الصفحة الأساسية > بديل المرأة > 10 فتيات معظمهن جامعيات يراودن المارّة بالعاصمة!
في بلد "الحدّاد":
10 فتيات معظمهن جامعيات يراودن المارّة بالعاصمة!
20 شباط (فبراير) 2010

نشرت جريدة "الشروق" اليوميّة بتاريخ الجمعة 5 فيفري 2009 خبرا بعنوان: "إحالة 10 فتيات على المحاكمة بتهمة المراودة". وقد جاء في الخبر ما يلي: «وتفيد المعطيات المتوفرة أن معلومات وردت على أعوان إحدى الفرق الأمنية المختصة في حماية الأخلاق ومقاومة التفسخ الأخلاقي، مفادها تواجد مجموعة من الفتيات أمام مقهى بالمنار بصدد مراودة أصحاب السيارات من بلد مغاربي. وتحوّلت دوريات أمنية إلى المكان المشار إليه حيث ضبط الأعوان ما بين الساعتين الثانية والرابعة من فجر الأحد الماضي (31 جانفي 2009) عشر فتيات واقفات أمام مقهى شهير في المنارات ويزوره عدد من الحرفاء من بلد مغاربي مجاور، فتم إيقاف الفتيات. وبينت الأبحاث أن من بينهن تلميذة بالباكالوريا وواحدة حاصلة على شهادة "الماجستير" في إحدى الدراسات التكنولوجية ومتحصلات على الأستاذية (...) فأنكرن ما نـُسب إليهن، لكن النيابة العمومية أذنت بإيداعهن سجن الإيقاف وإحالتهن على أنظار المجلس الجناحي...».

هذا هو فحوى الخبر الذي أوردته الجريدة، ومن المنتظر أن تصدر المحكمة أحكامها هذه الأيام في هذه القضية. وما تجدر ملاحظته هو أن هذا الخبر لم يثر لا اهتمام الصحافي الذي نقله بدون تعليق ولا اهتمام هيئة التحرير بالجريدة ولا "الاتحاد النسائي" ولا "نواب الشعب" القابعين بقصر باردو ولا الحكومة، بل مرّ الخبر كأيّ خبر عادي رغم أنه يدعو إلى إطلاق صيحة فزع عمّا وصلت إليه أوضاع المرأة في بلادنا وعمّا وصل إليه مجتمعنا من تحلل وانخرام مؤذن بالخراب. ولكن هيهات فإن "حراميها" لا يمكن أن يكون "حاميها". إن همّ نظام الحكم في بلادنا هو أن يطمس مشاكل المجتمع التي سبّبها، عن طريق القمع والاضطهاد ويحاول تجميل واقع قبيح على كافة المستويات لتأبيد سيطرة حفنة من النهابين ومصاصي الدماء، لا شغل لهم سوى تكديس الثروات بأسرع وقت وبأيسر السبل غير المشروعة.

لقد كان البغاء قبل ثلاثة أو أربعة عقود من تاريخ بلادنا موجودا، ولكنه كان يشمل في الأساس فتيات ونساء من أوساط فقيرة جدا وأميات في الغالب وقعن ضحية لاعتداءات جنسية داخل العائلة أو لدى المشغل أو المشغلة (عاملات بالمنازل) أو أثناء تشرّدهن لغياب عائل أو شغل يصون كرامتهن فانجررن إلى عالم البغاء سواء كان ذلك بصفة "سريّة" أو "علنية"، أي بترخيص من الدولة. فالقانون التونسي أباح البغاء و"نظّمه" وألزم متعاطيه/ضحاياه، وفقا لقانون 1941 الذي ظل ساري التنفيذ، بدفع نصيب من "أجورهن" للبلدية في شكل "أداء". ولكن الجديد الذي عرّته حادثة "المنار" الأخيرة وأبرزته للعيان بشكل صارخ ومفزع هو أن البغاء يضرب في فتيات "النخبة"، إذ لا يمكن اعتبار الفتيات اللواتي وقع إيقافهن غير كونهن من نخبة البلاد الواسعة، المتعلمة التي قد تلتحق بالتدريس في المعاهد الثانوية أو في الجامعة، أو بالشغل في إحدى الإدارات أو المؤسسات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإذا كان انتشار البغاء في كافة الأوساط الاجتماعية، بما في ذلك في الوسط التلمذي والطلابي، والوظيفي والعمالي، ليس وليد اليوم، بل إنه يعود إلى ما يزيد عن العقدين، فإنه من النادر أن حصلت في السابق حادثة مثل هذه الحادثة الجديدة، إذ أن "كتيبة" كاملة من الفتيات، معظمهن جامعيات، تراود المارة، بشكل جماعي في أحد "أرقى" أحياء العاصمة في ساعة متأخرة من الليل وأمام مقهى كبير، وعلى مرأى ومسمع من المارة!! ولسائل أن يسأل: وماذا بعد؟ وماذا سيحصل في المرّة القادمة؟!

قد يقول البعض إن هذا لمن "علامات الساعة"! والواقع أنه من علامات ساعة نظامـ"نا" الدكتاتوري، الرجعي، الاستغلالي الفاسد الذي خرّب هذا المجتمع بسياساته الرأسمالية المتوحشة والتابعة التي سلمت البلاد لحفنة من النهّابين المحليين والأجانب وأنتجت مئات الآلاف من العاطلين عن العمل من بينهم عشرات الآلاف من حاملي الشهادات العليا، ودمّرت العلاقات الاجتماعية ونشرت القيم الاستهلاكية على نطاق واسع وشامل وحوّلت البشر بمن فيهم النساء إلى مجرّد سلعة رخيصة وأفقدت الشباب بالخصوص لذة الحياة ودفعت بالعديد منه إلى عالم الجريمة والمخدرات والكحولية و"الحرقان" وأفرغت روحه من كل القيم النبيلة وخرّبت المنظومة التربوية وصحّرت الحياة الثقافية. وقد أرفقت كل ذلك بقمع بوليسي رهيب ضد كل من "يرفع رأسه" فلا حريّة ولا حقّ في الاحتجاج أو الطموح إلى مستقبل أفضل.

وفي مناخ كهذا ما هو حظ طالباتنا مثلا من الحياة حتى لا يندفع جزء منهن إلى البغاء؟ كم عدد اللواتي يحصلن على منحة جامعية لمواجهة مصاريف الدراسة المتزايدة باطراد؟ وكم عدد اللواتي يحصلن على سكن جامعي لتتوفر لهن أسباب الراحة وحتى الطمأنينة على سلامتهن الجسدية والمعنوية؟ وكم هي مدة السكن الجامعي بالنسبة إلى المحظوظات اللواتي يفزن به بشق الأنفس؟ أفليس هو لا يتجاوز السنتين فقط وبعدها تكون الطالبة مجبورة على إيجاد مسكن في مبيتات خاصة مفتوحة على كل المفاجآت أو في شقق معروضة للكراء بأسعار مرتفعة وفي أماكن غير آمنة في الغالب؟ وماذا حصل لطالبات منوبة اللواتي اعتصمن في مطلع هذه السنة الجامعية بدعم من الاتحاد العام لطلبة تونس للمطالبة بسكن لا يعطى في الغالب إلا بشروط سياسية أو عن طريق الرشاوى والابتزاز، بما فيه الابتزاز الجنسي؟ ألم يهجم عليهن البوليس لينكل بهن وبرفاقهن الطلبة ويوقف العديد منهم ويحيلهم على المحاكم ويزجّ بهم في السجن بتهم حق عام؟ وفوق ذلك كله ما هو مصير الحاصلات على شهادات عليا ما عدا البطالة لمعظمهن؟ وكم عدد الفتيات الحاصلات على شهادات عليا وبقين في المنزل عرضة للانهيارات العصبية وحتى لمحاولات الانتحار؟ وما هو مصير اللواتي تدفعهن الحاجة والرغبة في العمل لضمان المستقبل أو مساعدة أب وأم فقيرين؟ ألا يتعرّض العديد منهن إلى ابتزاز في الإدارات والمؤسسات على حساب كرامتهن؟ كل هذا لا يعني شيئا لا لبن علي ولا لزوجته "رئيسة المنظمة العربية للمرأة" ولا وزارئه حيث يعمل الجميع على الحفاظ على مصالحه الأنانية بتشديد القبضة البوليسية على المجتمع.

وبطبيعة الحال فإن مصير معظم النساء في تونس لا يختلف عن مصير الطالبات إن لم يكن أفظع. فهن عرضة لكافة مظاهر التمييز والاستغلال والاضطهاد. وكما لاحظ الرفيق حمه الهمامي في كتابه "مطارحات حول قضية المرأة" (منشورات البديل): فإن «تشيئة المرأة وتبضيعها هما إحدى أهم سمات الواقع الاجتماعي في تونس اليوم وتمثل أفظع نتيجة لهذه التشيئة وهذا التبضيع ما يمكن تسميته "سوق اللذة" التي ظهرت إلى جانب "الأسواق الأخرى" إذ أصبح جسد المرأة يباع ويشترى ممّا أدّى إلى انتشار ظاهرة البغاء في كافة الأوساط وظهور شبكات دعارة تشمل الأوساط التلمذية والطالبية والعاملات والموظفات علاوة على المعطلات عن العمل.

ومن نتائج ذلك أيضا التكالب على الجنس إذ أصبحت العلاقة بين المرأة والرجل يسيطر عليها الجانب الجنسي، بل إن العلاقات الجنسية ذاتها فقدت جانبا كبيرا من بعدها الروحي، النفسي، العاطفي، الثقافي الإنساني، ليسيطر عليها الجانب الغريزي، الحيواني».

إن ما كشفته حادثة "المنار" ما هو في الحقيقة إلا وجه من أوجه الأزمة العميقة والشاملة التي تنخر مجتمعنا. إن كافة أوجه هذه الأزمة تتفاعل لتنزل بمجتمعنا إلى الحضيض وتفقده توازنه وإنسانيته. وهو ما يبيّن بشاعة الدكتاتورية النوفمبرية وفظاعة اختياراتها الرأسمالية المتوحشة والتابعة. كما يبيّن الطابع الديماغوجي لدعاية هذه الدكتاتورية حول النهوض بالمرأة والعناية بها في كافة المستويات. فالغالبية العظمى من نسائنا غارقات في المشاكل، مشاكل الفقر والبطالة وغلاء المعيشة وتردّي الخدمات الاجتماعية، إلخ. وما من شك في أن بعض الأصوات الرجعية ستتعالى بهذه المناسبة لتدين المرأة وتلقي مسؤولية انتشار ظاهرة البغاء مثلا على كاهلها وعلى كاهل الحرية المزعومة التي حصلت عليها وخروجها إلى الدراسة والشغل، واختلاطها بالرجل وسفورها وتطالب بالتراجع في مكاسب المرأة التي هي عرضة للتراجع يوميا.

ومن البديهي أن هذا الموقف لا هو صائب في تحليله لأسباب التدهور الاجتماعي والأخلاقي الذي يمثل انتشار البغاء أحد مظاهره، ولا في العلاج الذي يقدّمه لهذا التدهور. فالحرية لا تعهّر المرأة بل ترفع من شأنها وتعطيها كرامتها. وهي غير متوفرة أصلا في مجتمعنا، لا للنساء ولا للرجال. والخروج إلى التعليم والشغل والسفور لا يولدان البغاء وغيره من مظاهر الانحطاط الاجتماعي والأخلاقي، بل هما من شروط تحرر المرأة، واستعادة مكانتها في المجتمع وبعبارة أخرى فإن مواجهة هذا الانحطاط ومن ضمنه البغاء الذي يمثل معرّة للنساء والرّجال على حدّ سواء إن لم يكن معرّة أكثر للرجال منه للنساء، لا يمكن أن تتم بتجريم المرأة وعقابها ولكن بمقاومة الأسباب الحقيقية المولدة لذلك الانحطاط والتي تكمن كما بيّنا في النظام الاجتماعي الحالي الذي لا يضرّ بالنساء فحسب بل بالشعب بأسره.

إن حادثة المنار تدعو كافة القوى الديمقراطية والتقدمية في بلادنا إلى الوقوف عند ما وصل إليه مجتمعنا من انهيار والوعي بإلحاحية التغيير الديمقراطي الذي من شأنه أن يخلق الشروط الكفيلة بإنقاذه. إن مستقبل النساء في بلادنا ليس مع نظام بن علي بل في النضال ضده من أجل مجتمع جديد ديمقراطي، حر قائم على المساواة والعدالة الاجتماعية.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني