الصفحة الأساسية > البديل الوطني > كم يلزمك من قرابين الحريّة يا تونس؟
رسالة إلى الفاهم بوكدّوس:
كم يلزمك من قرابين الحريّة يا تونس؟
28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010

صديقي العزيز الفاهم ؛

سلبوك حريتك وسرقوا قلمك، جعلوا بينك وبين حبيبتك قضبانا وحارسا يشي بأجمل الكلمات، فكان جسدك العليل آخر المتاريس لإرادة تصارع طواحين الظلم والقهر منذ حوالي عقدين من الزّمن دون كلل. صوتك وزغاريد الانتصار أزعجت السّلطان في نومه الهادئ فأزبد وأرعد وألقى بجام غضبه عليك. لست وحدك من أصابته لعنة "كومونة الرديّف"، على بعد أمتار منك رفيقك حسن بن عبد اللّه أحكم السجّان أقفال زنزانته حتّى لا يراك.

"سجن زرّوق" أو"سجن السّجون" عنوانك اليوم، كان عنواني منذ خمسة عشرة سنة خلت، أعرف جيّدا قسوته وجبروت سجّانيه، مدينة "قفصة" أعرف أهلها وشوارعها وأزقّتها كبلدتي الصّغيرة "تاكلسة" ولم تطأها قدماي إلاّ مرّة واحدة ليلا، عندما أطلق سراحي مساء 3 مارس 1997، حيث ركبت القطار في اتجاه العاصمة، عرفتها كما رواها لي "أصدقاء الزنزانة" من كلّ أحيائها وبلداتها ؛ حومة الوادي، حي النّور، العسّالة، حي السرور، الرديّف، المتلوّي، أم العرائس...

الفرق بيننا يا صديقي أنّني دفعت الثمن مع جيل أو جيلين على أقصى تقدير أمّا أنت فقد قرّرت دفع الثمن مع كلّ الأجيال، في حولك الأربعين تعانق حلم الفقراء وتصرّ على أنّ "استراحة المقاتل" بدعة ما أنزل بها النّضال من سلطان، هكذا أنت بين ضيق التنفّس وطول النفس، بين أحلامك الورديّة وكوابيس الحياة.

كم هو مؤلم النبش في ثنايا الذّاكرة؛

لازلت أتذكر عندما جئت لزيارتك في صائفة 1997 في إحدى ضواحي العاصمة لنعدّ لإضراب جوع في مفتتح السنة الجامعيّة بعد أن حرمنا من حقّنا في الترسيم بتعلّة "أنّنا خرّيجي سجون وأصحاب سوابق"، كنت ليلتها تكتب نصّا رائعا حول ذكرى وفاة "إلفيس بريسلي"، أجل مع الفاهم عرفنا "إلفيس بريسلي" و"البينك فلويد" و"البيتيلز" و"بوب مارلي" وغيرهم، حوالي السّاعة العاشرة ليلا أصابتك "نوبة ربو" حادّة جدّا لا زلت إلى الآن أستحضر تقاسيم وجهك وأنت تتألّم، قضّيت ليلتك تلك في مستشفى "الرّابطة" في غرفة الإنعاش، حينها أدركت حجم الألم الّذي تعانيه من هذا المرض اللّعين.

لن أنسى لك جميلا قدّمته لي وأنت في حالة فرار، أثناء التحقيق معي في مقرّات أمن الدّولة في "ربيع" 1998 تعرّضت لتعذيب وحشيّ طيلة يومين وكان هدف المحقّق هوّ معرفة مكان "مطبعة حزب العمّال"، وللبوليس خيال خصب في هذا الشأن حيث كان يتصوّر وقتئذ أنّنا نملك مطابعا تحت الأرض ومخابئا محصّنة، وفي الحقيقة لم يكن صمودي بطولة بل لأنّني لا أعلم شيئا عن "المطبعة" المزعومة. في اليوم الثّالث كنت على حافة الانهيار عندما دخل المشرف على التحقيق إلى المكتب ومعه رزمة من "المنشورات" رمى بها في وجهي وقال لي "انتهى كلّ شيء نحن في طّريقنا إلى "المطبعة" أنظر جيّدا هذه المنشورات بتاريخ 7 مارس ونحن اليوم في 5 مارس ولقد عثرنا عليها في منزل الفاهم بوكدّوس فهو الوحيد الّذي سوف يدلّنا عن مكان المطبعة" وأمر في الأثناء أعوانه بالكفّ عن تعذيبي.

لا أدري يا صديقي ما الّذي بيننا وبين الشّمس؟ ما الّذي بيننا وبين الحلم؟ وكم يلزمنا من قرابين الحريّة؟ أليس من العبث أن يقتلع طلبة علم من مدرّجات كلياتهم ليزجّ بهم في غياهب السّجون؟ هل من المعقول أن نقاضي طالبا في ربيعه العشرين بتهمة "عشق الحريّة" بعد أنّ إطّلع على حكمة "سقراط" وقوانين "حموّرابي" وأشعار "محمود درويش"؟

لازال "ملح روما" يغطّي وجه هذه الأرض الطيّبة وابن خلدون بمقدّمته ملّ الوقوف في مدينة أصاب أهلها "عارض ستوكهولم"، عبد الرحمان منيف خطّ "شرق المتوسّط" مرّتين أمّا نحن فنكتب كلّ يوم صفحة ألم جديدة في روايتنا الّتي لا تنتهي "غرب المتوسّط".

لم يبق لي صديقي في النهاية إلاّ أن أقول لك أنّ مسافة الزّمن والجغرافيا قد تأتي على كلّ شيء، ما عدا قيمة الصّداقة، فهي ثابتة لا تتغيّر، لا تحزن سوف تكون بيننا قريبا، لقد نسي السجّان أنّ لكلّ سجن نافذة.

صديقك نجيب البكّوشي


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني