التجاوزات الفجة في حق الدفاع والمعتقلين، مواصلة لمحاولة اجتثاث الحركة الاجتماعية، وتضخيم في استعمال الأداة الأمنية القضائية لتجريم المطالبات والاحتجاجات الشعبية. ولقد نال الفاهم بوكدوس مراسل قناة الحوار التونسي بقفصة والمتواري عن الأنظار منذ 5 جويلية الماضي، حكما بـ6 سنوات سجنا بتهم "الانخراط في عصابة والمشاركة في وفاق وقع بقصد تحضير وارتكاب اعتداء على الأشخاص والأملاك، وتوزيع وبيع وعرض ومسك بنية الترويج لنشرات من شأنها تعكير صفو النظام العام بغرض دعائي" وذلك عقابا لتميّزه في تغطية أحداث انتفاضة المناجم، ونقله للرأي العام ما حاولت مختلف الأجهزة السلطوية إخفاءه والتعتيم عليه في ضرب لحقّ تبادل المعلومة وسيلانها.

لقد تفطنت التقارير الصحفية للفاهم بوكدوس على قناة الحوار التونسي مبكرا للحراك الاجتماعي بالحوض المنجمي ووضعت الإصبع على أسبابه المباشرة والمزمنة، وكشفت عن إمكانيات تواصله وتوسّعه مستندة في ذلك على متابعة دقيقة للوضع الاجتماعي لأكثر من سنتين، تابع فيه عديد المشاهدين ملامح من بوادر نهوض نضالي اجتماعي تعمّق مع توسّع فعل حركة المعطلين عن العمل من أصحاب الشهائد، ومسّ جملة من شعاراتهم المطالبة بالعمل ومقاومة كافة أشكال الفساد والمحسوبية والزبونية وعدم تكافؤ الفرص، لوعي الآلاف من السكان. وقد كشفت هذه التقارير جملة من الأكاذيب والمغالطات التي مسّت الحركة الاحتجاجية على غرار تحميل الاتحاد العام التونسي للشغل كامل مسؤولية فساد مناظرة شركة الفسفاط التي فجّرت الأوضاع، أو تحييد الشركة المذكورة عن كل ما حصل، أو إصباغ الحركة بطابع عشائري، أو نفي لإمكانية تواصل الاحتجاجات الشعبية لفترة طويلة دون وسائط سياسية.

لقد ساهم الفاهم بوكدوس طيلة أشهر الاحتجاجات الأهلية بالمدن المنجميّة بجهة قفصة في تحدّي أنجع أساليب الصحافة الرسمية ألا وهي التجاهل، وساعد في كسر "تواطئها الإجرامي" في مساعي الالتفاف على النضالات الجماهيرية وإفشالها في المهد، ونجح في تقديم تلك النضالات وأصحابها إلى عدد واسع من المتفرجين، وتحاور مع عدد من كوادر الحركة الاحتجاجية وشبابها، وأصبح للمواطنين العاديين نصيب من التغطية الإعلامية ومن الحضور الفضائي تمكنوا من خلاله من التعبير عن مشاكلهم ومطالبهم، ومن فضح تهم التوظيف والاستغلال الشخصي والسياسي للحركة، ومن الإحساس بقيمة فعلهم وبعدالة قضيتهم، إلا أنّ السلط الأمنية والقضائية لم تر في ذلك التواصل الإعلامي الضروري والشجاع سوى ربط لصلات مع "وفاق جنائي يستهدف مؤسسات الدولة والأمن العام" و"ينبع من نفوس مريضة تحسد بلادنا على النعيم الذي تعيشه والخيرات التي ترفل فيها على خلاف غيرها من الأقطار".

إن مراسل قناة الحوار التونسي لم يحاول قط احتكار المعطيات والمادة المصورة، التي صوّرها بنفسه أو التي جمعها من عدة مصورين على رأسهم السجين محمود الردادي أو التي رصدتها كاميرات عشرات الهواتف الجوالة، بل سخّرها للقناة التي يعمل معها، ولوسائل الإعلام العربية والدولية، وللجمعيات الصحفية والحقوقية التي تشتغل على مثل هذه المواضيع، انطلاقا من إيمانه الراسخ بـ"مشاعية" المعلومة وضرورة تبادلها على نطاق واسع ما دام المهم عنده طبيعة استعمالها وكيفية تطويعها لتصل إلى أكثر ما يمكن من المستهلكين، ولتنصف القضايا التي تعكسها خاصة إذا تعلقت بملفات اجتماعية ومسّت الأغلبية الساحقة من طبقات المجتمع وفئاته المسحوقة، ومرّة أخرى لم تجد السلطة في هذا الأمر سوى انسجام مع "دور مفترض" لعنصر اتصال بين "العصابة الإجرامية الاجتماعية" ووسائل الإعلام الدولية والمحلية، لا تبتغى منه حاجة أو دور إعلامي، وقد يكون ساهم وفق تفسير قصووي في الوصول إلى المنعرج الأمني لـ6 جوان 2008 وقتلى وجرحى الرصاص الحيّ...

إن المتابعة الأمنية والقضائية للصحافي المذكور لم تكن مفاجئة ولا طارئة، بل جاءت وفق مخطط بدأت ملامحه تظهر قبل ذلك بأشهر، صحيح أنه منذ اشتغاله بقناة الحوار التونسي كان عرضة لشتى المضايقات والإيقافات والتهديدات كغيره من عناصر طاقم القناة، إلا أن تغطيته لانتفاضة الشغل المنجمية نُظر إليها كجريمة وكتحدّ لسياسات فرض صمت القبور وقبول الأمر الواقع، وجب وضع حدّ لها ومعاقبة صاحبها، ووفقا لتصريحات بعض الموقوفين من قادة الحركة الاحتجاجية في أفريل 2008 فإن الفاهم بوكدوس كان على قائمة المطلوبين آنذاك، لكن ما حصل من تصعيد شعبي عرقل الأمر وأجّله إلى شهر جويلية الماضي.

إن جملة المعطيات والوقائع التي تدلل على إمكانية استهدافه لم تكن غائبة عن ذهنه بالمرّة، لكنها لم تدفعه إلى التراجع عن أداء رسالته لاستيعابه الإطار السياسي والأمني الذي يتواجد فيه ويشتغل والذي يرى في حرية الصحافة والإعلام هبة ومنّة وخلافها مغامرة وسير في المجهول، ولا شكّ أنه كان على استعداد لتحمّل عواقب فهمه الملتزم لمهنته ولشتى الأخطار التي يمكن أن تستهدفه.

إنه وفقا لبداهة الأمور، وانسجاما مع خطاب السلطة المتكرّر والمتجدّد والمتهافت حول الحريات الإعلامية ببلادنا، فإن استهداف مراسل قناة الحوار التونسي بقفصة يمثل جريمة لا يمكن تبريرها أو الدفاع عنها، وتحتاج إلى كثير من الرفض والإدانة، وإظهار مراميها الحقيقية بما توجيه جملة من الرسائل إلى الصحافيين الشبان لكبح جماح التزامهم الصحفي وحصره في أدوار كلاسيكية، غير أن اليد الطّولى في تنفيذ أجندة تكميم الأفواه لم تعد كاسحة وباتت معرّضة أكثر من ذي قبل للارتجاف والانحصار خاصة إذا اتحد الصحافيون وتضامنوا وتغلبوا على بعض النزعات الحيادية والفئوية والسّياسويّة ودافعوا بمبدئيّة عن حريّة التعبير وحق الاختلاف، البوّابة الأساسيّة لمجتمع المواطنة الحقـّة.

عفاف بالناصر


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني