الصفحة الأساسية > البديل الوطني > لا... لن نطوي الصفحة
وثيقة - أحداث قفصة:
لا... لن نطوي الصفحة
28 كانون الثاني (يناير) 2010

كنّا نشرنا في عدد سابق من البديل نصّا مطوّلا عن أحداث قفصة المسلّحة ونعود لننشر نصّا آخر يحتوي شهادات لمواطنين كما عاشوها.

الأحداث كما عاشها المواطنون

في تلك الساعة بالضبط استفقنا واستفاق الأهالي على دويّ الرصاص والقذائف المدفعية، وهو ما لم نألفه سابقا وذهب في ظنّنا أنّ المسألة لا تعدو أن تكون مجرّد مناورة عسكرية اختار النظام القيام بها في تلك الليلة بالذات - ذكرى 26 جانفي 1978 - قصد إرهاب الجماهير وتحذيرها من التفكير في القيام بأيّ تحرّك سيّما وأنّ الظرف كان حرجا للغاية نظرا للترفيع الحاصل في أسعار المواد الأساسية قبل أيام معدودات.

إلا أنّ الطلق الناري المكثف الذي كنا نستمع إليه والذي أخذ يقترب منّا شيئا فشيئا جعلنا نفكّر في أنّ أمرا ما غريبا يحدث في البلاد لكننا لم نتمكن من تحديد طبيعة ما يحدث في البلاد ولم يطرأ على بالنا البتّة التفكير في حقيقة ما جرى فعلا.

الساعة الخامسة والنصف خرجنا للإطلاع على الوضع بصفة مباشرة، وجدنا جمعا من عمال منجم المظيلة في انتظار الحافلة التي تنقلهم إلى مركز عملهم وهم يتساءلون حيارى عن حقيقة ما يحدث بقفصة ولا أحد يملك الجواب، وكانت الآراء متضاربة فمنهم من قال بالمناورة ومنهم من ظنّ أنه انقلاب عسكري وقال البعض الأخر لعلّها الثورة. وفيما نحن في أخذ ورد حتى باغتنا شخص مسلّح لم نتبيّن ملامحه لأنه كان ملثما زيادة على الظلام الدامس وصاح فينا أن نرفع أيدينا ففعلنا ثمّ سألنا هل يوجد بيننا جنود أو مجنّدين؟ فرددنا عليه بالنفي وقال أحدنا: إننا ننتظر الحافلة، فقال: إن الحافلة لن تأتي، وطلب منّا أن ننصرف إلى بيوتنا دون أن يزيد أيّ شيء.

لم نعد إلى بيوتنا لأنّ الأهالي بدأوا يغادرون بيوتهم مع طلوع الفجر ويجتمعون بالشوارع للسؤال وكان دويّ الرصاص متواصلا. عندما بدأت تبلغنا أصداء ما يجري في المدينة وتردّدت على كثير من الألسن "إنهم الثوار"، "المجاهدون"... إلى ذلك الحين لم نصدّق بل زادت حيرتنا أكثر فأكثر... لكن هذه الحيرة لن تطول هذه المرّة إذ سرعان ما قاطعتنا أصوات عالية تنشد "حماة الحمى" فاتجهنا صوبها لمعرفة مصدرها فإذا بنا نرى قرابة الثلاثمائة جندي يهرولون وراء شاحنة عسكرية يقودها شاب ملثم الوجه وكانت تسير وراءهم شاحنة من نوع 404 مملوءة بالأسلحة يحاذيهم من الجانبين اثنان من الثوّار كانا يمتطيان دراجات ناريّة، واقتيد هذا الحشد إلى المعهد الثانوي بحي الشباب بقفصة، عندها فعلا بدأنا نتحقق بأنّ الأمر هو فعلا حركة ثوريّة معادية للنظام فقرّرنا الاتجاه إلى وسط المدينة للمزيد من استجلاء الأمر.

وفي طريقنا وقرب دار الشباب بقفصة وجدنا أربعة شبان مدنيين يحملون رشاشات وعدد كبير من الطلقات فاقتربنا منهم وسألناهم ما الأمر؟ فأجابوا بأنهم شباب تونسيون واعون بطبيعة النظام العميل والمعادي للمطامح الشعبية والوحدة العربية وقد تدرّبوا على استخدام السلاح في عدّة أماكن وخاصة بلبنان في صفوف المقاومة الفلسطينية وجاءوا لتحرير البلاد من هذا النظام، وقالوا إنه وقع بعد احتلال ثكنة أحمد التليلي وأسر كل الجنود المقيمين بها وإننا نستمع الآن إلى تبادل طلق النار بين رفاقهم الذين يحاولون الاستيلاء على ثكنة المدينة وبين بعض الجنود إذ لم يتمكنوا من تطهيرها نهائيّا.

وسألناهم إذا كانت هذه العمليّة مقصورة على قفصة أو أنها تشمل بعض المناطق الأخرى؟ فقالوا إننا نضرب في عدّة أماكن في نفس الوقت، وطلبوا منّا أن نتصل بالشباب الراغبين في حمل السلاح، خاصة الطلبة، ودعوتهم للالتحاق بصفوف الثورة إذ أنّ النظام أيامه معدودات.

ثم تركناهم لنواصل طريقنا إلى وسط المدينة وقرب المعهد الثانوي وجدنا مجموعة أخرى دار بيننا وبينهم نفس الحديث، ثم أشاروا علينا أن لا نمرّ أمام الثكنة الصغيرة إن كنا نريد الذهاب إلى وسط المدينة لأنه ما زال يوجد داخلها بعض القناصة من الجنود الذين يطلقون النار حتى على المدنيين.فعدنا أدراجنا وفي الطريق إعترضتنا سيارة 504 كان يركب فوق سطحها جمع من سكان قفصة يرددون "تحيا الثورة الشعبية"، "تونس ثورة شعبية" جابت هذه السيارة بعض الشوارع ثمّ اختفت.

وفي وسط المدينة حيث وقع احتلال مركزي الحرس الوطني والشرطة كان الثوار يُطمئنون أفراد الشعب بأن لا يخافوا. إقترب أحدنا للاستطلاع فلمّا رآه الثوار يطل على مقربة منهم أشار عليه الثائر عمّار المنافقي بالقدوم فرفع يديه بعلامة النصر ولمّا وصل رفع الثوار شعارات "يسقط النظام الدستوري الدكتاتوري البوليسي العميل" "تحيا الثورة الشعبية" "لا مجاهد أكبر إلا الشعب" "تحيا تونس حرة مستقلّة" "ثورة شعبية تونسية أصيلة" فردّدها معهم صاحبنا وسلّم عليهم وتوجّه لعمّار المنافقي بهذه الأسئلة:

إنّ الناس لم يفهموا ما يدور بالمدينة فماذا يجري بالضبط؟
- إنها ثورة شعبية تونسية ترمي إلى تحرير البلاد من هذا النظام العميل.

هل هذه انتفاضة شاملة لبعض المناطق الأخرى أم هي مقصورة على منطقة قفصة؟
- إنّ الثورة انطلقت في عدّة مناطق من البلاد والأقرع (يقصد بورقيبة) محاصر في نفطة.

وما هي هذه الطائرات التي تحلق في السماء (طائرتي ميراج)؟
- إنها طائرات النظام تستكشف ثكناتها الفارغة.

إنّ الثورة يحسّها الناس قبل أن تبدأ وهذه الثورة لم نشعر بها إلا عندما انطلقت؟
- إننا شباب واعون بوضعيّة بلادنا وقد تعلمنا وذهبنا إلى الخارج وتدربنا وأتينا لتحرير البلاد.

من المستحسن إعلام الناس بواسطة مضخم صوت أو أية طريقة أخرى إذ أن الناس غير واعين بطبيعة العملية.
- هذا سوف يأتي... ثمّ أردف قائلا وقد تجمّع نفر من الشباب "يا الله عاونونا، هبّطوا الشعب في مسيرة مساندة ودوروا على الطلبة وخبروهم هذوكا هوما اللي حاجتنا بيهم".

كيف احتلت ثكنة أحمد التليلي؟

يحكي أحد الجنود الذين أسروا في هذه العملية قائلا بأن مجموعة الشهيد أحمد المرغني هي التي تكلفت باحتلال هذه الثكنة. بادرت المجموعة بإطلاق النار في الفضاء وتقدم أحمد المرغني من المسمى "أشمك" حارس الثكنة وأمره بتسليم سلاحه فأصاب هذا الأخير الشهيد بحربة رشاشه في إصبعه إذ أنه لم يستطع تركيب خزان الذخيرة بفعل المباغتة فأطلق أحد الثوار النار على رجله وأصابه، فعنفه المرغني قائلا: "لقد أوصيتكم بأن لانطلقوا النار على أيّ كان" وفي الأثناء تقدم ممرض الثكنة لمداواة أحمد المرغني فقال له الشهيد "عالج الحارس إن إصابته خطيرة أما إصابتي فهي بسيطة".

ويروي الجندي أنهم حالما سمعوا الطلق الناري أمرهم الرقيب برفع أيديهم والوقوف بجانب أسرتهم حتى وصل الثوار واقتادوهم إلى حيث كانوا يجمعون الجنود. ولمّا تجمّعوا أمر المرغني بجلب الملابس لمن لم يلبس ثيابه، وقد اقترح بعض الثوار تفتيشهم إلا أن أحمد المرغني امتنع قائلا "إن النظام جوّعهم حتى في بطونهم فماذا يمكن أن يوجد عندهم". ثمّ اقتيد الأسرى إلى المعهد الفنّي الذي يبتعد حوالي 3 كيلومتر عن الثكنة وهم يردّدون نشيد "حماة الحمى" مارّين بحي النور تحملهم سيارة 404 وسيارة عسكرية وبجانبهم أحمد المرغني على دراجة ناريّة وبعض الثوار الراجلين وفي الأثناء فرّ بعض الأسرى إلا أن الثوار لم يُطلقوا عليهم النار.

وفي المعهد الثانوي أودع الأسرى في قاعة الرياضة تحت حراسة 4 من الثوار وحال إدخالهم إلى قاعة الرياضة وزّع الثوار السجائر على الأسرى وأخذوا يُحدّثونهم عن مساوئ النظام مُتحدّثين في لغة بسيطة عن أحداث 26 جانفي وغلاء الأسعار، ومنهم من أجرى مقارنة بين النظامين التونسي والليبي معتبرا الأوّل المثال السلبي ومُقدّما الثاني باعتباره المثال الإيجابي، ودعوهم في الأخير إلى الثورة على النظام.

المعارك تستمرّ حتى يوم الخميس 31 جانفي

... واتجهنا إلى جهة أخرى كنّا نسمع إلى طلق ناري قادم منها (طريق القصرين) وهناك وعلى مستوى واد "أيلو" رأينا شاحنة عسكرية وسيارة جيب واقفتين فقيل أن الثوار عطّلوها بثقب عجلاتها وهي أولى السيارات القادمة من القصرين في مهمة استكشافية. وكان أربعة جنود يُهرولون دون هدف ودون أن يعرفوا أين يتّجهون بل إنّهم رموا أسلحتهم وطلبوا النجدة من المواطنين حين سمعوا الطلق الناري يُصوّب في اتجاههم فدخلوا أحد البيوت ونزعوا عنهم زيّهم العسكري وظهروا في بدلات مدنية وبعض المواطنين يجرون وراءهم لمدّهم بأسلحتهم التي تركوها وراءهم ولاذوا بالفرار. ولم تتمكن فرق النجدة القادمة من القصرين من الدخول إلى قفصة إلا عند الساعة الحادية عشرة ولكنها وجدت مواجهة عنيفة من قبل الثوار الذين تمركزوا في بعض المناطق ومنها المعهد الثانوي المختلط الذي تسرب داخله ثائر واحد استطاع أن يواجه قوة عسكرية كبيرة. ولم يتمكّن الجيش من اقتحام المعهد إلا بعد نفاذ ذخيرة هذا الثّائر فوقع أسره.

وكانت العمليات تجري على نفس النسق في أماكن أخرى. كان المواطنون يتابعونها من داخل بيوتهم لأنّه فُرض حظر التجوّل في المدينة منذ دخول الجيش إليها. وكان هذا الأخير يطلق النار على الجميع وخاصّة المدنيين بحجّة أن الثوار يرتدون الزي المدني. فانقلبت الوضعية من وضعية أمن وطمأنينة بالنسبة للمواطنين عندما كان الثوار يسيطرون على المدينة إلى وضعية هلع وخوف وإرهاب عندما اقتحمها الجيش. وقد شعر كلّ المواطنين بهذا التغير ممّا زاد في تعاطفهم مع الحركة.

كنّا نتابع المعارك من داخل البيوت وكنّا نفرّق بين الطلقات الصّادرة عن الثّوار وتلك التي يطلقها الجيش إذ كانت مختلفة الصدى وظللنا نحدّد عن طريق السمع مكان المعارك وكثافتها ومدّتها... وتواصلت هذه الوضعيّة حتى يوم الثلاثاء 29 جانفي 1980 على الساعة الثانية عشرة. عندما إدّعى النظام بأنّ الأمن استتب وأنّ الطمأنينة عادت وأنّه قضى على آخر جيوب المقاومة وأسر كافة الثوّار. كانت سيارة تجوب شوارع المدينة لتبثّ بمضخّم صوت نداء السلطة للمواطنين تعلمهم فيها بأنّ الحياة عادت إلى مجراها وتدعوهم للعودة إلى أعمالهم... وفجأة سكت الصوت الصادر عن مُضخّم الصوت. إنّها طلقة ناريّة باتجاه السيارة صادرة عن أحد الثوّار تلاها اشتباك عنيف بين الطّرفين.

ويُمكن القول بأنّ المعارك لم تكُفّ بصفة نهائيّة إلا يوم الخميس 31 جانفي عندها لم نعد نستمع إلى الطّلق المتميّز الصادر عن رشّاشات الثوّار.

كيف اقتحم الجيش المدينة؟

شوهدت منذ الساعة السادسة صباحا طائرتا استكشاف من نوع "ميراج" تحملان العلم التونسي تستطلعان مواقع الثوار وقد تعرّضت واحدة منها إلى الطلق الناري بمدافع الهاون حوالي التاسعة صباحا فهربتا ولم ترجعا البتّة.

وحوالي الساعة التاسعة والنصف صباحا دخلت أوّل قوّة عسكرية وهي متركّبة من سيارة جيب يركبها 11 جنديّا جلّهم من أصيلي قفصة – تسهيلا لهروبهم - وقد تمكّنوا من الوصول إلى المعهد الفنّي قرب ثكنة المدينة، ذلك أنّ الثوار قد تجمّعوا حول الثكنة وتركوا مداخل المدينة بدون حراسة. ولمّا وصلوا قرب المعهد انبرى لهم ثائران وقتلا منهم واحدا ففرّ الباقون في اتجاه أوّل تجمّع للمواطنين فكفّ عندها الثوّار عن طلق النار واكتفوا بتقطيع عجلات السيارة والشاحنة. أمّا الجنود الهاربين فقد رجعوا إلى ثكنة أحمد التليلي حيث تجمّعت القوّات القادمة من القصرين بعد أن تخلّصوا من ثيابهم العسكرية وتركوا أسلحتهم وراءهم.

وحوالي الحادية عشرة صباحا تمركزت قوّات الجيش بحي النور، وقد وضعت دبّابات في مدخل الشوارع وأخذت تتقدّم في اتّجاه الثوار الذين كانوا يحاصرون مدخل المدينة واستمرّ الطلق الناري كثيفا بين الجانبين حتى الليل.إلّا أنّ الثكنة قد وقع استرجاعها يوم الأحد 27 جانفي حوالي الساعة الثانية. وفي نفس الوقت زحف الجيش القادم من قابس محاصرا المدينة من الجنوب. وفي الساعة الثانية وقع الزحف على المعهد الفني لفك أسر الجنود الموجودين فيه وقد اشتبك في البداية جنود القصرين بالجنود القادمين من قابس على وجه الخطأ.

وقد روى جندي أنّ الشهيد عمر قردة قد كتب بعض المطالب على ورقة وهي "إحضار سفير كوبا ووزير خارجية النظام التونسي" كشرط لإطلاق سراح الجنود في صورة عدم الاستجابة للطلبات، إلّا أنّ الجندي ذهب ولم يرجع.ثمّ بدأ الجنود بطلق النار فطلب عمر قردة من الخميني إطلاق قذائف البازوكا وسط الجنود إلّا أن هذا الأخير أطلق النار في اتّجاه الحائط فجرح الجنود بشظايا القذيفة فأمره قردة ثانية ولمّا رفض أطلق عليه النار، وقد انفتح الباب نتيجة الضغط المتولّد عن القذيفة فاغتنم عدد من الجنود الفرصة ليلوذوا بالفرار لكن قوّات الجيش استقبلتهم بالطلق الناري ظنّا منهم أنّهم من الثوار الفارّين وفي الأثناء يُروى أنّ عمر قردة أطلق النار على بعض الجنود في الداخل.

ولقد استمر ليلة الاثنين الطلق الناري كثيفا حتى الصباح ثمّ أصبح مُتقطّعا حتى الرابعة مساء من يوم الأربعاء. وقد استعمل النظام في عمليّة الاقتحام حوالي 50 دبّابة و20 ألف جندي إضافة إلى قوات النظام العام التي كانت تصحبها الكلاب البوليسية. ولقد شُوهدت طائرات الهيلكوبتر الفرنسية تحلّق فوق المدينة يوميّا ولمدّة أسبوعين يوميّا تقريبا. أمّا فيما يخصّ المشاة الفرنسيين فإنّ الشائعات مُتضاربة في شأنهم فمنها من تقول أنّ الجنود الفرنسيين قد قاموا بالحراسة الليلية من يوم الاثنين حتى آخر الأسبوع، ومن المواطنين من قال أنّه شاهد جنديين فرنسيين أمام الولاية يوم الأربعاء 30 جانفي.

لقد بثّ الجيش الرعب في صفوف المواطنين نتيجة أعماله الهمجية من اقتحام المنازل وسلب الأهالي وانتهاك الحرمات وتقتيل الأرواح البريئة. ويبدو أنّ الأوامر الأولى التي أعطيت للجيش كانت تقضي بدكّ المدينة وبإطلاق الرصاص على كلّ من يُصادفهم توقّعا من النظام بأنّ الأهالي سيساندون الثوار وينظمّون إليهم. وكانت حالة الرعب والهلع قد سيطرت على الجنود فكانوا يُصوّبون رشّاشاتهم باتجاه كلّ من يشكّون فيه وقد تعرّض لابسو البرانيس والقشاشيب والشيشان بصفة خاصّة لأعمال التفتيش والضرب. كما بادر الجند بإطلاق النار على كلّ من اقترب منهم أو ظهر فوق السطوح مُتسبّبين هكذا في مقتل معظم المدنيين الذين قُتلوا أثناء العملية. فالطفل الذي قدّمته أجهزة الإعلام الرسمية كضحية "للمرتزقة" كان في الواقع ضحية أحد الجنود المتهمّجين الذي أطلق عليه النّار عندما رآه أمام باب بيت الصابون فوق سطح بيتهم قرب المستشفى فأرداه قتيلا وأمر أحدى سيّارات الإسعاف بنقله إلى المستشفى.

وفي مساء يوم الأحد تكاثر عدد قوّات النظام العام التي قامت أثناء الليل بعمليات التفتيش والتمشيط وقد تواصلت هذه الحملة الرهيبة حتى اليوم الرابع من شهر فيفري تمّ أثناءها تمشيط حيّ الحارة وحومة الواد وجزء كبير من حي العمالة وحي النور.

أمّا الإيقافات فكانت كثيرة وعشوائية حيث تمّ إيقاف كلّ المدنيين الذين عُثر عليهم وسط المدينة وتعرّض الموقوفون إلى عمليّات الثلب والسبّ والإهانة. ويُشاع أنّ عدد الموقوفين بلغ 480 منذ ليلة الأحد 27 جانفي وحُشر 300 منهم في داموس بدار الولاية وتُوفّي 12 من بينهم نتيجة الاختناق فما كان من الجيش إلّا أنّ أطلق النار على جثثهم وادّعى أنّهم من "ضحايا الغدر". ولم يسلم من الإرهاب والإهانة حتى الجنود الذين وقعوا في الأسر حيث تعرّضوا لشتّى الإهانات وحتى الحرمان من الطعام عقابا لهم. ولقد وصلت الهمجية والدناءة بالنظام إلى حدّ التمثيل بجثث الشهداء. ففي حين وقع دفن الموتى في قبور عاديّة رُدمت جثث الشهداء بصفة جماعية في حفرة مشتركة وقبل الدفن جلبت الشرطة أقارب الموتى من المدنيين والحرس والشرطة وأمرتهم بالتمثيل بهم فرموهم بالحجارة وقطعوهم بالسكاكين...

لقد أعترف العقيد بوبكر قائد جيش القصرين بأنّه لو كان عدد الثوار أكثر من 28 نفرا لعجز جيشه على اقتحام المدينة لأنّ الفرد الواحد من الثوار يُساوي حسب تقديره 100 جندي تونسي نظرا لتدريبهم العسكري الرفيع وحداثة أسلحتهم وروحهم القتالية العالية. وبدون الدخول في اعتبارات الإستراتيجيا العسكرية للعملية في حدّ ذاتها فمن الواضح أنّ العمليات لم تكن مُحكمة وكان ينقصها الكثير من التنظيم والتخطيط. كانت كلّ مجموعة تتصرّف بمبادرتها الخاصة ولم تكن ترضخ لرقابة أو لتوجيه حازم من طرف قيادة ما، ممّا أدخل على هذه العمليات صفة الارتباك والارتجال. ولم يكن يُوجد اتصال بين مختلف الفرق القتالية فلا أحد يعلم ما يفعله الآخر ممّا أدّى إلى إضاعة وقت طويل (بين التاسعة والحادية عشرة صباحا) في البحث عن بعضهم البعض الشيء الذي مكّن جيش القصرين من دخول المدينة دون أن تعترض طريقه مقاومة فعليّة ومُنظّمة وتمكّن أيضا من احتلال النقاط الإستراتيجية في قفصة بكلّ سهولة.

لكنّ السبب الرئيسي لفشل العملية يبقى طبعا عدم المساندة الفعلية من طرف المواطنين الذين لم يفهموا طبيعة العملية إلا بصفة متأخّرة جدّا نظرا لانعدام عنصر الدعاية والإعداد السياسي والمادي. لقد كانت مواقف المواطنين متضاربة ومتباينة من العملية إلّا أنّ ما يجب ملاحظته هو التعاطف والحماس التلقائي الذي عبّرت عنها فئات جماهيرية واسعة وخاصة من الشباب الشيء الذي يسمح لنا بأن نؤكّد أنّه لو قُدِّرَ للعملية أن تدوم أكثر لالتحق بها عدد كبير من الشباب، ذلك هو موقف التلاميذ الذين عبّروا عن مساندتهم للعملية عن طريق التظاهر في الشوارع منذ اليوم الأوّل لاستئناف الدراسة وهو أيضا موقف الشباب العاطل عن العمل وموقف العديد من المثقفين. وهو كذلك موقف الطّبقة العاملة بالمناجم حيث عبّر الكثير من العمّال عن أسفهم لوقوع العملية بذلك الشكل المفاجئ الذي لم يُمكّنهم من المساهمة فيها. لذلك كنت تراهم جميعا يترصّدون "صوت قفصة" لمتابعة "أخبار الثورة" أملا في تواصلها.

والجدير بالملاحظة أيضا أنّه حتى من كان من الشعب لا يُساند العملية فهو لم يكن يقف ضدّها ولقد كانت المفاجأة والخوف من النظام سبب التحفّظ الذي سيطر على الشعب حيث رفض مسك السلاح الذي بقي يتناثر في الشوارع ولكنّه رفض أيضا المشاركة في مظاهرات التنديد التي حاول النظام تنظيمها.بل إنّ أحكام الإعدام التي صدرت في حقّ 13 من الثوّار قد زادت في تعاطف المواطنين معهم إذ بكت النسوة يوم إعلانها وكفّت العائلات عن متابعة برامج الإذاعة والتلفزة في تلك الليلة وأصبح الناس يتحدّثون عن أحمد المرغني باعتزاز وافتخار. أمّا يوم إعلان التنفيذ فقد عمّ الحزن حيث كانت الوجوه مكفهرّة وانعدمت الرغبة في الحديث عند العديد من الناس الذين كانت تبدو عليهم مشاعر النقمة والحقد على النظام.

جريدة العامل التونسي
العدد السادس- جوان/جويلية 1980


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني