الصفحة الأساسية > البديل الوطني > أيّ دور للمعارضة في حل أزمة البلاد؟
أيّ دور للمعارضة في حل أزمة البلاد؟
25 أيلول (سبتمبر) 2008

شهدت بلادنا خلال السنوات الأخيرة وبنسق تصاعدي ومتسارع عديد الأزمات: سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وحقوقية عبرت بما لا يدع مجالا للشك عن هشاشة خيارات نظام الحكم وعدم قدرتها على توفير شروط التنمية التي تحقق حدا أدنى من الشغل القار والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية والتوازن الجهوي والاستقرار الاجتماعي في إطار دولة قانون ديمقراطية ومؤسسات تحترم مواطنيها. وقد أدت هذه الأوضاع إلى تشديد وتائر الاحتقان. فقد خاضت عديد القطاعات العمالية إضرابات من أجل فرض حق الشغل وضد التسريح القسري والعشوائي وضد التفريط في المكاسب. وتطور بعضها إلى اعتصامات وإضرابات جوع (معمل هوتريغا وتاكسيتي بالمكنين، إسيزي والنزل القاري بالقيروان، باطام وفنطازيا بالعاصمة...) وقد لقيت بعض هذه التحركات مساندة من المجتمع المدني وتدخلت قوات البوليس لتفكيكها والقضاء عليها قبل تجذرها ونجحت في ذلك جزئيا.

وخاضت قطاعات الوظيفة العمومية بدورها عديد النضالات من أجل تحسين ظروف العمل والحق النقابي وتحسين القدرة الشرائية ومن أجل حق الشغل. وفي حين حققت بعض القطاعات جملة من المطالب والمكاسب (التعليم الأساسي، البريد...) وصل البعض الآخر إلى طريق مسدود بسبب تعنت السلطة وانغلاقها من جهة وتواطؤ البيروقراطية النقابية من جهة أخرى. وشنت السلطة هجوما على جمعية القضاة المستقلة ونصّبت بعض الموالين على رأس مكتبها التنفيذي ونظمت مؤتمرا استثنائيا على القياس أفرز تشكيلة متواطئة فرضت عبرها عديد التراجعات التي تكرس تبعية السلطة القضائية للسلطة التنفيذية وتضرب استقلالية الجمعية. ولئن رفض الشرعيون هذا الانقلاب فإن مقاومتهم ظلت ضعيفة ولم تستدرج عموم القضاة. كما وقع هجوم عنيف على الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان منعت بموجبه من عقد مؤتمرها السادس، وضرب حصار أمني على مقرها المركزي وعلى مقرات فروعها لمنعها من النشاط بما في ذلك اجتماعات هيئات فروعها المنتخبة انتخابا ديمقراطيا. ورغم مقاومة الرابطيين لهذا الانقلاب وممارستهم لشتى الضغوط في الداخل عبر الشبكة الدولية لحقوق الإنسان وعدم￿ استسلامهم فإن السلطة فرضت بقوة البوليس أمرا واقعا على أعرق منظمة حقوقية في الوطن العربي وإفريقيا فشلـّت جزئيا نشاطها وعطلت الحراك الهام الذي كانت تؤطره (ندوات، تظاهرات، إصدارات مختلفة...).

وعملت السلطة وبشتى الطرق سواء عبر بوليسها (قمع) أو قضائها (محاكمات جائرة) أو المتواطئين معها داخل الحركة الطلابية من أجل تعطيل إنجاز المؤتمر التوحيدي للاتحاد العام لطلبة تونس فحالت دون تحمل المنظمة الطلابية مسؤولياتها في تحسين ظروف الدراسة والتصدي لمشاريع الخوصصة التي تستهدف التعليم وفي الدفاع عن الحريات الفردية والعامة في البلاد ومقاومة الاستبداد والتبعية...

وبالإضافة إلى رفض الاعتراف بالأحزاب والجمعيات الراغبة في النشاط القانوني وسن عفو تشريعي عام فقد فرضت السلطة رقابة صارمة على حركة الأحزاب القانونية الرافضة لسياسة الديكور وصادرت حقها في النشاط العمومي سواء الاجتماع بالمواطنين واللقاء بالأحزاب الأخرى أو عقد الندوات والتظاهرات وتنظيم التحركات الاحتجاجية، وقد فبركت عديد القضايا وحاكت المؤامرات لشل نشاطها (فسخ عقود كراء المقرات بواسطة المحاكم، تعطيل إصدار الصحف أو سحبها من الأكشاك سعيا إلى تفليسها...). ولئن فشلت بعض هذه المناورات بفعل تنسيق فعاليات المعارضة من أجل التصدي للهجمة فإن المقاومة لم ترتق إلى مستوى الهجوم، ولم تستطع المعارضة لأسباب سنأتي على ذكرها لاحقا فرض منطقها وحمل السلطة على التراجع.

كل هذه الأحداث على أهميتها ومساهمتها في تشكيل نوع من الاستقطاب داخل المجتمع تبقى محدودة الأهمية بالقياس مع حدثين وطنيين هامين عاشتهما بلادنا: أحداث سليمان التي قادتهـا عناصر سلفية جهادية وما رافقها من تقاتل عنيف وتبعها من محاكمات جائرة، وانتفاضة الفقراء بالحوض المنجمي التي احتلت حيزا زمنيا كبيرا لم يسبق أن عرفته بلادنا خلال نصف قرن من حكم الدكتاتورية وانتهت هي الأخرى في شوطها الأول إلى التنكيل بالمواطنين وإطلاق الرصاص عليهم ورميهم في السجون. لقد عرّى الحدثان وخاصة انتفاضة الحوض المنجمي الطبيعة الرجعية للخيارات الاقتصادية وما تولده من حيف اجتماعي وتمايز طبقي وجهوي وقمع سياسي ممنهج كأسلوب حكم. فلا أكذوبة المعجزة الاقتصادية التونسية أضحت قادرة على الصمود ولا معزوفة شمولية حقوق الإنسان في ظل "العهد الجديد" قابلة للاستمرار والحياة ولا الحديث عن الحرية والديمقراطية والتعددية مازال قادرا على اختراق العقول مثلما كان في السابق.

لقد كشرت الدكتاتورية عن أنيابها وأفرغت كل ما في جعبتها من جبروت وبطش وتعد على الحريات والحقوق واستعمال السلاح ونكلت بمواطنين عزل طالبوا عبر المسيرات السلمية والإعتصامات وإضرابات الجوع... بحقهم في الشغل والكرامة باعتبارهم مواطنين لا رعايا.

ولئن كان سلوك نظام الحكم منطقيا بحكم طبيعته الدكتاتورية والفاشستية فإن ما يهمنا أكثر هو ردود فعل المعارضة وتفاعلاتها مع هذه الأحداث ومدى نجاحها في استثمارها لفرض إصلاحات جوهرية وتحقيق التراكمات الكمية الضرورية التي بإمكانها فرض تغييرات نوعية.

إن المتتبع لتفاعلات المعارضة مع مختلف الأحداث الوطنية خلال العشرية الأخيرة يسجل الحقائق التالية:

1 – طغيان الفئوية الحزبية الضيقة رغم وجود بعض الأعمال المشتركة المحدودة بين الأطراف الديمقراطية تركزت على تنويع مكوناتها (لجنة الدفاع عن طلبة سوسة الموقوفين، لجان الدفاع عن العمال المسرحين، اللجنة الوطنية لمساندة الحوض المنجمي...).

2 – طغيان عقلية الاستثمار الحزبي الضيق للأحداث وتسبيق المصالح الحزبية على حساب المساهمة البناءة في تطوير الحركة بما يساعدهـا على تحقيق مطالبها وكسر شوكة الدكتاتورية والحد من صلفها وتعنتها.

3 – توهّم بعض الأطراف أنه من الممكن "تصحيح" مواقف السلطة وإقناعها بضرورة تعديلها ومراجعة حساباتها وتقديم التنازلات لخلق أرضية للتفاهم والتعايش بينها وبين المعارضة وهو ما شكل حاجزا أمام تطور العمل المشترك وتجذره وهذا راجع بالأساس إلى اختلافات في تحديد طبيعة السلطة الحاكمة والموقف منها ومرتبط بإستراتيجية كل حزب: هل هو حزب يريد الاكتفاء ببعض الإصلاحات أم يريد تغييرا جوهريا حقيقيا.

4 – بروز نوع من التشنج في علاقات الأحزاب فيما بينها فاق أحيانا التشنج تجاه السلطة وهذا التوتر يعيق التقدم نحو العمل المشترك.

5 – بروز خلاف حاد يشق المعارضة حول العلاقة بالتيار الديني وتحديدا "حركة النهضة". هل يمكن التعامل معه وإلى أي مدى؟ أو رفض أي عمل معه باعتباره تيارا معاديا للديمقراطية وحقوق الإنسان؟ وهو ما تسبب في خلق ضغط على مشروع "18 أكتوبر" الذي شكّل نقلة هامة في تاريخ العمل المشترك للمعارضة التونسية. لقد كان بالإمكان الضغط أكثر على الدكتاتورية وإرباكها ومنعها من الإقدام على عديد الخطوات التي استطاعت إلى حد الآن القيام بها بنجاح (ضرب الرابطة وجمعية القضاة والتضييق على النشاط الحزبي والجمعياتي) لو تواصل الالتفاف حول مشروع "18 أكتوبر" مثلما كان قبيل الإضراب.

6 – تردد الجمعيات المستقلة في الانفتاح على أحزاب المعارضة والتنسيق معها خوفا من اتهامها بـ"التسيّس" و"التبعية" (جمعية القضاة، رابطة حقوق الإنسان، النساء الديمقراطيات...).

كل هذه الوقائع وغيرها حالت دون تطور إيجابي وفعال للعمل المشترك ووفرت للسلطة إمكانية إدارة أزماتها في كنف "الاطمئنان" ودون ضغط أو حساب لرد فعل المعارضة والشعب. فهي أمام معارضة مشتتة ومتناحرة وضعيفة التأثير في الجماهير.

إن إرجاع الأمور إلى نصابها يتطلب نقاشات تقويمية لأداء المعارضة وتفاعلها مع مختلف الأحداث بما يوفر مناخا ملائما لتجاوز الوضع الراهن نحو عمل مستقبلي مشترك. إن تقديم التنازلات الضرورية والبحث عن القواسم المشتركة وتجميد التناحرات الإيديولوجية والاختلافات الإستراتيجية وتنسيبها بما لا يعيق التفاهم والتواصل، والتوجه إلى الجماهير بحد أدنى من التوحد لتأطيرها حول برنامج مشترك يلامس مطالبها الأساسية، يمكن أن يفتح الباب أمام عمل مشترك ناجح وفعال كفيل بتحقيق الأسبقية على الدكتاتورية وفرض تنازلات عليها كخطوة نحو تجاوزها والاستعاضة عنها بنظام ديمقراطي شعبي.

وفي هذه المرحلة بالذات فإنه بالإمكان التوحد حول المحاور التالية:

أ – توحيد الموقف تجاه أزمة الحوض المنجمي وذلك بالمطالبة بإطلاق سراح الموقوفين دون قيد أو شرط وفتح تحقيق مستقل حول التعذيب وقتل وجرح عشرات المواطنين ونهب ممتلكاتهم وتنظيم حوار وطني شامل حول قضايا التنمية والتشغيل وبعث لجنة وطنية تتشكل من الأحزاب والجمعيات والنقابات والشخصيات الوطنية لضمان تحقيق هذه المطالب.

ب – إيجاد آلية للعمل المشترك في علاقة بالانتخابات الرئاسية والتشريعية لعام 2009. وفي هذا السياق بالإمكان البدء بتفعيل مضمون وثيقة السيادة للشعب والنقاش من أجل تطوير العمل على قاعدة قواسم مشتركة: بعث لجان جهوية، الاتفاق على مشروع لتنظيم المجلة الانتخابية، إيجاد آليات للاتصال بالجماهير وتنظيم الاحتجاجات من أجل انتخابات شفافة وديمقراطية.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني