الصفحة الأساسية > البديل الوطني > حزب العمّال والعمل الجبهوي من التأسيس إلى الآن
حزب العمّال والعمل الجبهوي من التأسيس إلى الآن
أيار (مايو) 2008

بقلم مسعود د.

نحاول في هذا البحث رصد تطور تكتيك الحزب في علاقة بالعمل الجبهوي من التأسيس إلى الآن بالاعتماد على بعض أدبياته التي أصدرها طوال هذه المدة من بيانات وكراريس ورسائل ومراسلات داخلية. وقد ركّزنا على محاولات الحزب الجبهوية والعراقيل التي حالت دون تجسيدها وخاصة سلوكه وعلاقاته وتعامله مع الأطراف والقوى السياسية الأخرى ومدى تطور ذلك على امتداد تاريخه من خلال مقارنة بعض النصوص التي اخترناها على فترات زمنية متباعدة، متجنبين الخوض في مضامين المشاريع الجبهوية التي اقترحها الحزب أو الأعمال المشتركة التي شارك فيها.

وقد قسمنا هذا البحث إلى ثلاثة مراحل حسب التسلسل الزمني وحسب الفترات التي رأيناها تمثل محطات بارزة وفواصل هامة بخصوص تكتيك الحزب الجبهوي. المرحلة الأولى من التأسيس إلى 1992، والثانية من 1992 إلى نهاية التسعينات، والثالثة من بداية القرن الجديد إلى الآن.

إن غايتنا من هذه الدراسة هي إثراء النقاش حول هذه المسألة الهامة بهدف الاستفادة من أخطاء الماضي وتجاوزها وتطوير الإيجابي في تجربتنا في اتجاه العمل على تأسيس تكتيك جبهوي جديد يتلاءم وخصوصيات المرحلة القادمة.

I - من التأسيس إلى 1992 (1985 - 1992)

1 – الحزب كان واعيا بضرورة وأهمية العمل الجبهوي

جاء في مقررات المؤتمر التأسيسي الصادرة بتاريخ 9 ديسمبر 1985، حول العمل الجبهوي، ما يلي:

"أ– تكوين جبهة نقابية:

إن أحد الأسلحة التي من شأنها أن تخلق ظروفا ملائمة لتصدي الطبقة العاملة للهجمة في ظل الأزمة الراهنة هو تكوين جبهة تجمع كل القوى النقابية الديمقراطية داخل الحركة النقابية، أفرادا ومجموعات، وتتسع لكل العناصر التي تقبل بأرضيتها الدنيا الواردة في قرار الحزب النقابي.

ولكي تحقق هذه الجبهة أهدافها في التصدي للهجمة فمن الضروري أن تخضع للمبادئ التالية:
- الالتزام بالتصدي للسياسة الرجعية لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي والقوى الامبريالية التي تفرضها على الطبقة العاملة عبر النظام القائم وبواسطة الكنفدرالية العالمية للنقابات الحرة.
- الالتزام بالتصدي المتماسك وبدون مهادنة لهجمة رأس المال على لقمة الكادحين في مختلف مظاهرها وعلى الحق النقابي والحريات السياسية.
- الالتزام بالتصدي لعملية تصفية الاتحاد العام التونسي للشغل ودسترته وذلك عبر التمسك بهياكله الشرعية الصامدة ومقاطعة كل تنصيب مقاطعة تامة.
- الالتزام باحترام الديمقراطية النقابية كأساس لتسيير الأطر والهيئات النقابية.

إن مثل هذه المبادئ الدنيا من شأنها أن تضمن مواجهة متماسكة في الظرف الراهن لاعتداءات الرجعية الحاكمة، كما من شأنها أن ترفع من وعي أوسع العمال وتنتزعهم من الضياع الذي أخذ يلمّ بهم على إثر هجوم السلطة الغادر على الحركة النقابية، هذا الهجوم الذي عرّى على خور سياسة البيروقراطية النقابية القائمة على الوفاق الطبقي وضرب الديمقراطية النقابية.

ج – تكوين جبهة ديمقراطية معادية للامبريالية:

إن جعل الانتصار على هجوم الرجعية أمرا ممكنا والحال أنها مدججة بالسلاح حتى الأسنان ومستعدة لاقتراف أشنع الجرائم (وقد بينت ذلك في أكثر من مناسبة: جانفي 1978، جانفي 1980، جانفي 1984) يقتضي مركزة أكثر ما يمكن من القوى ضدها لاستنزافها وفرض أكثر ما يمكن من التنازلات عليها التي من شأنها أن توفر ظروفا أفضل لخوض المعارك الطبقية وتطوير نضال الشعب من أجل خلاصه النهائي.

وعلى هذا الأساس وانطلاقا من مساس هجوم الرجعية بأوسع الطبقات والفئات الشعبية وبأوسع القوى والفصائل السياسية والجمعيات المهنية والتجمعات الثقافية المستقلة، تصبح مسألة بعث جبهة ديمقراطية معادية للامبريالية مسألة آنية ومطروحة للحل.

إن تصورنا لهذه الجبهة في الوقت الراهن هو أن مهمتها ينبغي أن تتمحور حول النضال من أجل إقرار الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية الدنيا للشعب الكادح في وجه الدكتاتورية الغاشمة للنظام الدستوري ومناهضة مختلف مظاهر الهيمنة والتدخل الامبريالي في بلادنا.

وعلى هذا الأساس فإن هذه الجبهة ينبغي أن تكون مفتوحة لكل المدافعين عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والمعادين للامبريالية بتماسك بقطع النظر عن منطلقاتهم الإيديولوجية واختلافاتهم السياسية في قضايا أخرى. سواء كانوا أحزابا أو جمعيات أو أفراد مستقلين. ومن الضروري أن تتسع هذه الجبهة لتشمل كل ساحات النضال، الاجتماعية والسياسية والثقافية.

ويحدد المعنيون بهذه الجبهة بشكل ملموس أرضيتها وقانونها الأساسي وطرق عملها، وسيعمل حزب العمال الشيوعي التونسي من أجل أن يسهم بمسؤولية في بلورة أعمالها وإنجاح برامجها لتكون خير إطار موحد لقوى الديمقراطية والتقدم".

كما جاء في هذه المقررات أيضا:

"وتسلك النواة الشيوعية في سياستها دوما أنسب السبل وأحكم التكتيكات لتوسيع نفوذها وتضييق نفوذ الأعداء، لذلك تبادر بإقامة الجبهات وعقد التحالفات ولا تستنقص أي التقاء وأي احتياطي مهما كان ضئيلا وظرفيا حول مهمة من المهام. وأهم هذه الجبهات اثنتان يتراوح بينهما تكتيك الشيوعيين في المدى المنظور:

أ – جبهة يسار نقابي ديمقراطي يتم على قاعدة مناهضة البيروقراطية والدفاع عن الحريات النقابية (مع الفوضويين غداة اتفاقية 13 أفريل وأحداث غرة ماي 84).

ب – جبهة نقابية موحدة تمتد لتشمل كل من يعارض هجوم رأس المال والفاشية بدرجة من الدرجات مهما كانت الخلافات الإيديولوجية والسياسية معه حول عديد القضايا (ما حصل غداة 26 جانفي 78 مثلا ويمكن الآن في وجه الانقلاب مثلا)".

كما نقرأ أيضا في نفس المقررات:

"وبخصوص الواجهة الثانية -السياسة- فحزب العمال الشيوعي التونسي يرى أنها على غاية من الأهمية لأن الحرية السياسية ضرورية للطبقة العاملة وللشعب عامة لأنها تمكنه من تنظيم صفوفه والرفع من وعيه وحسن الاستعداد للمواجهات الكبرى. لذلك ينبغي على الطبقة العاملة أن تكون في مقدمة المعركة من أجل الديمقراطية وبالتحديد حول المطالب التالية:
- العفو التشريعي العام.
- إقرار حرية التعبير والتنظيم والاجتماع والتظاهر والانتخاب والإضراب والإقامة والسفر بدون أي قيد أو شرط.
- إلغاء المحاكم الاستثنائية.
- منع التعذيب وتحديد مدة الإيقاف التحفظي".

هذا كل ما جاء في مقررات المؤتمر التأسيسي بخصوص العمل الجبهوي. وكما نلاحظ فإن الحزب كان واعيا منذ تأسيسه بضرورة وأهمية العمل الجبهوي. وحاول تجسيم ذلك في نشاطه السياسي فتوجه إلى الحركة الديمقراطية "بصيغ من العمل الجبهوي ظرفية أو قارة حول قضية محددة أو حول البرنامج المرحلي" (برنامج الحريات السياسية). ومن أهم هذه "الصيغ":
- كراس بعنوان "نداء إلى الشعب" أصدره الحزب بتاريخ 20 مارس 1987، بمناسبة مرور 31 سنة على "انتصاب حكم بورقيبة"، والذي ضمنه برنامج الحريات السياسية.
- كراس بعنوان "نداء جديد من أجل التكتل ضد الدكتاتورية والاستغلال والتبعية" أصدره الحزب بمناسبة الذكرى السادسة لتأسيسه (3 جانفي 1991)، فيه تذكير بما ورد في الكراس الأول بالإضافة إلى دعوة إلى انتخاب مجلس تأسيسي باعتباره "المهمة الأساسية المباشرة التي من شأن تحقيقها توفير الظروف الملائمة لانطلاق المبادرات والطاقات الشعبية" مؤكدا على أن تحقيق هذا الهدف "يتطلب تكتيل جميع طاقات الشعب بمختلف طبقاته وفئاته واتجاهاته في جبهة موحدة ضد الدكتاتورية والاستغلال والتبعية. وهذه الوحدة هي شرط الانتصار. وهي تُبنى في النضال اليومي المشترك من أجل أهداف ملموسة مباشرة يعبّد إنجازها الطريق نحو الوصول إلى تلك الأهداف".

2 – مبادرات الحزب "الجبهوية" لم تتجاوز البعد النظري

رغم تفطن الحزب عند تأسيسه إلى أهمية العمل الجبهوي وقيامه ببعض المبادرات في هذا الشأن فإن هذه المسألة بقيت في حدودها النظرية ولم تسجل أي تقدم عملي على امتداد المدة الفاصلة بين 1985 (المؤتمرالتأسيسي) و1992. وقد اعترف الحزب بذلك في تقييمه لنشاطه خلال هذه المدة. فقد جاء بخصوص العمل الجبهوي ما يلي: "كنا تعرضنا للظروف الصعبة التي تأسس فيها الحزب ولسرعة التحولات في الواقع الموضوعي وتعقيداتها. ولحالة الضعف والوهن التي عليها الحركة الديمقراطية. كما كنا بيّنا المرار العديدة أن النضال الديمقراطي والوطني والثورة ليس حكرا علينا بل هو قضية الشعب التونسي وقواه النيرة. لذلك توجهنا منذ تأسيس حزبنا إلى الحركة الديمقراطية والثورية وحتى الإصلاحيين والليبراليين بصيغ من العمل الجبهوي ظرفية أو قارة حول قضية محددة أو حول البرنامج المرحلي أو برنامج المرحلة الأولى من الثورة: أي الثورة الديمقراطية الوطنية، ولكن سير هذا العمل ظل بطيئا للغاية، ولم نتقدم إلا مع حزب الوحدة الشعبية (جلول عزونة) والاتحاد العام لطلبة تونس وبعض الشخصيات المستقلة، في حين تبقى بقية القوى وخاصة اليسارية منها غير مبالية ولا همّ لها سوى معاداتنا معاداة مرضية. وهو ما يؤكد أن قيام الجبهة ليس مربوطا برغبات ذاتية بل مربوط بدرجة تطور الوعي السياسي بضرورتها، وهي مسألة مرهونة بالصراعات الفكرية والسياسية والنضالات التي نخوضها وبمدى نضجها ووضوحها.

ومهما كانت العراقيل التي يبرر بها بطء تطور عملنا الجبهوي فإنها لا تشرّع بقايا السكتارية وتواصل تأثيرات الصراعات الحلقية التي عرفتها الحركة الشعبوية عندنا. إننا لم نتعامل مع هذه القوى كما هي في الواقع ولكن كما كنا نريدها أن تكون. وإلى جانب ذلك لم نكن جسورين في جمع هذه القوى حول كل قضية تطرح. كان علينا أن نقوم بأعمال وطنية وبحملات على القوانين التعسفية ونطالب بأخرى ديمقراطية تحمي الحريات العامة والفردية بدل وضع البرنامج والأرضيات بدون أن تكون مسبوقة ومتبوعة بأعمال ملموسة تمثل أرضية اختيار ملموسة لسائر القوى".

لقد تعرّضت هذه الفقرة إلى الأسباب الموضوعية والذاتية التي أدّت إلى "بطء العمل الجبهوي". وهذه الأسباب تحتاج إلى مزيد من التعمّق والتحليل إلى جانب أسباب أخرى لم يتم ذكرها. فهناك أسئلة بديهية تطرح نفسها عند التطرق إلى أي عمل جبهوي. ومن أهم هذه الأسئلة: مع من سنعمل؟ وهذا يتطلب أولا وقبل كل شيء تحديد الأطراف السياسية التي يطمح الحزب إلى العمل المشترك معها، انطلاقا من تحديد التناقضات، الرئيسية والثانوية، التي تشق المجتمع . فهل أن الحزب عند تأسيسه حدّد هذه الأطراف؟ أي بعبارة أخرى، من هم "أصدقاء" الحزب من القوى السياسية الموجودة على الساحة أنذاك؟

عندما نتصفح أدبيات الحزب، سواء الداخلية منها أو الموجهة إلى العموم، التي أصدرها في السنوات الفاصلة بين المؤتمرالتأسيسي وسنة 1992 فإننا لا نعثر على أيّ "صديق" للحزب من بين القوى السياسية الموجودة على الساحة من أقصى يسارها إلى أقصى يمينها! فكل هذه القوى بدون استثناء صنفها الحزب ضمن خانة الأعداء ووضعها في غالب الأحيان في سلة واحدة مستعملا قاموسا طويلا من المصطلحات في هجومه الدعائي ضدها (ظلامية، تحريفية، إصلاحية، ليبرالية، شوفينية، فوضوية، شعبوية، بيروقراطية، يسراوية، احتياطي للفاشية، معادية للشيوعية، إلخ.). ولا يمكن العثور على أي تنظيم سياسي، مهما كان حجمه، ومهما كانت مرجعيته الإيديولوجية، ومهما كانت مواقفه، لم ينل صفة من هذا القاموس أو ما شابهها.

وهذا ما نلاحظه بوضوح في كراس "نداء إلى الشعب" حيث نقرأ فقرة في نهاية الكراس بعنوان: "الحذر تجاه القوى المراهنة على الفاشية، والقوى الفوضوية". فيما يلي مقتطفات منها:

"إذا كان مطلب الحرية السياسية يهم أغلب المجتمع بما في ذلك القوى البرجوازية الإصلاحية، فإن ذلك لا يعني أن هذه الأخيرة سواء كانت حزب أحمد المستيري "الديمقراطي الاشتراكي" أو "الوحدة الشعبية" بفرعيها أو كانت البيروقراطية النقابية الشرعية أو غير ذلك من الحركات والأحزاب والمجموعات والشخصيات المستقلة مهما تجملت لافتاتها وعناوينها ستناضل في سبيلها مثلما يناضل الشيوعيون الحقيقيون، بنفس الإيمان والتصميم، أو بنفس الأشكال الجماهيرية. بل قد يلجأ حزب الدستور خوفا من انفلات الأمور من يديه -أمام حركة جماهيرية قوية- وتحت ضغط أسياده الامبرياليين إلى التفاهم مع هذه الأحزاب أو مع بعضها ورسم أرضية لتشريكها في السلطة مقابل المواجهة المشتركة للقوى الديمقراطية الثورية واستثنائها من التمتع بالحرية السياسية، أي استثناء الطبقة العاملة والشعب.

إن النضال ضد الطغمة الدستورية المتسلطة في سبيل فرض تلك الحرية يتعارض وأسلوب التفاهم معها ومحاولة إقناعها مثلما يفعل الليبراليون والإصلاحيون، ساسة ونقابيين ومثقفين، يتعارض والطرق الفوقية ومناورات الكواليس، واحترام الحدود الفاشية، لأن هذا الأسلوب يسهّل عليها إجهاض نضال الشعب.

لقد عودنا هؤلاء على التفاهم مع الفاشية والهبوب لنجدتها في أوقات شدتها (أحداث الخبز، الانتخابات التشريعية...) وعلى خشبة النضالات الشعبية والنظر إليها بعين الاحتقار ورميها بالفوضوية والتطرف والطيش.

كما أثبتوا أنهم على استعداد تام لاستثناء الشعب وقواه الديمقراطية والثورية من التمتع بالحرية السياسية، مقابل الحصول على تأشيرة أو كرسي في مجلس النواب، أثبتوا ذلك عند مناقشة الشروط الخمسة التي وضعها حزب الدستور للاعتراف بالأحزاب وعند غيرها من المناسبات.

كما عوّدونا على مغازلة الفرق الدينية الظلامية ومهادنتها والجلوس إليها قصد "النضال المشترك".

فينبغي أن يكون الشعب على بينة تامة من هذه الحقائق ويقظة كاملة من أن تركب نضاله هذه القوى التي تهمها هي أيضا الحرية السياسية لكن من مواقعها الإصلاحية، وأن توظفه لخدمة أغراضها الطبقية الضيقة فتجني الفائدة لنفسها وتحيد به عن أهدافها الحقيقية.

أما الجماعات الفوضوية الثرثارة فإنها أيضا رغم مصلحيتها في تحقيق مطلب الحرية السياسية، تخدم مصلحة الفاشية من حيث لا تدري، عندما ترفض التنظم وتأبى كل سلطة مهما كان نوعها، وتستعيض عن خوض المعارك السياسية برفع الشعارات العامة وركوب الجملة.

(...) فعلى كل عامل وكل فلاح، كل فقير أن يقف إلى جانب الشيوعيين الحقيقيين الذين يطالبون بحل مجلس النواب الحالي وتنظيم انتخابات حرة جديدة، يطالبون بإلغاء الحكم الفردي وبإقرار الحرية السياسية للمواطنة."

وبخصوص هذه الفقرة نلاحظ ما يلي:

الملاحظة الأولى: تضخيم مبالغ فيه لجبهة الأعداء مع تشكيك شامل ليس في مواقف كل الأحزاب بدون استثناء فحسب بل وحتى في نواياها.

الملاحظة الثانية: لا وجود لأي تيار سياسي يُمكن العمل معه في إطار عمل مشترك أو جبهوي. وهذا يعني تضييق جبهة الأصدقاء من القوى السياسية إلى حدود الصّفر.

الملاحظة الثالثة: "القوى الديمقراطية الثورية" الواردة في هذه الفقرة غير محددة والمقصود بها هو "الطبقة العاملة والشعب"، أي بعبارة أخرى حزب العمال الشيوعي التونسي، وهذا ما جعل الدعوات إلى العمل الجبهوي تسقط في العبثية.

3 - خلاصة حول العمل الجبهوي للحزب في فترة ما بين المؤتمر التأسيسي و 1992

لم يكن العمل الجبهوي من أولويات الحزب زمن التأسيس، بل كان اهتمامه مُنْصبّا بدرجة أولى على "إنجاز القطيعة مع سلبيات الحركة الشيوعية القديمة، ووضع الخط الإيديولوجي والسياسي والتنظيمي لحزب الطبقة العاملة وضبط برنامجه العام وإعادة الاعتبار للشيوعية في بلادنا". لذلك كان هدفه خلال هذه الفترة هو افتكاك موقعه داخل الساحة السياسية من خلال طرح نفسه بديلا ثوريا ووحيدا للدكتاتورية البورقيبية. وهذا يتطلب التباين مع كل القوى السياسية الموجودة أنذاك والتي كانت تطرح نفسها أيضا بدائل لنظام الحكم. وهو ما يفسر النقد الذي وجهه الحزب إلى كل القوى السياسية الموجودة بدون استثناء. وفي الحقيقة فإن هذه العقلية كانت سائدة لدى كل التنظيمات السياسية وخاصة اليسارية منها التي كانت تجنح إلى العداء والتناطح فيما بينها بدل البحث عن نقاط التقاء. فقد كان كل واحد يريد أن يثبت أنه الوحيد القادر على تمثيل وقيادة الطبقة العاملة، وهي عقلية متأثرة إلى حد كبير بعقلية الحزب الواحد التي كانت سائدة أنذاك.

لقد اصطدمت محاولات الحزب للعمل الجبهوي خلال هذه الفترة بسلوك يحمل تناقضا واضحا، فمن ناحية طموح ودعوات ومبادرات للعمل الجبهوي، ومن ناحية أخرى اتباع سياسة وتكتيك معادية بصفة عامة لذلك، ليسقط بذلك في نفس الخطأ الذي اتهم به الأطراف الأخرى (الفئوية والمعاداة المرضية للأطراف الأخرى). وفي حقيقة الأمر فإن كل المبادرات "الجبهوية" التي تقدم بها الحزب خلال هذه الفترة كان يغلب عليها الجانب النظري والإيديولوجي وكانت موجهة إلى الشعب بصفة عامة أكثر منها إلى القوى السياسية الموجودة على الساحة أنذاك.

II - من 1992 إلى نهاية التسعينات

1 - الإقرار بوجود قوى سياسية يمكن العمل معها

في 1992 قيّم الحزب تجربته في مجال العمل الجبهوي واعترف بأن "سيْر هذا العمل ظل بطيئا للغاية". واستعرض أهمّ الأسباب التي أدت إلى هذا البطء. (انظر الفقرة أعلاه). ولتجاوز ذلك لخص الحزب تكتيكه في هذا المجال خلال الفترة القادمة في الفقرة التالية:

"إن المهمة المطروحة علينا اليوم هي إنضاج الظروف لقيام جبهة تجمع كل القوى الديمقراطية أحزابا ومنظمات وجمعيات وشخصيات ديمقراطية معادية للفاشية ومناضلة في سبيل التحرر الوطني والقومي".

وقد واصل الحزب توجيه دعوات للعمل الجبهوي نختار من بينها رسالة بعنوان "رسالة مفتوحة إلى القوى الديمقراطية حول الانفراج المزعوم" بتاريخ 24 أفريل 1993، نقتطف منها ما يلي:

" من أجل انفراج حقيقي لفائدة الشعب:

إن حزب العمال المتمسك دوما بالأهداف التي ناضلت وضحت في سبيل تحقيقها القوى الديمقراطية والتقدمية ببلادنا، لا يرى انفراجا حقيقيا خارج زوال الدكتاتورية الدستورية وقيام نظام ديمقراطي يوفر الحقوق الأساسية للشعب ويضمن للبلاد سيادتها واستقلاليتها على جميع الأصعدة.

لكن التدهور الذي تشهده الأوضاع المادية والمعنوية لأوسع الطبقات والفئات الشعبية يقتضي من هذه القوى الديمقراطية النضال لفرض تحسينات عاجلة وإيقاف التدهور وتوفير ظروف أفضل لمقاومة الدكتاتورية الدستورية وسد الباب أمام التيارات الظلامية وخلفائها الساعين إلى استغلال تأزم أوضاع الفريق الحاكم وتعويض دكتاتورية بأخرى أشد وطأة وأكثر تخلفا.

وفيما يلي أوكد المطالب التي تقتضي التجند حولها بشكل مباشر:
- إطلاق سراح جميع مساجين الرأي ووضع حد للمحاكمات السياسية.
- وضع حد لممارسة التعذيب وفرض احترام الحرمة الجسدية والمعنوية لكل مواطن مهما كانت آراؤه ومحاكمة ممارسيه والمسؤولين عنه.
- رفع القيود القانونية والعملية على حرية التعبير والصحافة وإسقاط جميع العقوبات المادية والبدنية المسلطة على بعض الصحافيين.
- الاعتراف بكافة الأحزاب السياسية والجمعيات الراغبة في ذلك دون قيد أو شرط.
- رفع الضغوط القانونية والعملية المسلطة على الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان واحترام استقلاليتها والكف عن مضايقة الجمعيات المستقلة، وتوفير الظروف الملائمة لتقوم بدورها.

إن حزب العمال يعتبر تحقيق هذه المطالب الملحة مدخلا لمعالجة بقية الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وللحديث عن انفراج حقيقي لا يرى من رد على أسلوب المناورة سوى محافظة القوى الديمقراطية والتقدمية على وحدة صفوفها وتطوير روح المقاومة المستعادة للدكتاتورية الدستورية".

إن أهمية هذه الرسالة تكمن في أن الحزب "اعترف" بوجود "قوى ديمقراطية" "جديرة" بأن يتوجه لها برسالة لشرح موقفه من الوضع السياسي الراهن أنذاك ودعوتها للتوحد حول جملة من المطالب. وهذا "الاعتراف" لم يكن موجودا في الفترة الفاصلة بين المؤتمر التأسيسي و1992 مثلما بيّنا ذلك.

ولتوضيح المسألة نقارن هذه الرسالة برسالة أخرى بعثها الناطق الرسمي للحزب بتاريخ 18 ديسمبر 1987 إلى "عدّة شخصيات ديمقراطية وتقدمية" لشرح موقف الحزب بخصوص توجيهه مكتوب إلى وزير الداخلية للمطالبة بالاعتراف القانوني به. وما نلاحظه هو أن هذه الرسالة لم يقع توجيهها إلى "القوى الديمقراطية" بل إلى "شخصيات ديمقراطية وتقدمية"، رغم أن الحزب لا ينفي وجود مثل هذه القوى أنذاك، حيث نقرأ في نهاية الرسالة:

"ومن هذه الزاوية يعتبر حزبنا أن كسب معركة الديمقراطية يتطلب من جميع القوى الديمقراطية بمختلف حساسياتها ألا تنساق وراء الوعود وأن تتحول فعليا إلى قوة معبئة ومنظمة لأوسع الجماهير حول المطالب الديمقراطية الدنيا في الظرف الراهن والتي تتمثل في إصدار عفو تشريعي عام وإلغاء جميع القوانين التعسفية وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية وبلدية سابقة لأوانها، حرة وديمقراطية وتحوير الدستور بما يضمن الحرية السياسية للشعب وإرجاع الاتحاد العام التونسي للشغل لأصحابه الشرعيين وتمكين الطلبة من إعادة بناء منظمتهم النقابية –الاتحاد العام لطلبة تونس- وإلغاء عقوبة الإعدام وتحرير الحياة العامة من القمع والقهر والتسلط".

لكن مثلما سبق وبينا فإن "القوى الديمقراطية" ظلّت غير محددة بالنسبة للحزب في فترة ما بين المؤتمر الأول و1992 والمقصود بها هو "الشعب والطبقة العاملة". وهذا ما نلاحظه عندما نتمعن في الرسالتين. فالرسالة الأولى (1987) يطغى عليها أسلوب "إعطاء الدروس"، أي عقلية التعامل مع "القوى الديمقراطية" ليس كما هي في الواقع بل كما يريدها الحزب. وهذا ما تفطن إليه الحزب بعد ذلك. وفي الرسالة الثانية (1993) لا يمكن القول بأن هذه العقلية قد اختفت بل خفت حدتها نوعا ما.

وبإلقاء نظرة على بعض أدبيات الحزب الصادرة بعد 1992 نلاحظ بوضوح تراجع تدريجي للهجة الحادة التي ميزت خطاب الحزب في علاقة بالأطراف السياسية الأخرى وخاصة اليسارية منها. وهذا لا يعود إلى نضج الظروف الموضوعية بقدر ما يعود إلى وعي الحزب بضرورة تغيير سلوكه الجبهوي. وكمثال على هذا التطور نسوق بعض ما جاء في تقرير اللجنة المركزية للحزب الصادر في سنة 1998 بخصوص العمل الجبهوي:

"ومثلما يطرح وجود الدكتاتورية النضال من أجل الحرية السياسية كمهمة مركزية مباشرة، فإنه يفرض "الجبهة من أجل الديمقراطية" كإطار يؤلّف بين القوى المتضررة ويوسع حلفاء الطبقة العاملة مقابل التضييق على العدوّ.

ورغم الجهود التي بذلتها قيادة الحزب لتكريس مقررات اللجنة المركزية في هذا المضمار، حيث أمكن الاتفاق على عريضة الـ202 التي نشرت بالخارج وذاع خبرها، فإنها لم تفرز بعد الوعي الذي يتجسّد تنظيميا بالوتيرة المنشودة، ووجبت المتابعة ووجب الاستقرار نهائيا على "الجبهة من أجل الديمقراطية" تسمية وعلى البرنامج والصيغ العملية، وإقامة الروابط الرسمية مع الحركة الديمقراطية والتقدمية العالمية باعتبارها تشكل بُعد الجبهة الأممية الواسعة.

(...)

وتمثل الجبهة الإطار الكفيل بتنظيم المقاومة على نطاق واسع. والعلاقات الجبهوية تستوجب المرونة وتقديم المثل في سعة الأفق وبُعد النظر وترجمة ذلك في السلوك ولغة الخطاب. وإن النضال من "فوق" على أرضية الحرية السياسية رغم كونه هو المعطى الحاصل اليوم (نضال محصور في العناصر الطلائعية وفي النخب الواعية) فإنه لا ينبغي أن ينفصل عن النضال من "تحت" الذي هو العمق الإستراتيجي لكل حركة تحرر حقيقية. غير أن الأمر يحتاج عملا دؤوبا ومخططا ينتهي بتحويل الشأن السياسي إلى شأن عام وبالتالي تحويل مسألة حقوق الإنسان والحريات إلى قضية وطنية تستنفر الجميع، على النحو الذي ذكرنا، وبالمداخل التي ضبطنا من أجل دفع حركة التحرر العامة للشغيلة وللشعب عامة".

عندما نقارن هذه الفقرة (1998) بالفقرة التي أوردناها أعلاه والتي حذر فيها الحزب من "القوى التي تراهن على الفاشية، والفرق الفوضوية" (1987) ندرك مدى تطور خطاب الحزب في علاقة بالعمل الجبهوي.

لكن هذا لا يعني أن الحزب تخلص نهائيا من عقلية الفضح والهجوم الكاسح ضد الأطراف السياسية، والتعامل بسلبية مطلقة مع كل المبادرات الجبهوية التي طرحتها أطراف أخرى. وكمثال على ذلك نذكّر بموقفه من "المجلس الوطني للحريات" ومن "الائتلاف الديمقراطي" ومن مبادرة محمد الكيلاني لـ"توحيد الحركة الديمقراطية". وكل هذه المبادرات صدرت في نهاية التسعينات.

خلاصة القول أن هذه الفترة تميزت بـ:
- اعتراف الحزب بوجود قوى ديمقراطية يمكن العمل معها.
- تراجع حدّة الدعاية المضادة ضد الأطراف السياسية وخاصة اليسارية منها.

ولكن الحزب لم يتخلص نهائيا من الإرادية التي ميزت سلوكه في فترة التأسيس في علاقة بالعمل الجبهوي.

III – من 2000 إلى الآن: القطع مع سلبيات الماضي

بالاطلاع على أدبيات الحزب الصادرة بعد سنة 2000 نتبين دون عناء أن الحزب قطع نهائيا مع سلبيات الماضي وخاصة في ما يتعلق بالتعامل مع الواقع السياسي التونسي بموضوعية وليس بإرادية، أي التعامل مع الأطراف السياسية كما هي وليس كما يريدها هو. وهذا لا يعود فقط إلى أن هذه الأطراف قد تطورت هي الأخرى سواء في تعاملها مع الدكتاتورية أو في نظرتها للعمل الجبهوي، وإنما أيضا إلى أن الحزب وعى بضرورة تغيير سلوكه وتعامله الجبهوي.

وقد اخترنا للتدليل على هذا التغيّر مقتطفات من وثيقتين داخليتين للحزب، الأولى بتاريخ 24 جانفي 2000 والثانية بتاريخ مارس 2002.

الوثيقة الأولى: 24 جانفي 2000

أما على مستوى القوى السياسية، فبعد أن كان حزبنا وقلة قليلة من القوى والعناصر النزيهة التي اختارت منذ البداية المواجهة والتصدي للزمرة النوفمبرية وحزبها ونظامها وقدّمت التضحيات الجسام دفاعا على الشعب والحرية والديمقراطية نرى اليوم قوى كانت بالأمس القريب تراهن على بن علي وحزبه تتباين معه وتنقده وتعارضه، علينا أن نساعدها على تعميق هذا التباين وهذه المعارضة، في نفس الوقت الذي نلتزم فيه الحذر حيال إمكانية عودتها إلى أحضان السلطة. فالانتخابات التشريعية والرئاسية لم تفتح على مرحلة يقوى فيها الالتفاف حول الفاشية ونظامها وتتجنّد طاقات الدعم والمساندة لها بل فتحت على مرحلة تضاءل فيها الالتفاف "الجماهيري" واهتزّت فيها أركان المكونين للديكور من أحزاب ومنظمات وجمعيات، وأصبح الخطاب باهتا والوعود لا تحرّك السواكن.

إضافة إلى الصورة القاتمة التي تكوّنت للرأي العام الديمقراطي العالمي حول بن علي ونظامه لتعدد الانتهاكات في مجال الديمقراطية والحريات حتى أنه أصبح رمزا للأنظمة الاستبدادية في عالمنا اليوم.

فهذا الواقع السياسي يدعونا اليوم إلى التفكير الجدّي في بلورة معالم مبادرة سياسية شاملة تنطلق من مميّزات هذه المرحلة، مرحلة مخاض وعجز السلطة على اتخاذ أي مبادرة سياسية ترتقي وتستجيب لطموحات الشعب الدنيا وقواه السياسية. ونعتقد أن تهيئة الظروف الملائمة لطرح هذه المبادرة للنقاش وتحقيق التفاف أهم القوى والحساسيات والشخصيات الديمقراطية حولها سيُخرج بالفعل الحركة الديمقراطية من عنق الزجاجة ويعطي بعدا نضاليا لكل المبادرات التي تُتّخذ هنا وهناك من أجل بناء وحدة الحركة الديمقراطية بعيدا عن الحسابات الفئوية الضيقة.

ونحن نقترح أن يتولى الرفاق داخل الحزب مناقشة الأفكار التي سنعرضها كمنطلقا للنقاش ونرى أنه من الضروري تناولها مع الأصدقاء المقربين لنستمع إلى آرائهم ومقترحاتهم من أجل إثراء المشروع وتوحيد أكثر الطاقات حوله، ونحدد أجل أسبوعين على أقصى تقدير لإيفائنا بالآراء والمقترحات.

إن حرصنا على انجاز النقاش "الداخلي" خلال أسبوعين مردّه حرصنا على استغلال أجواء النقاشات التي تدور الآن حول ضرورة وحدة الحركة الديمقراطية. هذا إلى جانب حرصنا عدم تكرار تجربة "المجلس" التي تميّزت "بالتكركير"، ثم لاعتقادنا خاصة أن مثل هذه المسألة ناضجة لدى رفاقنا، ولا نعتقد أنها ستكون مصدر إشكاليات كبيرة. وبمجرّد أن نتلقى آراءكم، ولو عن طريق إرسال محاضر الجلسات، ستتولى القيادة صياغة المشروع في شكل رسائل توجه باسم الحزب إلى كل القوى والعناصر التي نراها مؤهلة للمساهمة في بناء وتحقيق هذا المشروع في الداخل والخارج. وسنحرص من جانبنا على أن لا يستغرق هذا النقاش بضعة أسابيع ويتم الإعلان على تشكّله.

علينا أيها الرفاق، أن ننطلق من كثرة الحديث في الفترات الأخيرة حول "ضرورة توحيد الحركة الديمقراطية"، كما ننطلق من بعض المبادرات التي قامت في الساحة، مثل "المجلس" و"الائتلاف" ومثل الأنشطة المشتركة التي تقوم بها منذ مدة بعض المنظمات: الرابطة، جمعية النساء الديمقراطيات، جمعية المحامين الشبان، اتحاد الطلبة، فرع منظمة العفو الدولي، فهذه المبادرات كلّها والتي قبلها، نداء الـ202... تعبّر عن إدراك مشترك لضرورة "توحيد الحركة الديمقراطية" وما من شك أن هناك عاملين أساسيين قاما بدور في دفع كل الأطراف العاملة بالساحة إلى إثارة قضية "توحيد الحركة الديمقراطية". وهذان العاملان هما:

أوّلا: اتساع دائرة القمع التي طالت مختلف التيارات الفكرية والسياسية، المتجذّر منها والاصلاحي والليبرالي وحتى المتواطئ مع السلطة.

ثانيا: إدراك كل طرف بحاجته إلى القوى أو إلى "قوى أخرى" من أجل تحقيق الأهداف التي يعمل من أجلها.

ولكن، هل أن ما ظهر من مقترحات ومبادرات يستجيب لمقتضيات الوضع؟ علينا أن نلاحظ هنا محدودية كل المبادرات واستمرار الحاجة إلى تجميع كل القوى الديمقراطية بشكل من الأشكال لتحقيق أهداف دنيا. فماذا يمكن أن يكون هذا الشكل؟ نحن نرى أن نقترح قيام "تجمّع لقوى المجتمع المدني" "un collectif de la société civile" يضمّ كل الذين لهم مصلحة في تحقيق الحرية السياسية، سواء كانوا أحزابا أو منظمات أو جمعيات أو أفراد. وتكون أرضية هذا التجمع الحدّ الأدنى من الحريات: عفو تشريعي عام، حرية التعبير، حرية التنظيم، حرية الاجتماع والتظاهر والاضراب، انتخابات حرة وديمقراطية، وضع حد لممارسة التعذيب، إلخ. فالتفكير في نوع من الجبهة السياسية التي تقوم حول برنامج سلطة ليس وقته الآن. فالساحة لم تنضج بعد ذلك. لهذا يكون من الأفضل في الوقت الحاضر الدعوة إلى تجمّع حول الحدّ الأدنى وإذا كانت الأرضية أرضية حريات فإن ذلك يعني وجود حدّ أدنى من التباين مع الدكتاتورية.

وعن القوى التي يمكن أن نتوجه إليها ونقترح عليها قيام مثل هذا التجمع فهي، بالإضافة إلى حزبنا واتحاد الشباب، محمد مواعدة (حدش)، المجلس، الرابطة، اتحاد الطلبة، النساء الديمقراطيات، جمعية المحامين الشبان، وكل الأفراد والشخصيات المثقفة والنقابية والديمقراطية التي تقبل بالفكرة.

ومن أجل تجاوز الحساسيات التي أفشلت تجربة المجلس، نقترح على من نتقدّم إليهم بالمشروع أن يكون التمثيل كالآتي: نائب عن كل حزب أو منظمة أو جمعية، إلى جانب مجموعة من الشخصيات الديمقراطية المستقلة التي تمثل حساسيات مختلفة: النقابيون المثقفون، إلخ. ويتم الاتفاق على كل شيء وفقا لمبدإ "الوفاق" "concensus". وفي ذلك من الضمانة لكل طرف حتى لا يعتقد أنه "سيهيمَنُ عليه" من قبل الآخرين، ويمكن تشريك أطراف من الهجرة في هذا المشروع مثل: لجنة الحريات.

إن أهمية هذا المقترح تكمن في اتساعه، فهو يتوجه إلى الجميع بما فيه الكيانات القائمة الذات. كما أنه يحترم استقلالية كل طرف، وبعبارة أخرى فهو يقترح نوعا من التنسيق المتقدم بين مختلف النزعات الفكرية والسياسية والنقابية والشبابية التي تؤلف نواة المجتمع المدني. وبهذه الصورة فهو من الصعب أن يثير مخاوف هذا الطرف أو ذاك، إلا إذا كانت هناك حسابات ضيقة جدا أو خوف من ردّ فعل السلطة.

وبالطبع سنجد أنفسنا أمام إشكال، ما هو موقع "الإخوان" من هذا المقترح؟ فهل لهم مكان فيه؟ وهذا السؤال ملحّ لأن أكثر من طرف في الساحة عينه على "الإخوان" على أمل التحالف معهم بانتهازية. في اعتقادنا، علينا نحن أن ندافع عن تجمع للقوى الديمقراطية العلمانية (أي غير الدينية). ولكن من أجل سدّ الباب أمام إمكانيات التعلل بمسألة "الإخوان" لإجهاض المشروع، يمكن أن نقدّم تنازلا وهو الآتي: إن الإشتراك في التجمّع لا يشترط عدم التعامل مع "الإخوان" إطلاقا. فمن له علاقات بـ"الإخوان" من حقه أن يحافظ عليها دون أن يضرّ ذلك بالتجمّع. أي أن كل طرف مشارك يبقى مستقلا، خارج الأرضية في علاقاته التي يقيمها مع الأطراف الأخرى. وهذا الإشكال (العلاقة بـ"الإخوان") ربما سنلاقيه مع مواعدة أساسا ومع بعض المستقلين. ولكن يصعب أن نلاقيه مع الرابطة، اتحاد الطلبة، النساء الديمقراطيات والنقابيين. وما يهمّنا نحن هو أن نركّز جهودنا على تجميع أوسع الناس حول هذا "التجمّع".

أيها الرفاق، تجدون صحبة هذا الحديث نصّا "من أجل تجمع عريض لقوى المجتمع المدني الديمقراطية". وهو بمثابة حوصلة لمجموعة أفكار حول المشروع المزمع بعثه، نقترح أن يكون منطلقا للنقاش من أجل مزيد بلورة المشروع وأهدافه. وكما يمكن أن تلاحظوه، فالأرضية تحتوي على عدة مطالب وقع ذكرها في تسلسل لا يراعي بالضرورة أهمية كل واحد منها، علاوة على أن بعضها لا يمكن تضمينه لأرضية التجمع لأن هناك من الأطراف من سيرفض ذلك بشدة. علينا كما قلنا في هذا الحديث أن نحرص منذ البداية على توفير أوفر الظروف لتجميع كل الذين لهم مصلحة في تحقيق الحرية السياسية، أي على تجميع أوسع الناس. لأن التجمع الذي نريده اليوم ليس بالجبهة السياسية التي تقوم حول برنامج سلطة، علينا أن نعي جيدا الفارق حتى لا نسقط في الإقصاء ونقدّم ذريعة للمترددين والمتربصين لإجهاض المشروع.

الوثيقة الثانية مارس 2002 [1]

إن نجاحنا في كسب دعم ومساندة كل هذه الجمعيات والمنظمات من خلال ذلك العدد الهام من المبعوثين لا يجب أن يقلل من أهمية الجهد المبذول في اتجاه الحركة الديمقراطية والتقدمية داخل تونس لضمان تحركها ومساندتها. وهنا لا يفوتنا أن نثمن الدور الذي لعبته جل مكونات الحركة الديمقراطية ونخص منها بالذكر الرابطة وفي مقدمتها رئيسها السيد مختار الطريفي، ولجنة الدفاع عن حمة ورفاقه وفي مقدمتها رئيسها السيد الحمزاوي ولجنة الدفاع على الرفيق مومن وفي مقدمتها رئيسها السيد جلول عزونة وشكري لطيف، وبعض فروع الرابطة وخاصة فرعي صفاقس وبنزرت، والهيئة الوطنية للمحامين وفي مقدمتها رئيسها السيد بشير الصيد. ولكن إلى جانب هؤلاء الأحرار كان هناك عدد كبير من المناضلين السياسيين والنقابيين والديمقراطيين منتمون إلى تنظيمات وأحزاب ومستقلون، كانوا هم أيضا من الأوائل الذين رابطوا منذ الصباح الباكر أمام وداخل "قصر" الظلم والقهر وواجهوا البوليس أثناء الهجوم وصمدوا في وجهه وكلهم استعداد لرفع التحدي والدفاع عن الرفاق. فإلى كل هؤلاء الرفاق والرفيقات، إلى كل هؤلاء المناضلين والمناضلات، إلى كل أصدقائنا من أوروبا والجزائر والمغرب الذين تكبدوا مشاق السفر وواجهوا عنجهية بوليس بن علي، إلى كل هؤلاء ألف تحية. ولن ننسى لهم وقفتهم إلى جانبنا في وجه بطش الديكتاتورية إلى رفاقنا في اتحاد الشباب الذين أعطوا للحدث بعده الجماهيري من خلال مشاركتهم يوم 21 فيفري في مهرجان التحدي، ومن خلال ما قدموه أيضا أثناء الاحتفالات بالذكرى الخمسين لتأسيس اتحاد الطلبة.

(...)

إن الوحدة النضالية التي حققتها الحركة الديمقراطية والثورية يوم 2 فيفري يمكن أن تشكل بداية تأسيس لمرحلة جديدة من العمل المشترك الجبهوي، الذي يمكن أن يتدعم في العمق والاتساع على قاعدة أهداف ملموسة تعبّد الطريق إلى عمل جبهوي يشمل كل الأحرار والقوى الديمقراطية والوطنية من أجل إسقاط الفاشية. وعلينا أن نستغل الديناميكية الحالية التي تشهدها الساحة السياسية لندفع أكثر في هذا الاتجاه مع ملازمة الحذر الشديد حتى لا نثير الحساسيات ونجعل البعض يحسّ أننا نريد توظيف ما تحقق لصالح حزبنا فقط. فمهرجان 2 فيفري، كان بحق مهرجانا جبهويا وعرسا لكل الديمقراطية بقطع النظر عن حجم مساهمة هذا وذاك ودرجة تحمس هذا وذاك. ومن هذه الزاوية، لا بد أن يحرص رفاقنا في نقاشاتهم حول هذه التظاهرة وأبعادها ومستقبل تطورها على إبراز الجانب الجبهوي لهذه المعركة ودور كل الأطراف في إنجاحها. فهي أولا معركة كل الحركة الديمقراطية ونجاحنا في إدارتها وفرض التنازلات مستقبلا على الفاشية هو انتصار لكل الحركة الديمقراطية ولوحدة إرادتها.

فحذار من الغرور ومحاولة إقصاء أو تقزيم الآخرين ولكن علينا أيضا التزام الانتباه واليقضة، فالحركة الديمقراطية ربما تخوض أولى تجاربها على هذه الشاكلة (سواء من حيث الشكل أو من حيث نوعية المواجهة) فعلينا أن نراعي هذه الحالة وهي في بدايتها ونحاول التدرج بها خطوة خطوة من حيث أشكال النضال ومضامينها حتى لا نحمّل الحركة ما لا طاقة لها به، ونعطي بذلك فرصة للمشككين في نوايانا ليعرقلوا مسيرة العمل الجبهوي، ويفشلوا المشروع برمته. وفي هذا الإطار، ننبه الرفاق أن حسن نوايانا لا يكفي لتحصيننا من السقوط في الخطأ، بل علينا التزام الموضوعية واليقظة والنباهة السياسية حتى لا نتهم بالتوظيف أو التسلط والرغبة في القيادة والتزعم.

فالحركة الديمقراطية بجل جمعياتها وأحزابها ومناضليها المستقلين مازالت تعاني من عديد الحساسيات التي تقف في جانب كبير حجرة عثرة أمام وحدتها الميدانية ناهيك عن وحدتها التنظيمية في أطر وهياكل عمل جبهوية. وعلى رفاقنا أن لا ينسوا أو يتجاهلوا هذه الحقيقة وخاصة في مثل هذا المنعرج. فمن غير المستبعد أن تحاول السلطة استعمال ورقة "النميمة" لإثارة بعض مكونات العمل الجبهوي بعضها ضد البعض، مع سعيها إلى عزل الحزب. علينا أن ندرك أن هذه الإمكانية واردة وليست مجرد فرضية نظرية.

ملاحظة بخصوص الوثيقة الأولى:

الملاحظة الأبرز بخصوص هذه الوثيقة تتمثل في إعطاء الحزب بعدا عمليا لنشاطه الجبهوي وذلك أولا: دعوة إلى نقاشات مع القوى السياسية والشخصيات الوطنية. ثانيا: تفاعل نسبي مع المبادرات المقدمة في هذا الشأن. ثالثا: اقتراح مشروع جبهوي على القوى السياسية "المؤهلة" لذلك. رابعا: تحديد الأطراف السياسية التي سيتوجه لها الحزب بمشاريع العمل الجبهوي، وهي "بالإضافة إلى حزبنا واتحاد الشباب، محمد مواعدة (حدش)، مجلس الحريات، الرابطة، اتحاد الطلبة، النساء الديمقراطيات، جمعية المحامين الشبان، وكل الأفراد والشخصيات المثقفة والنقابية والديمقراطية التي تقبل بالفكرة". نلاحظ اسثناء "حركة النهضة" وبعض الأطراف السياسية الأخرى.

وهذا البعد العملي لم يكن موجودا لدى الحزب في الفترات السابقة حيث كانت المبادرات الجبهوية تفتقد لذلك ويغلب عليها الجانب النظري. كما نلاحظ أيضا أن الحزب مازال متأثرا نوعا ما بسلوكات الماضي أي التعامل مع الواقع الموضوعي بذاتية ووضع شروط مسبقة للعمل الجبهوي، وخاصة في تحديده للأطراف السياسية "المؤهلة" لهذا العمل.

بخصوص الوثيقة الثانية نلاحظ ما يلي:
- تفاعل غير مسبوق مع مكونات الحركة الديمقراطية (شكر واعتراف بالجميل).
- تحذير ليس من "القوى المراهنة على الفاشية والقوى الفوضوية" مثلما كان يحصل في السابق، بل من "أنفسنا"، وهو اعتراف ضمني بأخطاء الماضي. ومن بين الأشياء التي حذر الحزبُ نفسه منها في هذه الوثيقة: عدم السقوط في الغرور وتجنب إثارة الحساسيات والابتعاد عن عقلية الإقصاء والتقزيم والتزام الموضوعية واليقظة والنباهة السياسية وعدم القفز على واقع الحركة واعتماد أسلوب التدرج في النهوض بها. وفي الحقيقة فإن كل هذه الأمراض كانت سائدة ومسيطرة على سلوك الحزب حتى أواخر التسعينات. والتحذير هنا يأتي متأخرا جدا ولا يمكن بأي حال من الأحوال تبريره بتغير ونضج الواقع الموضوعي.
- حددت الوثيقة عدوا رئيسيا واحدا للحركة الديمقراطية وهو السلطة. وهو ما لم يكن موجودا في السابق إذ نلاحظ خلطا بين العدو الرئيسي (الفاشية) وبين الأعداء الثانويين، مع نفي وجود أصدقاء.

إذن يمكن اعتبار بداية القرن الجديد هي البداية الحقيقية لدخول الحزب غمار العمل الجبهوي بعقليات جديدة تقطع مع سلبيات الماضي. وقد أصدر الحزب خلال هذه الفترة عدة نصوص ضمّنها تصوّره للعمل الجبهوي، من أهمها "الأدنى الديمقراطي لتحالفنا اليوم وغدا /في الرد على بيان مواعدة، الغنوشي"، و"من أجل بديل شعبي وديمقراطي" و"كيف نحافظ على وحدة العمل ونطورها". كما شارك في بعض الأعمال المشتركة وأصدر بيانات مشتركة مع أحزاب وجمعيات، كانت "حركة 18 أكتوبر للحقوق والحريات" أهم تتويج لها.

لقد تغيّر خلال هذه الفترة خطاب وسلوك الحزب بشكل واضح في علاقة بالأطراف السياسية الأخرى. ولتبيان هذا التطور وللتأكيد على أن بداية القرن الجديد كانت بالفعل نقطة تحول بارزة في تكتيك الحزب الجبهوي نقارن بين نصّين، الأول صدر بـ"الشيوعي" بتاريخ ماي 1999 بعنوان "حول بعض قضايا النضال الديمقراطي" وهو ردّ على مقال نشره محمد الكيلاني في العدد 16 من مجلة "الطريق الجديد" الشهرية (فيفري 1999). والثاني كراس بعنوان "الأدنى الديمقراطي لتحالفنا اليوم وغدا /في الرد على بيان مواعدة، الغنوشي"، صادر بتاريخ أفريل – ماي 2001.

إن أهمية النص الأول (الرد على الكيلاني) تكمن، بالنسبة إلى موضوعنا، في أنه تأكيد على أن تكتيك الحزب في علاقة بالأطراف السياسية الأخرى وخاصة اليسارية منها لم يتغير بشكل كبير من التأسيس إلى نهاية التسعينات. فهذا النص يذكّرنا بالنصوص، التي كتبت في فترة التأسيس والتي كانت موجهة ضد الأطراف اليسارية الموجودة على الساحة أنذاك، والتي تميزت بأسلوب هجومي. وبالتمعن في هذا النص يمكن استخراج كل الأخطاء والأمراض التي حذرت منها الوثيقة التي استشهدنا بها أعلاه (مارس 2002) مثل الغرور والإقصاء والتقزيم، إلخ. وسنكتفي هنا بذكر بعض المصطلحات والجمل الواردة في هذا النص: "محمد حرمل وفرقته... محمد الكيلاني يزعم... يدّعي... له نمط من التفكير والممارسة الانتهازيين... يهادن الفاشية... جماعته... دعوتهم الانخذالية والاستسلامية... تفسخهم الفكري والسياسي... يتملقون ويتذيلون... وهم خليط من العناصر والفرق أو الحلقات الصغيرة المتواجدة في الحركة الطلابية... نظام "سيده"... شطحات محمد الكيلاني... قدّم لنا درسا سخيفا في "التاريخ" أو "الفلسفة" أو "القانون" أو "السياسية" منتهجا منهج جميع الانتهازيين الذين يخشون الوضوح والشفافية لأنهما ينزعان عنهم ورقة التوت... ماركسي لينيني قديم... أسلوبه التعويمي... ما وصل إليه من إسفاف وارتداد... يتصنع... سلوكه اليميني... الانتهازية تعمي البصيرة... أيها الأستاذ الحكيم والمرشد العظيم... طلع علينا... يفتري على الحركة الديمقراطية... محمد الكيلاني والعناصر الانتهازية... أفرغ ما في جوفه من حقد على حزب العمال... ما في كلام الكيلاني من بهتان ونفاق، إلخ".

هذا بعض ما جاء في هذا النص والذي يمكن إدراجه ضمن التقزيم والإقصاء للأطراف السياسية الأخرى. أما بالنسبة للغرور الذي ميز كتابات الحزب من التأسيس إلى نهاية التسعينات فنكتفي بذكر جملتين فقط وردتا في نفس النص (الرد على الكيلاني 1999): "سنظل مصرين على موقفنا مهما كان احتجاجه" و"لسنا في حاجة إلى هذه الدروس لأننا تعلمنا كيف نتمّرد على وضع "الرعية" وعلى أخلاقيات العبيد".

إننا لسنا هنا بصدد مناقشة ما إذا كان صاحب المقال (محمد الكيلاني) يستحق كل هذا الهجوم، بل لتتبّع تطور أسلوب الحزب في تعامله مع المواقف السياسية المخالفة بخصوص المبادرات الجبهوية. وللوقوف على ذلك نفتح الآن النص الثاني (الرد على محمد مواعدة والغنوشي). أولا من البديهي أن نشير إلى أن الحزب لا يمكن أن يعتبر مواعدة والغنوشي أقرب إليه من محمد الكيلاني و"جماعته" من الناحية الإيديولوجية والسياسية. وإذا اتبعنا هذا المنطق فمن المفروض أن يكون الهجوم على النص الثاني (مواعدة/ الغنوشي) أعنف من الهجوم على النص الأول (الكيلاني)! لكن العكس هو الذي حصل! فالرد على مواعدة/العنوشي تميّز بروح نقدية متزنة وهادئة تبحث عن الأخطاء لإصلاحها وعن الاعوجاج لتصويبه بكثير من التفاعل والإيجابية، تاركة الباب مفتوحا لمزيد من النقاش قصد التوصل لصيغة من التوافق، وهو ما أعطى لهذا الكراس صبغة عملية تأخذ بعين الاعتبار التطورات التي يمكن للواقع الموضوعي أن يحملها مستقبلا. ولإعطاء فكرة عن غياب الطابع "العدائي" في هذا النص نشير إلى أن كلمة "الظلامية" التي ميّزت كتابات الحزب المتعلقة بالحركات الدينية في فترة التأسيس وما بعد التسعينات اختفت كليا من هذا النص، نفس الشيء بالنسبة إلى كلمتي "اليمينية" و"الانتهازية"، أما صفة "الرجعية" فقد ارتبطت فقط بالسعودية وبعض دول الخليج وطالبان وإيران. ولم يستثن النص سوى أحزاب الديكور المرتبطة ارتباطا وثيقا بالدكتاتورية من أيّ عمل جبهوي. على عكس الرد الأول (الرد على محمد الكيلاني) الذي سدّ الباب منذ البداية ولم يترك أي مجال لإمكانية التفاعل مع هذه المبادرة. وهذا لا يعني، بطبيعة الحال، أن الحزب يرى في الغنوشي والمواعدة "صديقين" وفي الكيلاني "عدوّا" وأن إمكانية العمل مع الأوّلين أفضل من العمل مع الثاني، بل لأن أسلوب الحزب في علاقة بتفاعله مع المبادرات الجبهوية المطروحة على الساحة تغيّر وتطوّر. أي بعبارة أخرى لو أن الرد على الغنوشي ومواعدة كتب قبل التسعينات فعلى الأرجح أن أسلوبه سيكون هجوميا، وبالمقابل لو أن الرد على الكيلاني كتب ما بعد 2000 لكان أسلوبه "متسامحا". ولتأكيد هذه الفكرة نواصل مقارنة "الرد على الكيلاني" سنة 1999 بنص آخر بعنوان: "ملاحظات حول وثيقة: مشروع أرضية لليسار"، نشر في العدد الأخير من "الشيوعي" بتاريخ جوان 2007. وهو نص حول نفس الموضوع، أي الرد على مبادرة توحيدية كتبها محمد الكيلاني تحت عنوان "مشروع أرضية لليسار" بتاريخ 8 أوت 2006. ومن خلال هذه المقارنة (دائما على مستوى الأسلوب وطريقة التعامل) نلاحظ، دون عناء، تراجع، بل اختفاء، الأسلوب الهجومي والنبرة العدائية مع بروز عقلية تفاعلية ذات بعد عملي، رغم أن مواقف محمد الكيلاني لم تتغير بشكل جوهري طوال هذه المدة.

وفي ما يلي مقتطفات من الردود الثلاثة:

خاتمة الردّ على الكيلاني (1999)

هكذا يمكن القول إنّ م. الك لم يقدّم في مقاله شيئا من شأنه أن ينفع الحركة الدّيمقراطيّة التّونسيّة. فما قدّمه لا يصلح بأيّ شكل من الأشكال أن يكون "برنامجا عامّا" لتوحيد هذه الحركة. فهو خال من كلّ تشخيص للواقع السّياسي في بلادنا ومن كلّ تصوّر جدّي لمعالجته. وليس من الصّعب فهم الأسباب التي جعلت ك. يعجز تمام العجز عن تقديم شيء مفيد للحركة الدّيمقراطيّة. لقد أشرنا إلى بعض هذه الأسباب في ثنايا ردّنا عليه. ويمكننا أن نحوصل الآن جميع تلك الأسباب فنحصرها في ثلاثة. أوّلا: إنّ الكـ. أصبح يهادن الفاشيّة الدّستوريّة النّوفمبريّة وبالتّالي فإنّه غير قادر على طرح المهمّات التي تؤدّي إلى مواجهتها باعتبارها تمثّل العائق الرّئيسي أمام الدّيمقراطيّة في بلادنا. ثانيّا: إنّ الكـ. مهووس بالحركة الدّينيّة المتطرّفة وهو ما جرّه إلى التّخلّي عن عدد من مطالب الحركة الدّيمقراطيّة بدعوى أنّ "الإخوان" سيستفيدون منها. لذلك فإنّ البرنامج الّذي قدّمه جاء مبتورا، سطحيّا، غارقا في العموميّات. ثالثا: إنّ الكـ. حين يتحدّث عن الحركة الدّيمقراطيّة فليس في ذهنه فصائل هذه الحركة الثّوريّة والتّقدّميّة والدّيمقراطيّة المتماسكة، فهذه الفصائل يعتبرها الكـ. "متطرّفة" و"متواطئة مع الإخوان" و"غير واقعيّة"... ولكن في ذهنه حرمل وأشباه حرمل من زعماء وأتباع أحزاب الدّيكور الدّيمقراطي وبعض العناصر المستقلّة التي تدور في فلك التّيّار الانتهازي الّذي حدّدنا معالمه وخصائصه في مقدّمة الرّدّ وليس من الصّعب على أيّ عاقل أن يدرك أنّ الكـ. يحرث في البحر، أنّه غير جادّ بالمرّة. فحرمل وأمثاله لا علاقة لهم بالنّضال الدّيمقراطي. لقد طلّقوه من زمان، متخلّين حتّى عن طابعهم الإصلاحي التّقليدي. لقد تحوّلوا إلى مجرّد خدم لبن علي ودكتاتوريّته. وكلّ ما يهمّهم أن يرضى عليهم سيّدهم ووليّ نعمتهم فيعطيهم "منحة" أو منصبا في إحدى المؤسّسات أو كرسيّا في البرلمان، أو يبعثهم في وفد رسمي للقيام بـ"مهمّة في الخارج"، أو يظهرون إلى جانبه بالجبّة والشّاشيّة في المناسبات الرّسميّة.

إنّ الدّيمقراطيّة في تونس لن تتحقّق إلاّ بالنّضال ضدّ الفاشيّة الدّستوريّة وعلى أنقاضها. كما أنّ الدّيمقراطيّة لن تتحقّق إلاّ بواسطة الشّعب، أي الطّبقة العاملة والفلاّحين، وصغار البورجوازيّين المدينيّين والمثقّفين التّقدّميّين. وإنّ من يفكّر حقّا في توحيد الحركة الدّيمقراطيّة ما عليه إلاّ أن يتوجّه إلى توحيد هذه الطّبقات والفئات ذات المصلحة في الدّيمقراطيّة، على أساس برنامج عامّ يستجيب لطموحاتها ويكون قاعدة لتوحيد فصائل الحركة الدّيمقراطيّة التي تتبنّى هذه الطّموحات في برامجها وبدائلها. ومن البديهي أنّ الوحدة لا تغلق الباب أمام التّوحّد حول مهمّات مشتركة مع قوى بورجوازيّة وبورجوازيّة صغيرة إصلاحيّة وليبراليّة. وهو توحّد يمكن أن يتّخذ عديد الأشكال في مختلف الواجهات بما في ذلك الواجهة الوطنية.

مقتطف من الرد على مواعدة/الغنوشي (2001)

إنّ كلامنا إلى هذا الحدّ قد لا يلاقي اعتراضا من أيّ طرف من أطراف المعارضة التّونسيّة الخارجة عن الدّيكور الدّيمقراطي الذي أقامه الجنرال بن علي خلال العشر سنوات الأخيرة، وهو ديكور لا مصلحة له في تغيّر الأوضاع باعتباره يستمدّ أسباب بقائه من بقاء الدّكتاتوريّة النّوفمبريّة ذاتها.

ولا نذيع سرّا إذا قلنا إنّ حزب العمّال وُجّهت إليه الدّعوة من قبل "حركة الدّيمقراطيّين الاشتراكيّين" و"حركة النّهضة" لمناقشة البيان المشترك وتوقيعه في صورة حصول اتّفاق عليه. وقد أبدى الطّرفان استعدادا للتفاعل مع التّعديلات التي يمكن أن يقترحها حزب العمّال. ولكنّ الظّروف الأمنيّة الصّعبة التي يعيش فيها الحزب لم تمكّنه من مناقشة المبادرة والردّ عليها قبل تاريخ 20 مارس. وبما أنّ المسألة لا تزال مطروحة إلى حدّ الآن، إذ هي لا تتعلّق بموقف ظرفي من مسألة ظرفيّة، بل بتكوين جبهة سياسيّة ذات أهداف مرحليّة. فإنّنا نرى أنّه من واجبنا أن نبدي فيها رأينا، خاصّة أنّ الدّعوات إلى توحيد "المعارضة" أو "الحركة الدّيمقراطيّة" تعددت في الآونة الأخيرة. وهي تعبّر، بقطع النّظر عن المنطلقات التي تحرّك أصحاب هذه الدّعوات، عن حاجة ملحّة تقتضيها ضرورة التّقدّم بالنّضال السّياسي والاجتماعي في بلادنا. لذلك فإنّ مناقشة مبادرة مواعدة-الغنّوشي، تمثّل في حدّ ذاتها فرصة للخوض في مسألة وحدة المعارضة التّونسيّة وشروطها. وهي مسألة تؤرّقنا نحن، كما تؤرّق كلّ الذين يهمّهم بشكل جدّي التّخلّص من الدّكتاتوريّة النّوفمبريّة ووضع حدّ للّيل الطّويل الذي ينوء بكلكله وظلمته على صدر تونس وشعبها.

مقتطف من الردّ على الكيلاني (2007)

"وإذا كان لا بد من تثمين هذه المبادرة لمعالجتها مسألة من ألحّ المسائل في الظرف الراهن وهي توحيد فصائل اليسار التقدمي في بلادنا حول أرضية عمل مشتركة، فإن ذلك لا يمنع لا محالة من إبداء بعض الملاحظات تعميقا للنقاش ودفعا للصراع الفكري والسياسي حول المشروع المقترح وحول بعض نقاط الخلاف داخل فصائل اليسار التونسي، بخصوص "المسألة الديمقراطية أساسا".

أما بالنسبة إلى الكراسين الأخيرين اللذين أصدرهما الحزب في موضوع العمل الجبهوي ونعني بهما "من أجل بديل ديمقراطي وشعبي" و"كيف نحافظ على وحدة العمل ونطوّرها" فهما لا يثيران إشكالا باعتبارهما قطعا نهائيا مع سلبيات الماضي وأسّسا لنهج جديد في علاقة بتكتيك الحزب في المجال الجبهوي ويمكن حوصلة هذا النهج في النقاط التالية:
- اعتبار الدكتاتورية النوفمبرية عدوا رئيسيا وحيدا للشعب التونسي.
- ترك الباب مفتوحا أمام إمكانية تشكيل جبهات ديمقراطية والقيام بأعمال مشتركة مع جميع الأطراف السياسية باستثناء الديكور الديمقراطي المرتبط ارتباطا وثيقا بالدكتاتورية.
- اتباع سياسة مرنة و"ديبلوماسية" في التعامل مع مكونات الساحة السياسية التونسية والابتعاد عن عقلية التقزيم والإقصاء والاستعداء.
- التعامل مع المبادرات الجبهوية المقترحة من خارج الحزب بروح من التفاعل الذي يبحث عن نقاط الالتقاء لإبرازها وتطويرها ونقاط الاختلاف لتطويعها في اتجاه الوصول إلى حد أدنى متفق عليه، باستعمال أسلوب النقاش الحر والمباشر.

هوامش

[1صدرت هذه الوثيقة إثر محاكمة 2 فيفري 2002



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني