الصفحة الأساسية > البديل الوطني > لماذا رفضُ العمل الموحد والإصرار على التشتت؟!
عودة إلى الانتخابات البلدية:
لماذا رفضُ العمل الموحد والإصرار على التشتت؟!
29 آذار (مارس) 2010

I – مقدمة

كنا تطرّقنا في العدد الفارط من "صوت الشعب" (العدد277، فيفري 2010) إلى موضوع الانتخابات البلدية المزمع تنظيمها في 9 ماي المقبل. وقد بيّنا أن هذه الانتخابات ستجري في نفس ظروف "الانغلاق" السياسي التي جرت فيها، قبل أشهر (أكتوبر 2009) الانتخابات الرئاسية والتشريعية وهو ما من شأنه أن يجعلها نسخة من هذه الانتخابات المهزلة، سيرا ونتائج وبالتالي سطوا على الإرادة الشعبية. وبناء على ذلك دعونا قوى المعارضة السياسية والمدنية إلى التشاور من أجل تحديد موقف مشترك، وعبّرنا عن استعدادنا للتفاعل مع أيّ مقترح يخرج بالمعارضة من حالة التشتت والتشرذم التي عمقتها الانتخابات الرئاسية والتشريعية السابقة، دون مبررات جدية، ويضعها على سكة النضال الموحد، لا لمواجهة الانتخابات البلدية فحسب، بل كذلك لمواجهة مقتضيات المرحلة السياسية ككل، وعلى وجه الخصوص، مواجهة ما تخطط له القوى المتنفذة في الحكم، الظاهرة والخفية، من إمكانية تلاعب جديد بالدستور لـ"التمديد" لبن علي لولاية سادسة بعد أن يكون استنفذ في عام 2014 ولايته الخامسة والأخيرة، حسب الدستور المحوّر في عام 2002 الذي فتح الباب مجددا أمام الرئاسة مدى الحياة، أو لإيجاد صيغة من صيغ "التوريث" تمكنها من الحفاظ على السلطة، وهو ما يفرض بإلحاح على المعارضة الجادة بلورة مشروع مشترك للتغيير الديمقراطي، لتواجه به الانقلابات المستمرة لنظام الحكم الحالي على الإرادة الشعبية، وترسم به طريق الخلاص أمام مختلف القوى الاجتماعية الضجرة من الوضع الحالي والقلقة من مخاطره المستقبلية.

II – مبادرة جديدة لتوحيد الصفوف

وقد برزت في الأثناء مبادرة توجه بها جمع من المناضلات والمناضلين المستقلين، من بينهم السادة العياشي الهمامي وخميّس الشماري وعميد المحامين السابق عبد الستار بن موسى، إلى مختلف مكونات "المعارضة الوطنية وقوى المجتمع المدني" بهدف توحيد الصفوف لإحداث شرخ في جدار "الانغلاق" وخلق دينامية نضالية تتجاوز حدود الانتخابات البلدية إلى بعث "حركة مدنية واسعة من أجل التغيير الديمقراطي" حركة تجمع بين العمل في إطار القانونية لاستيعاب أكثر ما يمكن من الناس وعدم إعطاء ذريعة مباشرة للسلطة لتكسيرها بدعوى أنها "غير قانونية"، وبين النضالية في سلوكها وتحركاتها حتى تكون قادرة على فرض نفسها ميدانيا وعلى افتكاك المساحات التي تمكنها من الوصول إلى الشعب. وقد أوضح أصحاب المبادرة أن دعوتهم إلى إعداد قائمات للانتخابات البلدية كخطوة أولى ومباشرة لخلق الدينامية النضالية المنشودة "لا تعني بصفة آلية قرار المشاركة أو المقاطعة منذ الآن بل تعني الدعوة إلى خوض مسار نضالي في إطار القانون بحيث لا تستطيع السلطة منعه إلا بخرقها للقانون وبالتالي لحقوق المواطنين والأحزاب السياسية في الإعداد لانتخابات قانونية"، ممّا يجعلها مرة أخرى محجوجة وبالتالي يضعف موقفها.

ولم يُخف أصحاب "المبادرة" من الآن أن المشاركة في الانتخابات البلدية "مرتبطة بتوفر الشروط الدنيا لانتخابات حرة وديمقراطية ونزيهة وأهمها إرساء هيئة وطنية مستقلة تشرف على المسار الانتخابي منذ انطلاق الحملة إلى إعلان النتائج وحياد الإدارة وتمكين المواطنين من بطاقات الانتخاب دون إقصاء". وهي المحاور التي ستناضل من أجلها المبادرة ميدانيا في ما تبقى من وقت. وكما هو واضح من هذا الكلام فإن أيّة مشاركة في الانتخابات البلدية ستكون مشروطة. وهو ما يعني ضمنيا أن المقاطعة واردة في صورة عدم توفر الشروط الدنيا لانتخابات حرة ونزيهة، وهو في رأينا موقف، منطقي، وسليم حتى لا تتحوّل المشاركة إلى مشاركة صورية تخدم مصالح السلطة وديكورها الديمقراطي، بأن توفر لها فرصة الادعاء بأن انتخاباتها كانت "تعددية" و"نزيهة" و"شفافة" وأنها "برهنت" مرة أخرى على "قوة" التجمع الدستوري الحاكم و"ضعف" أحزاب المعارضة. ورغم ما لحزب العمال الشيوعي التونسي من تحفظات على هذه "المبادرة" وهي تحفظات لا تمس روحها وخطوطها العريضة، بل جوانب جزئية تتعلق ببعض التقويمات والتقديرات، فإنه تفاعل معها إيجابيا وعبّر عن استعداده للانخراط فيها والعمل على إنجاحها بكل حماس وتفان، لما تتسم به من مرونة ومبدئية في نفس الوقت، ولما تحدوها من رغبة في توحيد صفوف المعارضة أمام التحديات السياسية التي تواجهها على المدى القريب والمتوسط، وهو ما يندرج ضمن الاهتمامات الرئيسية لحزب العمال في الظرف الحالي.

III – خيبة أمل أخرى...

وقد توقعنا أن تحظى "المبادرة" بالقبول لدى معظم إن لم نقل كافة الأطراف السياسية المعارضة وأن تجد فيهـا هذه الأطراف فرصة لتجاوز المخلفات السلبية لانتخابات أكتوبر الماضي والالتفاف نحو المستقبل وما تفرضه من تحديات على الجميع. ولكن "ما كل ما يتمنى المرء..."، فقد جاءت ردود الأفعال على "المبادرة" مخيّبة للآمال، عاكسة رفضا مبطنا أحيانا وصريحا أحيانا أخرى، لا لتوحيد الموقف من الانتخابات البلدية فحسب، بل للعمل المشترك عامة. ففي ما عدا حزب العمال والحزب الديمقراطي التقدمي اللذين رحّبا بالمبادرة، فإن الأطراف الأخرى تحفظت عليها. فقد ذكر العياشي الهمامي، في حوار نشر بجريدة الموقف عدد 535 لتاريخ 28 فيفري 2010 أن "حركة التجديد" و"التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات" و"تيار الإصلاح والتنمية" (محمد القوماني، فتحي التوزري...) عبّروا عن عدم استعدادهم حاليا للدخول في عمل موحّد يخص الانتخابات البلدية إلا مع الأطراف التي عملت مع بعضها في الانتخابات الماضية" (انتخابات أكتوبر 2009). أما "حزب العمل الوطني الديمقراطي" فقد رفض حتى ملاقاة أصحاب "المبادرة" والنقاش معهم دون أيّ تعليل. ثم ما هي إلا فترة قصيرة، حتى علمنا عن طريق بعض وسائل الإعلام، منها "الطريق الجديد" لسان حال "حركة التجديد" أن اجتماعا ضم هذه الأطراف الأربعة مع عدد من المستقلين، وأفضى إلى اتفاق حول المشاركة في الانتخابات البلدية القادمة "رغم محدودية الظروف الراهنة" في إشارة إلى حالة الانغلاق السياسي السائدة في الظرف الراهن.

IV - إصرار غير مبرر على رفض العمل المشترك

1 – الواقع الموضوعي يفرض العمل المشترك

إن ما يمكن أن نستنتجه من هذه الخطوة هو أن الرباعي المذكور رفض في نهاية الأمر "مبادرة" العياشي الهمامي ورفاقه وسدّ الباب عمليا أمام أيّ عمل مشترك، لأنه لو كانت ثمة رغبة حقيقية في العمل المشترك لقـُدِّمَ بديل لهذه المبادرة إذا اعتبرت "غير مناسبة". وقد أثار هذا السلوك عديد التساؤلات حول ما إذا كانت توجد له مبررات جدية. وفي الواقع فإنه لا أحد يمكنه أن يتصوّر أن يكون لرفض "حركة التجديد" وشركائها، العمل المشترك، مبرر موضوعي، مبرر في الوضع العام بالبلاد، لأن هذا الوضع ليس على درجة من "الانفتاح" والحرية، بما يدفع كل طرف سياسي إلى التعويل على "قواه الذاتية" أو التحالف مع "أقرب المقربين إليه" للمشاركة في انتخابات معلومة النتائج مسبقا. فالوضع على درجة من الانغلاق تحتم العمل المشترك وتكتيل الصفوف والإقلاع عن كل نزعة فئوية أو حزبية ضيقة، وتحكم على كل عمل منفرد بالفشل مسبقا لأنه حتى العمل الجماعي، قد لا يكون كافيا لـ"حلحلة" الوضع ولو بدرجة قليلة بالنظر إلى تباين موازين القوى الراهنة. وما من شك في أن قيادات "حركة التجديد" وبقية الأطراف لها تجربة في الموضوع، من المفروض أن ترشدها. ففي عام 2005، تكتلت كل القوى السياسية، (عدا حزب العمال والمؤتمر من أجل الجمهورية) في حلف مشترك في الانتخابات البلدية، ومع ذلك لم تجد السلطة حرجا في إسقاط كل قائمات هذا الحلف بدعوى أنها "غير قانونية"، دون أن يقدر على القيام بأيّ ردّ فعل. والعبرة من تذكيرنا بهذا الحدث هو تأكيد إلحاحية العمل المشترك من وجهة نظر الواقع الموضوعي.

2 – لا يمكن التذرّع بـ"الإسلاميين" هذه المرة..!

لا يمكن أن يكون "الإسلاميون" مبررا، هذه المرة، لرفض "التجديد" وبعض شركائه (حزب العمل الوطني الديمقراطي) العمل المشترك باعتبارهم غير موجودين أصلا في "مبادرة" العياشي ورفاقه. لقد عودتنا بعض الأطراف على تبرير رفضها العمل المشترك بعدم استعدادها للعمل، على أية أرضية كانت مع "الإسلاميين" لخلاف معهم حول المشروع المجتمعي (قضية الديمقراطية، العلمانية، المساواة بين الجنسين...) متهمة المتعاملين معهم في إطار "هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات"، ومن بينهم حزب العمال، بأنهم يقدمون لهم تنازلات على حساب "الخيار الديمقراطي" وعلى حساب "حقوق المرأة وحقوق الإنسان"، إلخ. وقد قرأ أصحاب المبادرة الجديدة حسابا لهذا الأمر فلم يشرّكوا "إسلاميين" (حركة النهضة) في هذه المبادرة، أو لنقل إنهم "استثنوهم" عن وعي ربما، حتى لا يتركوا أيّ فرصة لأيّ طرف كان ليتذرّع بوجود "الإسلاميين" لرفض العمل الموحد للمعارضة. ومع ذلك، ورغم علم الأطراف المعنية بأن "الإسلاميين" ليسوا طرفا في المبادرة، فإنهم تمسّكوا برفضهم وخيّروا العمل على انفراد. وقد كان العياشي الهمامي محقا حين استنتج في الحوار الصحفي المذكور سابقا أن هذا الرفض "يكشف أن وجود الإسلاميين... ليس السبب الحقيقي وراء رفض العمل الموحد مع المعارضة كما تعودنا على سماعه وأن الخلاف ليس أيديولوجيا، بل الخلاف في التحليل والمواقف السياسية واختيار أشكال النضال الفعالة في مواجهة تحجر النظام البوليسي وحالة الانغلاق التي تسود الحياة السياسية".

إن ما قاله العياشي، هو في الحقيقة ما كنا قلناه من جهتنا أكثر من مرة. إن رفض العمل المشترك للمعارضة بدعوى رفض العمل المشترك مع "الإسلاميين" لـ"أسباب مبدئية" ما هو إلا ذريعة، في معظم الأحيان لإخفاء السبب الحقيقي الكامن وراء ذلك الرفض، وهو سبب سياسي مرتبط بالموقف أو بكيفية التعاطي مع سلطة الاستبداد والدكتاتورية في بلادنا، أكثر منه شيئا آخر. وليس أدلّ على ذلك من أن رفض بعض الأطراف العمل الموحد للمعارضة على أسس واضحة وسليمة، أسس معادية للاستبداد والدكتاتورية، سابق تاريخيا لعام 2005 أي لإضراب الجوع الذي انطلقت على إثره وعلى أساس شعاراته وأرضيته السياسية تجربة "هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات". فعندما ظهرت هذه "الهيئة" للوجود كانت الساحة السياسية تتسم بتشتت صفوف المعارضة وتشرذمها أمام الهجوم السافر للسلطة عليها وعلى الحريات، ولم يكن يوجد لا تحالف بين "الأطراف العلمانية" ولا بين "الأطراف الديمقراطية والتقدمية" ولا "اليسارية"، حتى يقال إن "هيئة 18 أكتوبر" التي يشارك فيها "الإسلاميون" قوّضت أو أفسدت مشاريع تحالفات أو أعمالا مشتركة قائمة من قبل، ناهيك أن أحد أهم أسباب خوض ثمانية من رموز الحركة السياسية والحقوقية لإضراب الجوع المذكور كان محاولة خلق دينامية لتجاوز تشتت المعارضة وتشرذمها وما يحدثه من إحباط في صفوف عامة المهتمين بالشأن العام والتائقين إلى تغيير الأوضاع بما يمكن المواطنات والمواطنين من فسحة من الحرية للتعبير عن آرائهم من القضايا التي تشغلهم.

3 – الأسباب الحقيقية لرفض العمل المشترك

ولكن، إذا كانت أسباب رفض العمل المشترك سياسية كما قلنا وقال العياشي، فما هي هذه الأسباب في علاقة بهذه المبادرة الجديدة بالضبط، "مبادرة البلديات" المقدمة في وثيقة بعنوان "من أجل مقاربة موحدة للانتخابات البلدية القادمة"؟ (الموقف العدد 535 صفحة 6 بتاريخ 28 فيفري 2010) والتي قال عنها العياشي في الحوار المذكور آنفا إنها لا تطرح إشكاليات الزعامة ولا التحدي للسلطة مثلما تطرحه الانتخابات التشريعية والرئاسية" وإنها تنطلق من تجميع كافة الأطراف على "الأرضية الدنيا المشتركة" التي يتحدث كل طرف عنها على حدة، في مقررات هياكله المركزية وفي أدبياته وصحافته وبعبارة أخرى فإن "المبادرة" الجديدة تطرح المشاركة في الانتخابات البلدية منطلقا، كما أنها تدرج نفسها في إطار العمل القانوني، لا خارجه، وهي تؤكد أنها تهدف إلى جلب اهتمام المواطن وإخراجه من سلبيته ودفعه إلى الانخراط في الشأن العام؟ فإذا كان الأمر كذلك فما هو مشكل "التجديد" و"التكتل" و"حزب العمل" و"تيار الإصلاح والتنمية" إذن؟ أليسوا يعلنون أن هذه أهدافهم؟ فما الذي يجعلهم يرفضون العمل المشترك؟ نحن لا نعتقد أن المماحكات التي حصلت بمناسبة الانتخابات الرئاسية والتشريعية الماضية هي السبب، فأيّ حركة سياسية جدّية لا يمكنها أن تجعل من مثل تلك المماحكات المحدودة والطبيعية عائقا لرفض العمل المشترك في وضع يتعرّض فيه الجميع لقمع السلطة وضغوطها وحصارها، مما يقتضي الترفع عن كل ما هو فئوي ضيق، للاهتمام بما هو عام، بما يرتبط به المصير المشترك لكل الأطراف وللشعب عامة!!

إن الأسباب السياسية لرفض العمل المشترك، بعد أن انتفت ذريعة "مشاركة إسلاميين" أو ذريعة "التطرف" و"القصووية" سواء كان ذلك في الأرضية أو في أسلوب النضال (القانونية). هي في رأينا تكمن في نقطتين اثنتين تضمنتهما "مبادرة" العياشي والشماري وبن موسى ورفقتهم، ولا بدّ نقاشهما بكل وضوح وعقلانية وروح مسؤولية.

أ – المشاركة بدون شروط ومهما كانت الظروف!
لقد تركت المبادرة الباب مفتوحا لإمكانية مقاطعة الانتخابات البلدية في صورة عدم توفر ما اعتبرته "الشروط الدنيا لانتخابات حرة ونزيهة". إن أصحاب "المبادرة" يرفضون مبدأ المشاركة "مهما كانت الظروف"، يرفضون تحويل المشاركة من أسلوب نضال لتحقيق هدف أو أهداف معينة في وضع معيّن وضمن شروط معيّنة، إلى "عقيدة" سياسية جامدة، صالحة لكل زمان ومكان بقطع النظر عن الظروف الملموسة التي تجري فيها الانتخابات، وهو ما يفقدها أيّ معنى، لأن ما هو صالح في وضع ما قد لا يكون صالحا في وضع آخر. وبصورة ملموسة إذا لم تحترم السلطة حرية الترشح وأسقطت ما تريد من القائمات، وإذا لم يعهد الإشراف على الانتخابات إلى هيئة مستقلة، ذات مصداقية، وأبقي عليه لوزير الداخلية "الخصم والحكم"، وإذا كانت الإدارة ترفض الالتزام بالحياد وتضع نفسها في خدمة الحزب الحاكم ولا تسلّم بطاقات الناخب إلا لمن تريد، وبالكمّ الذي يضمن "الفوز الساحق" لمرشحي ذلك الحزب، وإذا كانت حرية الدعاية غير متوفرة، وكل شيء يجري تحت المراقبة المباشرة و"الرادعة" لأعوان البوليس السياسي في مختلف الجهات و... و... و... فماذا يا ترى سيبقى للمشاركة من معنى غير أنها ستكون شهادة زور على انتخابات معلومة النتائج مسبقا؟ إن الأمر يمكن أن يكون غير ذلك لو كان لأيّ حزب أو أحزاب راغبة في المشاركة بقطع النظر عن ظروف القمع والاستبداد، من القوة ما يجعلها قادرة على أن تفكك ميدانيا الفخاخ المنصوبة لها وتفرض ميزان القوى الذي تريد ولو بشكل نسبي، أي إلى الحد الذي يضفي على تلك المشاركة صبغة نضالية فعلية ويجعلها تخطو بالحركة الديمقراطية خطوة إلى الأمام. ولكن هذا الشرط، غير متوفر اليوم مع كامل الأسف. فنحن نعرف تمام المعرفة أن ما من حزب من الأحزاب المتواجدة في الساحة، المعترف وغير المعترف بها، له مثل تلك القوة التي تمكنه من فرض إرادته ميدانيا على نظام الاستبداد. ومن المؤكد أن "التجديديين" مثلا يتذكرون أنهم لم يقدروا، خلال "رئاسية" أكتوبر 2009 حتى على فرض تعليق صورة مرشحهم في واجهة مقرهم المركزي ولا على فرض توزيع بيانهم الانتخابي حتى اليوم التاسع من "حملة انتخابية" لا تدوم أكثر من 13 يوم. ونحن إذ نذكّر بهذه العوائق فلكي نؤكد صحة ما جاء في "المبادرة" الجديدة من ضرورة فرض الشروط الدنيا لانتخابات بلدية حرة قبل المشاركة فيها وإلا فإن المعارضة ستكون مضطرة إلى المقاطعة.

إن هذا الأمر ليس بدعة في العمل السياسي الجاد بشكل عام، العمل الذي يدرك القائمون به أيّ أهداف ينشدون. فلينظر "التجديديون" و"التكتليون" و"الوطنيون الديمقراطيون" و"الإصلاحيون التنمويون" ومن معهم من المستقلين، إلى ما يجري في العالم، فلن يجدوا، حيث تشحّ الحريات وتستبد أنظمة الحكم بهذه الدرجة أو تلك، بشعوبها، إلا من يضع شروطا لمشاركته في أيّ انتخابات وطنية أو محلية. فمِنْ مُطالب بتغيير الدستور وببنود مفصلية منه، إلى مطالب بتغيير القانون الانتخابي المعمول به، أو بتحسين المناخ السياسي لضمان حرية التعبير والاجتماع والترشح والانتخاب، أو بتعيين هيئة مستقلة ومحايدة للإشراف على الانتخابات، أو بمراقبة هيئات دولية مشهود بمصداقيتها، أو بتأجيل للانتخابات حتى تتوفر نفس الحظوظ للجميع حكما ومعارضة، للإعداد لها وهلمّ جرا... ولا تقلّ الشروط أو الاشتراطات إلا في البلدان التي يتوفر فيها قدر كاف من الحرية السياسية والتي لا توجد فيها بالتالي عوائق أساسية أمام إجراء انتخابات حرة. ولا نخال بلادنا من هذا الصنف الثاني من البلدان، بل هي بشهادة الجميع من أكثر البلدان تخلفا من الناحية السياسية، من البلدان التي يضرب بها المثل في القمع وفي التزوير الممنهج للانتخابات. لذلك ربط أصحاب "المبادرة" أيَّ مشاركة بتوفر عدد من الشروط وهو موقف سليم من الناحية السياسة.

بيد أن من يطّلع على البيان المشترك لـ"التجديد" و"التكتل" و"حزب العمل" و"الإصلاح والتنمية" فإنه لا يجد فيه أثرا لأيّ إمكانية لمقاطعة الانتخابات البلدية القادمة. فهذه الأطراف لا ترى من موقف إلا المشاركة ولا شيء غيرها حتى لو استمرّت الظروف الحالية على ما هي عليه من انغلاق سياسي من شأنه أن يجعل من تلك الانتخابات تكرارا سخيفا لمهزلة أكتوبر الماضي الرئاسية والتشريعية. وهنا يكمن الاختلاف بين موقف هذه الأطراف وبين ما جاء في "المبادرة". الاختلاف بين من يطرح التصدي للانتخابات البلدية مفترضا المشاركة إذا توفر حد أدنى من الشروط التي سيناضل من أجلها الجميع والمقاطعة إن لم يتوفر هذا الحد الأدنى رغم ما سيبذل من جهد لتحقيقه، وبين من يقصر موقفه، بشكل أحادي الجانب، جامد، على المشاركة دون مراعاة للظرف السياسي، ويكرس جهده لإعداد قائمات من الأرجح أن يكون مصيرها الإلغاء كليّا أو جزئيا، وللحصول في نهاية المطاف على صفر من المقاعد في المجالس البلدية يستخدم "شهادة" على"ضعف المعارضة" و"افتقادها لأيّ وزن داخل المجتمع".

ولتبرير المشاركة "مهما كانت الظروف"، سيُقال إن القصد منها هو "رفض البقاء على الرّبوة" و"ملازمة الفرجة". لكن الخلاف الحقيقي في قضية الحال ليس بين طرف يريد "ملازمة الفرجة" و"إدارة الظهر للنضال الميداني" واختيار "المقاطعة عند الاقتضاء"، وبين طرف يريد "النضال الجدي، المسؤول، الفعال..."، بل هو بين من يريد التمسّك بشروط النضال السياسي التي تكسبه مصداقية وأرضية صلبة وبين من لا يعير هذه الشروط الأهمية التي تستحق وينساق لاهثا وراء أوهام ودون بوصلة ترشده، حيث تصبح كل الأشياء سواسية، لا فرق بين غثها وسمينها، لا فرق بين وَضْعٍ تتوفر فيه الحريات ووضع لا تتوفر فيه، ولا بين انتخابات حرة وأخرى صورية، ولا بين المبدئية في السلوك السياسي والانتهازية، إلخ.

إن المقاطعة حين تستوجبها الأوضاع الملموسة لا تمثل لا فرجة ولا موقفا سلبيا إلا لمن لا يرى من شكل للنضال السياسي إلا المشاركة، حتى ولو كان على حساب المبادئ الدنيا. أما بالنسبة إلى من ينظر إلى المقاطعة كشكل نضالي، في وضع محدد، فإنه لا يتوقف عن النضال بل يستمر فيه بتحويل الأرضية التي على أساسها أعلن المقاطعة (أي الشروط الدنيا لانتخابات حرة) إلى أرضية لتعبئة الناس من أجل تحقيقها. وما من شك في أن مثل هذا الموقف يتطلب تضحيات لا بد من تقديمها حتى يتقدم النضال العام بالبلاد وإلا فإن المعارضة ستبقى مجرد مجموعات صغيرة وقليلة، إن لم نقل عديمة، التأثير. وبعبارة أخرى فإن الموقف الذي يحصر المعارضة في موقف واحد وهو المشاركة في الانتخابات البلدية "مهما كانت الظروف" إنما يريد في حقيقة الأمر، ومهما حسنت النوايا، أن يجعلها حبيسة الشروط المهينة للدكتاتورية ويبقيها عاجزة عن تصور أفق لها غير التحرك ضمن الحدود التي تفرضها عليها هذه الدكتاتورية وهو يفقدها استقلاليتها وفعاليتها.

وفوق ذلك كله ألم يخطر ببال "دعاة" المشاركة "مهما كانت الظروف" أن يتساءلوا: إذا كانت السلطة تعرف مسبقا أنهم سيشاركون في الانتخابات البلدية مهما كانت القيود التي ستكبلهم بها ومهما أسقطت لهم من قائمات، ومهما كانت الحدود التي سترسمها لهم في تحركاتهم وفي دعايتهم وفي اتصالاتهم بالمواطنين، فما الذي سيجعلها تفكر حتى مجرد التفكير في التخفيف من هذه القيود والحدود؟ أفلن يزيدها ذلك إلا صلفا وغطرسة؟ أليس هذا هو الذي جعل أصحاب "المبادرة" يربطون المشاركة بتوفر عدد من الشروط، التي ينبغي النضال من أجل تحقيقها؟ فأيّ المواقف أسلم إذن؟ وأي المواقف يريد حقا إكساب سلوك المعارضة السّياسي مصداقيّة لدى الرّأي العام؟

ب – الانتخابات البلدية والمرحلة الانتقالية للسلطة
كما أثار أصحاب "المبادرة" قضية سياسية هامة، لا يمكن التغاضي عنها، وقد ربط بها هؤلاء التحرك حول الانتخابات البلدية. وتتمثل هذه القضية في ما أسموه "المرحلة الانتقالية على مستوى السلطة". وممّا جاء في هذا الصدد أن ما يميّز الوضع الحالي هو "دخول تونس منذ 25 أكتوبر 2009 تاريخ الانتخابات الأخيرة مرحلة انتقالية على مستوى السلطة وبالذات رئاسة الدولة" فالرئيس الحالي كما سبق أن أشرنا إلى ذلك ستكون ولايته الحالية، الخامسة على التوالي، آخر ولاية له، حسب شرط السن القصوى (75 سنة) للترشح والتي سيكون تجاوزها عام 2014. ويضيف أصحاب "المبادرة" أنه "بات واضحا للمتابعين للحياة السياسية في البلاد أن صراعا صامتا تدور رحاه بين أجنحة متنفذة من أجل التموقع الأمثل للوقت المناسب". وبشكل أوضح فإن هذه "الأجنحة" تخطط من الآن للحفاظ على الحكم بأيّ طريقة كانت والحيلولة دون تداول ديمقراطي على السلطة. ويربط محرّرو "المبادرة" اشتداد القبضة الأمنية على المجتمع في الوقت الحالي برغبة تلك الأطراف في حسم "مسألة انتقال السلطة"، هذه، لصالحها دون أن "تشوّش" عليها أيّة جهة كانت، حزبية أو نقابية أو شعبية. لكن هذه "الإرادة الفوقية"، تقابلها، حسب أصحاب "المبادرة" رغبة فئات واسعة من الشعب في "تغيير واقع الاستبداد وتحقيق الانتقال الديمقراطي". وهم يعتبرون "أن المعارضة ومحيطها الطبيعي من مكونات المجتمع المدني" مدعوة إلى التفاعل مع هذه الرغبة وتحمّل مسؤوليتها في "تغيير الواقع السياسي بصفة نوعية، بما يعدّل ميزان القوى لصالحها ويفتح لها أفقا سياسيا نحو التأثير الفعلي في هذه المرحلة الانتقالية" ويجعلها المخاطب الكفء تجاه السلطة، باسم الشعب. ولن تقدر المعارضة على تحمل هذه المسؤولية إلا بتوفير شرطين أولهما خلق "حالة جديدة من التعبئة والزخم الكمي والحركة النضالية حول شعار التغيير الديمقراطي"، ويتم هذا بمناسبة الانتخابات البلدية. وثانيهما "تحديد استراتيجية واضحة لاستثمار هذه التعبئة في حركة مدنية واسعة من أجل التغيير الديمقراطي". ويوضح أصحاب "المبادرة" أن "الحركة المدنية من أجل التغيير الديمقراطي لن تكون حزبا سياسيا جديدا بل هيكلة مرنة ووعاء شاملا للنضال المشترك على أرضية مدنية/سياسية واسعة وعريضة مشتركة دورها هو تشريك المواطنين في الدعوة إلى الديمقراطية والنضال السلمي الميداني من أجل تحقيقها دون إقصاء بحيث تجد كل الأطراف كامل الحرية للنشاط والتعبير عن الذات مع المشاركة الفاعلة في فرض ميزان قوى جديد بعلاقة بالسلطة الحاكمة".

من الواضح إذن أن العيّاشي، الشماري، بن موسى ورفاقهم يريدون خلق أفق سياسي لأيّ تحرّك، آني، ظرفي، جزئي مثلما هو الشأن بالنسبة إلى الانتخابات البلدية، سواء شاركت فيها المعارضة أو قاطعتها. وهذا الأفق هو التغيير الديمقراطي، الانتقال بتونس من حالة الاستبداد والدكتاتورية إلى حالة ديمقراطية، تتوفر فيها الحريات وتكون فيها السيادة للشعب. ولا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا بتوحيد صفوف المعارضة وتعبئة المواطنين صلب حركة مدنية سياسية واسعة ومناضلة وذات أطر مرنة. ولسائل أن يسأل: هل أن هذا الطرح، في خطوطه العامة، العريضة، الجوهرية، خاطئ؟ هل أنه يجانب ما تقتضيه المرحلة التي تمر بها بلادنا؟ نحن نعتبر أن هذا الطرح يمس بالفعل القضايا السياسية الجوهرية التي يفرضها واقعنا اليوم وفي مقدمتها قضية التغيير الديمقراطي. فهذه القضية، يفرضها أمران اثنان، من جهة تردّي أوضاع الشعب التونسي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما تم وضعها في الوثيقة، بما يجعل التغيير أمرا ملحا لإنقاذه وإنقاذ البلاد من الانهيار، ومن جهة ثانية النوايا الواضحة للقوى المتنفذة في السلطة لتدبير "انقلاب جديد" خلال المدة التي تفصلنا عن موعد الانتخابات الرئاسية القادمة (2014) يمكـّنها من ضمان مواصلة السيطرة على الحكم وإجهاض كل رغبة شعبية في التغيير الديمقراطي.

وعلى هذا الأساس فإن كل عمل تقوم به الحركة الديمقراطية اليوم، لا بد له من أن ينصهر ضمن أفق واضح، ضمن "استراتيجية" واضحة، وهي مراكمة عناصر القوة التي تسمح بالتصدي لهذا "الانقلاب المعلن" وتحقيق التغيير الديمقراطي.

وفي الحقيقة فإن من يطلع على مواقف "حركة التجديد" و"حزب العمل الوطني الديمقراطي" خاصة يلاحظ أنهما يتجنبان إثارة هذه المسالة، مسألة "الانتقال الديمقراطي" في علاقة أو في مجابهة مباشرة مع مسألة الرئاسة مدى الحياة المنتصبة في بلادنا، من جهة ومع مخططات القوى المتنفذة اليوم الرامية إمّا لتأبيد هذه الرئاسة مدى الحياة عبر التمديد للرئيس الحالي، أو لإيجاد صيغة من صيغ التوريث تمكنها من الحفاظ على السلطة من جهة أخرى. ومن ثمة إخضاع كافة الخطوات الملموسة المباشرة لهذه المسألة الملحة، أي مسالة "الانتقال" أو "التغيير" الديمقراطي. لقد اعتبر الحزبان، عند تقييمهما للانتخابات الفارطة (أكتوبر 2009)، أن هذه الانتخابات تمت بصورة "عادية" رغم ما شابها من "خروقات هامة" ولم يقدحا في ما أسفرت عنه من نتائج ولم يطعنا في شرعية المؤسسات المنبثقة عنها. ومنذ ذلك الوقت وهما كلما تعرّضا لتلك الانتخابات، في بيانات فردية، أو مشتركة، بما في ذلك في البيان الأخير حول الانتخابات البلدية الموقع مع "التكتل الديمقراطي" ومع "تيار الإصلاح والتنمية"، إلا واكتفيا بالتعبير عن "خيبة الأمل" بـ"سبب تضييع السلطة على البلاد" فرصة "إنجاز انتخابات تعددية حقيقية"، وكأن السلطة معنية أصلا بمثل هذه الانتخابات أو لها مصلحة فيها والحال أنه من المفروض أن أكثر من نصف قرن من الاستبداد والدكتاتورية، كاف وزيادة لإقناع الجميع بأن مصلحة السلطة في بلادنا تكمن بالضبط في تضييع كل الفرص على الشعب التونسي كي لا يتمتع بحياة ديمقراطية، وهي لا تفعل ذلك عن "قلة وعي" بل على العكس من ذلك فهي تفعله بوعي طبقي حاد. فالأقلية المسيطرة على المجتمع وعلى البلاد تمثل أكبر خطر على مصالحها وأن الدكتاتورية، أي إلغاء الحريات الفردية والعامة ومنع الشعب من ممارسة سيادته، عبر انتخابات حرة ونزيهة، وتوظيف مؤسسات الدولة وأجهزتها، هي الإطار السياسي الذي يضمن لها تحقيق مصالحها. وهذا الوعي هو الذي يجعل اليوم هذه الأقلية تشدد القبضة الأمنية على المجتمع وتخنق كل الأصوات الحرة وتحاصر الأحزاب والجمعيات المستقلة وتقمع كل التحركات الشعبية (طلاب، معطلون عن العمل، تلاميذ...) حتى تحول دون تطور أية حركة سياسية أو اجتماعية تهدد مصالحها على المستووين القريب والبعيد.

V – الخلاف الحقيقي هو خلاف سياسي

إن الخلاف كما هو واضح إذن خلاف سياسي. فـ"التجديد" وحلفاؤه لا يدرجون الانتخابات البلدية ضمن أفق أعم وأشمل، أفق التعبئة السياسية والمدنية والشعبية من أجل مواجهة الاستبداد على أرضية مواجهة الرئاسة مدى الحياة وما يرتبط بها من مخططات "تمديد" أو "توريث" لتحقيق التغيير الديمقراطي، بل إنهم يدرجونها ضمن أفق إصلاحي، مباشر، لا يتجاوز الحدود التي يرسمها نظام الاستبداد. ولا يطرح القضايا المركزية التي يفرضها الواقع السياسي بل لا يطرح القضية المفصلية التي بحلها يفتح الباب لحل بقية القضايا. وما من شك في أننا هنا أمام تمشيّين سياسيين مختلفين كما عبّر عن ذلك العياشي، وهذا الاختلاف هو الذي يدفع بعض الأطراف إلى رفض العمل الموحد للمعارضة، وما "الأسباب" الأخرى التي تقدم، مثل "وجود الإسلاميين" في هذا الإطار أو ذاك إلا ذرائع.

VI – حزب العمال دائما مع العمل المشترك

إن حزب العمال لا يرفض أيّ عمل مشترك على أرضية دنيا، وفي أيّ إطار توحيدي كان، المهمّ أن يكون هذا الإطار مستقلا ومناضلا. ولا نعتقد أنه يوجد اليوم ما هو أدنى من إخضاع المشاركة في الانتخابات البلدية لحد أدنى من الشروط التي تجعلها مشاركة محترمة لأحزاب معارضة جديرة بالاحترام، ترفض أن تكون شاهد زور على انتخابات صورية، معلومة النتائج مسبقا. كما أنه لا يوجد ما هو أدنى من ربط هذه المشاركة بحد أدنى من الشروط أو المقاطعة إنْ لم تتوفر هذه الشروط بالنضال من أجل الانتقال/التغيير الديمقراطي على قاعدة المطالب الدنيا التي يتداولها كل طرف سياسي في مواقفه وأدبياته الخاصة. وأخيرا وليس آخرا فإنه لا يوجد أدنى من الطموح إلى أن تحتضن هذا النضال "حركة سياسية مدنية" سلمية، واسعة، مرنة، تجمع بين "النضالية والقانونية والاستمرارية" حسب نص ورقة العمل التي قدمها أصحاب "المبادرة". فماذا بقي في الحقيقة غير الخضوع لأمر واقع الاستبداد والدكتاتورية؟ وهو ما يهدد بتحويل المعارضة إلى جزء من النظام القائم إن لم نقل إلى ديكور جديد لا يختلف عن الديكور الموجود إلا بـ"الجملة" (Phraséologie) أو بالمطالبة بـ"شروط أفضل".

VII - خاتمة: الفرصة مازالت قائمة

إن حزب العمال يعتبر أن الوقت لم يفت بعد لمواجهة الانتخابات البلدية بصورة مشتركة شريطة أن تعي كل الأطراف مسؤوليتها وأن تتخلى عن العقلية الحزبية الضيقة وعن روح الإقصاء وأن لا تفوّت الفرصة على الشعب التونسي لكي يتقدم في هذه الظروف الصعبة ولو خطوة صغيرة في نضاله من أجل حريته وحقوقه الأساسية. وحتى إذا لم يكـْفِ الوقت إلى اتخاذ موقف مشترك من الانتخابات البلدية، فإن "المبادرة" التي قدمها العياشي، الشماري، بن موسى ورفاقهم تتجاوز ظرفية الانتخابات لتشمل المرحلة المقبلة ككل. وبالتالي فإنها تبقى صالحة في الأساس لتكون أرضية لنقاش مسألة التغيير الديمقراطي في بلادنا: شروطه، برنامجه، إطاره ووسائل تحقيقه، إلخ. فهذه هي المسألة الملحة في واقعنا اليوم. وقد بينت الحياة، لكل من يريد أن يعتبر، أن المعارضة التي لا تصيب الهدف الرئيسي في اللحظة أو المرحلة المعيّنة، تبقى مهمشة، واهنة، تلهث وراء الأحداث هذا إذا لم تندثر تماما. وعلى الجميع أن يدرك أن ما يزيد الدكتاتورية في بلادنا صلفا وغطرسة وتغوّلا، هو أنها تجد نفسها في مواجهة معارضة مشتتة، لا تبذل أيّ جهد جدي لتجاوز ضعفها هذا، كما تجد نفسها في مواجهة طبقات وفئات شعبية غير منظمة وغير موحدة حول مصالحها، وحتى ما كان منها يقوم بدور لا يستهان به في وقت من الأوقات (ما بين الستينات والثمانينات من القرن الماضي) "قوة مضادة" ولو نسبية ومحدودة، ونعني بذلك الحركتين الطلابية/التلمذية والنقابية، فإنه اليوم في حالة تراجع وقد تأخر نهوضه رغم ما يبديه من وقت إلى آخر من مؤشرات واعدة. وفي الحقيقة ماذا يمكن أن ننتظر من نظام مستبد، غير مزيد إذلال معارضيه بشكل خاص ومواطنيه بشكل عام إذا لم يبدوا من الوعي والتنظيم والوحدة والنشاط ما يكرهه على التراجع والاعتراف لهم بحقهم في الحرية والكرامة وما يؤذن ساعتها بنهايته!



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني