الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > في سبات العقل - حوار هادئ مع شيخ تزعجه المقاربة السوسيولوجية للتدين بالمغرب
محمد الشريف الفرجاني:
في سبات العقل - حوار هادئ مع شيخ تزعجه المقاربة السوسيولوجية للتدين بالمغرب
29 أيار (مايو) 2008

محمد الشريف الفرجاني

أستاذ جامعي باحث في الدراسات الدينية والعلوم السياسية

في أواخر السنة الماضية صدرت عن منشورات مجلة "مقدمات"، ضمن سلسلة "الدين والمجتمع" التي صدرت في إطارها الترجمة العربية لكتابي "السياسي والديني في المجال الإسلامي"، دراسة سوسيولوجية عن القيم والممارسات الدينية في المجتمع المغربي انبنت على تحليل نتائج بحث ميداني شمل عينة تمثيلية غطت مجموع الجهات [1]. وقد أعقب نشر هذا الكتاب نقاش واسع في الصحافة المغربية أولا، قبل أن يمتد ويلقى اهتمام دوائر إعلامية وعلمية في الخارج.

وبما أن البحث الاجتماعي يولي أهمية خاصة لمسألة التلقي والتمثلات التي يفرزها المجتمع في تعامله وتملكه لنتائج هذا الصنف من الأبحاث، خصوصا عندما يكون موضوعها التدين أو القيم والممارسات الدينية، فإن مؤلفي الكتاب عمدوا إلى تجميع مختلف مكونات أرشيف النقاش العمومي الذي أعقب ظهوره، بغية تخصيص دراسة لآليات وأنماط تلقيه من طرف مختلف الفاعلين ولرهانات تلك العملية.

في انتظار الإطلاع على التحليل الذي سيقدمه مستقبلا مؤلفو الكتاب، ومساهمة في النقاش الدائر بخصوص نتائجه وبشأن المقاربة السوسيولوجية للتدين، أود، كعضو في هيئة تحرير مجلة "مقدمات"، التوقف عند القراءة النقدية التي نشرها الدكتور مصطفى بن حمزة، رئيس المجلس العلمي لوجدة وعضو المجلس العلمي الأعلى [2] . ويرجع هذا الإختيار إلى أهمية الموقع الذي يتحدث منه صاحب المقالة، وإلى أن هذه الأخيرة صدرت في منبر يعد اللسان المعبر عن مواقف المجلس العلمي الأعلى، وكذلك، وهو الأهم، إلى أن مضامين المقالة ولغتها ومفاهيمها، تعكس، بشكل من الأشكال، رؤية وثقافة شريحة من النخب الموكول إليها أمر تدبير الدين (تفكيرا وتأليفا وتدريسا ودعوة وتأطيرا، الخ)، أي هذه الشريحة من النخبة المثقفة التي دأب الإستعمال في المغرب على تسمية أعضائها ب"العلماء" وليس "الشيوخ"، كما هو معمول به في بعض بلدان المشرق أو في تونس على سبيل المثال.

"العلماء" ليسوا شريحة متجانسة

بداية لابد من الإشارة إلى أن "العلماء" لا يشكلون اليوم مجموعة متجانسة، وأنهم ككل مكونات النخبة تخترق صفوفهم تباينات ليس فقط على مستوى الخطاب، بل وأيضا في استراتيجيات التعامل مع المجتمع والمكونات الأخرى للنخبة المثقفة، وطبيعة ثقافتهم الدينية، ومدى إتقانهم للغات الأجنبية، ودرجة إطلاعهم على معارف العصر وعلى العلوم الاجتماعية والإنسانية بوجه خاص.

إذا أردنا حصر الحديث في نمط تلقي العلماء للدراسة الصادرة ضمن منشورات مجلة "مقدمات"، فإننا نلاحظ مثلا أن مقاربة الرابطة المحمدية للعلماء جاءت مخالفة تماما لتلك التي اعتمدها المجلس العلمي الأعلى. فقد كان رد فعل الأولى سريعا وتمثل في دعوة مؤلفي الكتاب للمشاركة في ندوة مفتوحة (الرباط، 5 فبراير 2008) بغية عرض نتائج عملهم وتوضيح المنهجية المتبعة والدخول في مناقشة مع ثلة من أعضاء الرابطة ومع الجمهور الشاب الذي تابع بكثافة أعمال الندوة. واستندت هذه المبادرة، كما عبر عن ذلك الأمين العام للرابطة، إلى حاجة العلماء للاستعانة بالبحوث الاجتماعية وبالمناهج المعرفية الحديثة عملا بمبدأ تكامل المعرفة، ووعيا بالدرجة العالية من التعقد التي تطبع مختلف الظواهر الاجتماعية، مما يحتم تضافر جهود الباحثين من مختلف التخصصات.

أما المجلس العلمي الأعلى فلا نعرف موقفه من مثل هذه الأبحاث. وبما أن الدراسات التي تنشرها مجلته لا تعبر إلا عن مواقف مؤلفيها، فإننا سنكتفي هنا بمحاورة حضرة الشيخ مصطفى بن حمزة الذي نشكر له اهتمامه بالموضوع وبالفرصة التي تتيحها لنا قراءته لتوضيح بعض النقاط حول علاقة العلوم الاجتماعية بالظواهر الدينية وبالتدين في المجتمع المغربي على وجه الخصوص.

القراءة قبل النقد : مبدأ خلقي قبل أن يكون معرفيا

بما أن عنوان مقالة الدكتور بن حمزة تبدأ بكلمة "قراءة"، فقد تمنيت لو أن مشاغله سمحت له بقراءة الدراسة موضوع نقده. فلو أنه كلف نفسه عناء اقتناء الكتاب وإلقاء نظرة سريعة على غلافه لكان على الأقل تعرف على عنوانه الكامل، واسم ناشره، ولكان علم بأنه نص محرر باللغة الفرنسية [3] . ثم لو أن فضوله المعرفي دفعه لتفحص الكتاب لاتضح له أنه يحمل ملاحق في آخره، وأنه ذيل بمجموع الأسئلة (146 سؤالا) التي تضمنها الاستبيان، مع عرض للمعطيات الإحصائية الخاصة بكل سؤال. ولو أنه فعل ذلك لربما كان استسلم لغواية القراءة فاختار بعض المقتطفات من نص الكتاب ليستشهد بها في مقالته ليتعزز بها نقده.

وبحكم مهنتي كأستاذ جامعي يحرص على أن يقرأ الطلبة بإمعان النصوص قبل التعليق عليها، فقد تأسفت كثيرا لما يمكن أن يجد الشباب في تعامله مع الكتاب الذي تصدى له بالنقد ما يدفعهم إلى مزيد من العزوف عن القراءة، والتمادي في تجاهل الكتاب والاكتفاء بالشائعة، والدردشة والعنعنة كمصادر للمعرفة. لذلك تمنيت لو أن "العالم" حرص على أن يكون قدوة فيقرأ أولا وينتقد ما يقرؤه ثانية.

فلو تجشم حضرة الشيخ الدكتور بن حمزة عناء قراءة الكتاب بدل الاكتفاء بما نقلته بعض الصحف المنشورة باللغة العربية، لكان اطلع مثلا على مضمون المقدمة المطولة التي تناولت بالتحليل والنقد تراث الدراسات الاجتماعية حول الدين بالمغرب منذ فترة الحماية إلى اليوم. ولو فعل ذلك لكان تفادى اقتفاء المسلك السهل المتمثل في اعتماد خطاب إيديولوجي مبتذل عن "صناعة المغالطة" و"المؤامرة" التي حيكت ضد الإسلام ولا تزال تحاك ضده تحت قناع البحث العلمي. وكان بالإمكان أن نلتمس بعض الأعذار للسيد بن حمزة لو كان صريحا في نقده فسار على خطى الشيخ الزيتوني، محمد الصالح بن مراد حين رد في ثلاثنيات القرن العشرين على كتاب الطاهر الحداد "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" بكتاب عنونه "الحداد على امرأة الحداد" وكانت آخر جملة في رده "هذا على الحساب حتى أقرأ الكتاب".

فقه العينة

لو تفحص فقيهنا صفحات الكتاب وحصل أن توقف صدفة عند الصفحة 40، لكان استغنى عن مناقشة موضوع العينة، ولما كان أضاع جزءا من وقته الثمين في إرشاد السوسيولوجي الجاهل إلى مبادئ صناعة العينة. طبعا كان بالإمكان أن تكون الدراسة أقل كلفة لو أن البحث الميداني اقتفى المسلك الذي يقترحه الشيخ مصطفى بن حمزة، كأن ينطلق مثلا من بوادي سوس العالمة عبر شبكة مدارسها العتيقة، ثم يُعرج على زاوية سيدي الزوين حيث ترسخت تقاليد حفظ القرآن، لينتهي بوقفات روحية داخل أضرحة "سبعة رجال" بمراكش. لو تم ذلك لكان البحث بحق سياحة روحية ممتعة ولجاءت نتائجه مطابقة لما يتصوره حضرة الشيخ بن حمزة، ولتبين للجميع أن نسبة المغاربة الذين يحفظون القرآن عن ظهر قلب نسبة عالية ومشرفة ومعبرة عن الوجه الروحي المشرق للمغرب.

لكن للأسف اختار الباحثون الوفاء للأورتودوكسية السوسيولوجية وفضلوا أن تأتي عينتهم من حواسب المندوبية السامية للتخطيط. وهي عينة (1156 شخص) ممثلة لخصائص ساكنة المغرب مستندة إلى معايير التوزيع الجغرافي، والجنس، والنشاط المهني، والشرائح العمرية، والمستوى الدراسي / الأمية، الخ.، للأشخاص الذين وجهت إليهم الأسئلة. فبما أن البحث يتعلق بدراسة "القيم والممارسات الدينية عند المغاربة"، كان من الضروري الاشتغال على عينة تمثل ساكنة البلد. إلا أن الشيخ الدكتور بن حمزة يعتبر هذه الموضوعية مغلوطة. ومن ثم جاء حكمه على البحث نهائيا لا رجعة فيه : "إحصاء شارد لم تتوفر له بالتأكيد شروط الموضوعية والنزاهة، ولا يدري أحد كيف تم، ولا كيف اقتنصت نتائجه" (ص. 9-10). فتطوع مشكورا ليلقن لمؤلفي الكتاب (محمد الطوزي، حسن رشيق ومحمد العيادي) الذين راكموا خبرة ثلاثة عقود من البحوث الميدانية، دروسا في مناهج العلوم الاجتماعية وطرق بناء العينات وصياغة أسئلة الاستبيان، الخ.

أنا "عالم" إذن أنا أعلم

يقول الشيخ الدكتور مصطفى بن حمزة بأن الآراء الواردة في مقالته النقدية هي "خلاصة قراءة أنتجتها رؤية فاحصة لقضايا التدين من موقع الحضور داخل المجال الديني". ومن تم فهي "أوثق ارتباطا بواقع الممارسات بالمغرب" (ص. 12). لا نشك في أنه ، بحكم خبرته في الحقل الديني، يعلم أكثر من غيره تفاصيل واقع التدين عند المغاربة، وكم كنا سنوفر مالا وجهدا ووقتا ثمينا لو اكتفى باحثونا باستجواب مفصل مع فضيلته يطلعنا من خلاله على كل ما يهم موضوعنا. لكننا نلتمس منه المعذرة فباحثونا الثلاثة جبلوا، بحكم تخصصهم، على الالتزام بمنهجيات سائدة في أوساط أقرانهم مغاربيا ودوليا. وهي مقاربات تقوم على مبادئ بسيطة لا غنى عنها في عرفهم، لعل أهمها القاعدتان الآتيتان :

أولا : اعتبار أن المنتمي لجماعة ما لا يكتسب بحكم انتمائه ذاك أي امتياز إيبستمولوجي (حسب قاموسهم) عندما يتعلق الأمر بإنتاج معرفة "علمية" عن جماعته. وإلا فإن الأجدر بإعداد بحث عن وضعية النقل في الرباط مثلا، هو سائق الحافلة أو الطاكسي انطلاقا من منطق حضوره الدائم داخل زحمة المواصلات. وبعبارة أخرى فإن هذه الجماعة تزعم أن المعرفة لا ينتجها الانتماء أو القرب الحسي من موضوع البحث، بل العكس تماما. فهم يعتقدون أن إنتاج المعرفة العلمية يقتضي مسافة بين الباحث وموضوعه والاعتماد على المناهج والقواعد والآليات المعمول بها في حقل الاختصاص (علم الاجتماع في الحالة التي نحن بصددها).

القاعدة الثانية التي يتشبث بها أعضاء هذه الفرقة منذ قال بها شيخهم إيميل دوركهايم، تتمثل في ضرورة أن تكون نتائج عملهم ونظرياتهم قابلة للدحض والتفنيد. وهم يحاولون أن يسلكوا في ذلك نهج العلوم الحقة من فيزياء وفلك وطبيعيات. معنى ذلك أنه إذا سنحت الفرصة (بعد سنة أو خمس سنوات) لباحثين آخرين بإنجاز بحث حول نفس الموضوع (بعينة تمثيلية) وفقا للمواصفات والمعايير المعمول بها كونيا، فخلصوا إلى نتائج مغايرة تماما لنتائج بحثهم، فسوف يكون أصحابنا أول من يصفق للأمر ويستشهد به في أبحاثه. وذلك لسبب بسيط هو أنهم يعتبرون، على غرار "المرحوم" غاستون باشلار، أن "تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه" وأن أول خصائص النظريات العلمية هو كونها قابلة للتفنيد في أية لحظة.

أما المعرفة التي تتحقق من دون وسائط منهجية (من قبيل العينة والاستبيان وغيرها من طرق البحث المتعارف عليها)، المعرفة الثابتة وغير القابلة للتفنيد، فهي لا تتأتى إلا لأصحاب الملكات النادرة، من أمثال الشيخ الدكتور مصطفى بن حمزة، الذين ينفذون إلى حقائق الأشياء و وجواهر الظواهر بحدسهم الخارق وعرفانهم الشامل. لكن تلك درجة من العلم لا ترقى إليها البحوث الاجتماعية المتواضعة.

الهوية : جوهر أم بناء اجتماعي

لعل الأمر الذي أثار أكثر من غيره غضب الشيخ الدكتور مصطفى بن حمزة هو التحليل الذي قدمه الباحثون للأجوبة المحصلة انطلاقا من السؤال (رقم 92) بخصوص موضوع الهوية. وبما أن وقته الثمين لم يسمح له بقراءة البحث والسؤال، واكتفى بما ورد سريعا في الصحافة، فإننا نستسمحه في تقديم التوضيحات الآتية :

قد يجد الشيخ الدكتور في السؤال عن الهوية الدينية للمغاربة أمرا جللا ومؤامرة "تمس الأمة في انتمائها الديني" (ص. 9). وحتى لو أدى التسامح إلى التسليم بحسن نية أصحاب السؤال، فإن ذلك لا يمنع من اعتبارهم قد جانبوا الصواب وضلوا طريقه من منظور الرافضين لمثل هذه التساؤلات. إذ يكفي، وفق تصور شيخنا، أن يتجول المرء في شوارع المدن المغربية ليسجل "عمق تدين المغاربة" فلا يوجد مغربي يمتنع عن "ختان أبنائه"، ولا ميت لا يدفن إلا بعد أن يؤدي عليه أقرباؤه "صلاة الجنازة". ناهيك بالأجواء الروحية في شهر رمضان، والإقبال على الحجاب الذي "بلغت نسبته 84 %" حسب المعلومات الخاصة لأمثاله (ص. 10) و"موجة الإنشاد الديني ورواج أشرطة القرآن الكريم والدروس والمحاضرات" (ص. 10) وغيرها كثير من العلامات البارزة الساطعة الدالة على "الصحوة الدينية المباركة" التي تشهدها ربوع هذا البلد الأمين. لكن قد يتساءل القارئ عن الدافع الذي جعل الشيخ الدكتور بن حمزة يخصص ثلثي مقالته لسرد كل تلك المظاهر وغيرها كثير.

سبب غضب الشيخ هو ذلك السؤال الماكر رقم 92 الذي يتوجه للمستوجب كالآتي : "ما هي الهوية التي تعتبر بأنها تنطبق عليك ؟ (مغربي، مسلم، عربي، أمازيغي، أفريقي، آخر (حدد). رتب هذه الهويات من 1 إلى 6). كل المستجوبين اختاروا من بين الهويات التي اختاروها "الهوية الإسلامية"، لكن الذي أقلق راحة فقيهنا "العالم" هو كون 54,2 % فقط وضعوا الهوية الدينية في المرتبة الأولى، بينما وضعها 27 % في المرتبة الثانية.

ليعلم حضرته أنه من منظور أصحاب تلك الفرقة (أقصد علماء الاجتماع) لا توجد هوية معطاة، جوهرية، نهائية ومنغلقة على ذاتها. إنهم يعتبرون بأن الهوية بناء اجتماعي معقد غير قابل للاختزال في بعد واحد متجانس، جامع، بل هي توليف ديناميكي متحول باستمرار. وهم يرون أن الفرد باعتباره فاعلا اجتماعيا يستخدم عادة مجموعة من الموارد الهوياتية (دينية، وطنية، إثنية، قبلية، مهنية، الخ) تبعا للسياقات والوضعيات التي يوجد فيها. ذلك هو ما يطلقون عليه في معجمهم "استراتيجيات الهوية". وبناء على ذلك فهم عندما يطلبون من الشخص المستجوب وضع ترتيب لبعض مما يعتبره هوياته، فإن الغاية ليست إقامة تعارض بينها خصوصا وأنها في الحياة المعيشة تشتغل مثل دوائر متداخلة فيما بينها. وإنما يرمون من وراء ذلك إلى أن يعرفوا في لحظة ما من الزمن كيف يتصور ذلك الشخص هويته الأم الحاضنة لهوياته الأخرى، علما بأنه في لحظة زمنية وسياق اجتماعي مغاير لن يتردد ذات الشخص في إعادة ترتيب هوياته بشكل مغاير تماما.

هذا السياق النظري الذي يتعلمه عادة طالب علم الاجتماع في سنته الأولى يمكن أن يكون محل استغراب أو استنكار لدى الأشخاص الذين تعودوا على تصور مغلق وثابت للهوية. ويمكن أن نسوق لتوضيح هذه الفكرة التي تثيير سخط الشيخ الدكتور المثال الآتي : لي صديق اسمه "كـ" انتهى بحكم زواجه من سيدة فاضلة تطوانية الأصول إلى اعتبار الطبخ ونمط العيش التطواني قمة الذوق ونموذج التحضر. ولذلك فهو عادة ما يتحمس لما يعتبره "الهوية" المتوسطية الأندلسية ضد "الهويات الجهوية" الأخرى. لكن عندما يشاهد صاحبنا إحدى مقابلات الفريق المغربي في كرة القدم يتحول إلى وطني شوفيني حتى وإن كان الخصم فريقا يمثل أحد اللبلدان المغاربية الشقيقة. أما عندما تطرح قضايا جيو-استراتيجية على غرار مآسي فلسطين والعراق، فإن صديقي يصبح منظّرا راديكاليا لوحدة الأمة الإسلامية ضد أعدائها شرقا وغربا، بحيث يكاد يقسم العالم إلى "دار حرب" و"دار إسلام". لكن ذلك لا يمنعه بحكم أصوله الأمازيغية وإتقانه للغة موطنه الأصلي (الأطلس الكبير) من مجادلة الإسلاميين والقوميين كلما تعلق الأمر بالدفاع عن اللغة والثقافة الأمازيغية. إلا أن حبه لصوت أم كلثوم وللشعر العربي عموما يجعله في بعض المجالس الأدبية يبدو وكأنه قومي أكثر من ساطع الحصري وميشال عفلق وجمال عبد الناصر مجتمعين.

ألسنا جميعا، بشكل من الأشكال، أشباه صديقي "كـ" ننتقل من سجل هوياتي إلى آخر بإيقاع مرن وبعفوية تكاد تكون "طبيعية" ؟ ولعل ذلك مما يثير سخط دعاة الإيديولوجيات التمامية الذين تؤرقهم هذه التعددية فيسخرون طاقاتهم للسعي إلى تنميط سلوكاتنا وإخضاعها لهوية "مثالية"، كأن يدعوننا لنفكر إسلاميا ونتذوق إسلاميا ونحب إسلاميا أو نمارس السوسيولوجيا إسلاميا. إلا أن المرء العاقل يكفيه أن يتأمل مصير كل الإيديولوجيات التي تصورت يوما إمكانية التصرف في الوجود الإنساني وإعادة صياغته على المنوال الذي ترتضيه. ألم يحصدها تيار الحياة والتاريخ الجارف ؟

صحوة دينية أم تحديث ؟

اطلع الشيخ الدكتور بن حمزة على بعض الأرقام والعناوين المثيرة التي وردت في الصحافة فاختلط في ذهنه أمران : الأول يهم ما ورد في الدراسة عن "ضعف" الثقافة الدينية عند المستجوبين. والمقصود بالثقافة الدينية ليس وضع الحجاب أو القيام بالشعائر أو الاستماع لأشرطة الأناشيد الدينية، بل الثقافة المكتوبة (مصادر الدين وتاريخه، عدد وأسماء المذاهب الفقهية السنية، أسماء وترتيب الخلفاء الأربعة الأوائل...). وهذا أمر لا يمكن الحسم بشأنه على أساس انطباعات وتجارب شخصية، ولكن بالاستناد إلى أبحاث ميدانية تأتي بنتائج مغايرة لتلك التي حملتها الدراسة. الأمر الثاني هو علاقة هذا "الضعف المعرفي" في مجال التراث الديني بما يسمى "مسلسل التحديث" وهو أمر لم تتطرق له الدراسة بتاتا ولا أعتقد أن بحثا اجتماعيا جادا يمكنه أن يأتي بكلام من قبيل ما ساقه الشيخ الدكتور : "أن مجرد الجهل بالإسلام هو مؤشر توجه المغرب نحو الحداثة" (ص. 10). وبما أن فقيهنا لم يطلع على الكتاب (وهو يسميه "تقرير") فإنه لم يورد أي استشهاد من النص يؤكد ادعاءاته.

اعتبارا لكون البحث لم يتناول الموضوع في أي فصل من فصوله، فإنني ألتمس من الشيخ الدكتور السماح لأمثالي بتقديم ملاحظة بسيطة قد لا ينتبه لها العباقرة من أمثاله : فنحن لا نعرف بحثا جادا في العلوم الاجتماعية لم يربط "مسلسل التحديث" بتراجع معدلات الأمية وانتشار التعليم والمعرفة بكل أصنافها، بما فيها المعرفة الدينية. وما يذكره من إقبال المغاربة على زيارة المواقع الإلكترونية ذات المضامين الدينية لا ينفي بل يؤكد هذا الأمر.

في المعرفة والسلطة

إذا كان الشيخ الدكتور بن حمزة لم يمسك أصلا بالكتاب موضوع نقده ولم يقرأه، وإذا كان، كما يتضح من مقالته، لا يرى فائدة من تأليفه، فما الدافع لكتابة ونشر قراءة نقدية في مجلة محترمة تصدر عن المجلس العلمي الأعلى التي من المفروض أن تكون مجلة علمية محكمة، تتولى لجنة تحريرها فحص جدية ورصانة المقالات التي تصلها ؟ لا جدال في أن السيد بن حمزة غيور على دين الأمة، لكنه يغار أكثر على وضعه ومصدر شرعيته. ذلك ما يؤكده عندما يكتب مثلا : "ومهما يكن الأمر فالإشكال لا يكمن في وجود فئة لا تعرف الإسلام كما يجب أن تكون المعرفة، وإنما في وجود فئات لا تعرف الإسلام، ومع ذلك فهي تدعي أنها أعرف به من علمائه، وأنها أقدر على الاجتهاد فيه، والإتيان بما لم تستطعه الأوائل" (ص. 12). هنا مربط الفرس كما يقال. خطيئة الباحثين الثلاثة أنهم عوض أن يواصلوا أبحاثهم حول التنمية القروية والهجرة والماء والمشاكل الحضرية وغيرها من القضايا الاجتماعية التي لا تهم العلامة بن حمزة في شيء، أرادوا التطفل على موضوع يعتبره خاضعا لمنطقة نفوذه ومجال سلطته ومصدر شرعيته. لكنني أستسمح مرة أخرى الشيخ العلامة لأثير انتباهه إلى أن علم الاجتماع، عندما يدرس أشكال التدين، ليس غرضه إنتاج بحوث في الإلهيات ولا رسائل في الفقه. إنه يتعامل مع الظواهر الدينية باعتبارها بعدا من أبعاد التجربة الاجتماعية : قابلة للملاحظة والرصد والقياس والتحليل بأدوات هذا العلم وأدواته. فليطمئن قلبه ولتقر عينه، لن ينافسه يوما علماء الاجتماع في مخاطبة وجدان المؤمنين، ولن يدور بخلد أحدهم لحظة أن ينازع السلف سلطتهم الرمزية على الخلف، بل إن كل جهدهم ينحصر في السعي إلى الكشف عن الآليات التي تساعد أو تعوق جهوده وجهود أمثالهه من المشائخ لتأدية وظيفتهم في علاقة بما يتطلع له المؤمنون لإشباع حاجاتهم الروحية وإعطاء معنى لوجودهم وسلوكهم ولما يقيمونه من علاقات مع غيرهم ومع العالم بما فيه مقدساتهتم . لكنهم يرجون أيضا أن يتسع صدره ويعلم أنهم وإن كانوا يحترمون ويقدرون عواطفه الجياشة وغيرته على الدين، لا يعتبرون العواطف حججا ولا الغيرة برهانا. فكما أن للخطب الدينية بيانها وبلاغتها ومقامها، فإن لنقد الدراسات الاجتماعية شروطه وضوابطه.

رفع الحجر عن العقل : حق من حقوق الإنسان

قبل أن أقدم هذه السطور للنشر حرصت، كعادتي التي تحرج الكثير من ضحايا هذا الحرص، على الاستفادة من ملاحظات بعض من أثق في حسهم النقدي. ولكن أحد الأصدقاء فاجأني بابتسامة ساخرة علت محياه بمجرد أن أكمل قراءة هذه الورقة ، وقال لي متهكما : "أراك تضيع وقتك وجهدك هباء. فأنت تعلم بأن الرجل لا تهمه دراستك في شيء، وهو لم يدبج مقالته "النقدية" لينشرها في أحد كبريات مجلات علم الاجتماع الدولي. كما أنه لا يتوجه بخطابه لك أنت أو لغيرك ممن يدعون الانتماء لدائرة أرستقراطية البحث العلمي الضيقة. الرجل يستخدم بحثكم مطية لمواصلة ما يعتبره دعوة، فهو يستهدف جمهورا واسعا من المتعلمين الذين يفترض اصطفافهم أمامه مستعدين لتلقف كلماته قبل أن ينطق بها. إنهم أولئك الذين يرون فيه فارس حرب حضارية مصيرية. وبما أن عقول هؤلاء مقفلة في وجه خطابك، وبما أن الباحثين ليس لهم وقت يضيعونه في مجادلة رجل يجهل أبسط شروط البحث العلمي الحديث، فإن ما تكتبه هو من قبيل ما ينطبق عليه قولهم : كلامك يا هذا كالصائحات قفرا والبائلات رملا والنافخات زمرا".

تأملت لحظة كلماته وأجبته من دون تردد : "قد يكون كلامك صحيحا من وجهة النظر السياسية التي لا تعنى إلا بموازين القوى الخام، لكنني أرفضه لدواعي أخلاقية. فكما أنني أرفض أن ينبري شيخ لم يفتح يوما مصنفا في السوسيولوجيا ليعلمنا قواعد المنهج وأصول صناعة علم الاجتماع، لا أشاطر بعض مثقفينا موقفهم الذي يعتبر أن الناس (أو الجماهير كما يقولون) تساق مثل الإبل على إيقاع الخطب الرنانة والشعارات الجوفاء. ليس من المعقول أن نقر بأن للإنسان حقوقا وكرامة ونطالب الدولة والمجتمع بضمانها واحترامها، ونقبل في ذات الوقت بأن يمارس البعض الحجر على عقول الناس والوصاية على فكرهم. إن معركة الديمقراطية وحقوق الإنسان لن تستقيم وتكتمل إلا عندما يجرؤ كل مواطن على الاستخدام الحر والمستقل لعقله وضميره خارج كل أشكال الوصاية أيا كان مصدرها".

هوامش

[1L’islam au quotidien : enquête sur les valeurs et les pratiques religieuses, par Mohamed El-Ayadi, Hassan Rachik, Mohamed Tozy, Casablanca : Edition Prologues, 2007

[2مصطفى بن حمزة، "قراءة نقدية في تقرير القيم والممارسات الدينية في المغرب"، مجلة المجلس العلمي الأعلى، عدد مزدوج 2-3، مارس 2008.

[3ينتقد شيخنا استخدام البحث لكلمة "طقوس" التي لا تنتمي للمعجم الإسلامي، بدل استخدام كلمة "شعائر" المذكورة في القرآن. وفاته أن البحث لم يستعمل لا هذه العبارة ولا تلك، لسبب بسيط هو أنه كتب باللغة الفرنسية.


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني