الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > قراءة في أقصوصة "وعد الحكة" لأبي النحس
قراءة في أقصوصة "وعد الحكة" لأبي النحس
8 أيار (مايو) 2010

مقدمة

"وعد الحكة..." أقصوصة تضمنت عناصر فنية طريفة أغنت شعريتها ومنحتها قدرا كبيرا من الجمالية وميزتها عن القصص الواقعية الفجة وارتقت بها إلى مصاف القصص الرمزية. لذا ارتأينا أن نحلل جملة من العناصر تبرز هذه السمات أو نقف عند بعض الهنات التي أضعفتها بغية تعميق النقاش وتجاوز النقائص.

1 – بناء الأقصوصة:

استدعى القاص شكلا قصصيا قديما عرفته المدوّنة السردية التراثية ونحا منحى ابن المقفع في حكاياته المثلية في كتاب "كليلة ودمنة". فقد تكوّنت هذه الأقصوصة من قصة/إطار وقصة مضمنة روى كل راو جزءا من أحداثها. فالقصة الأصلية رواها راو عليم استعمل ضمير الغيبة والقصة المضمنة روتها فضيلة مستعملة ضمير المتكلم. وقد اكتسبت الأقصوصة طرافة من المزاوجة بين الضميرين (هو/أنا) والرؤيتين (الرؤية من الخلف باستعمال ضمير الغيبة والرؤية المصاحبة باستعمال ضمير المتكلم). تقاسم الرّاويان السرد إذن فقد روت فضيلة العسف والضرب والإهانات المادية والمعنوية التي تعرّضت لها هي وحمد أثناء اعتقالهما على أيدي أعوان الشرطة في حين روى الراوي وضع حمد المزري بعد ضرب البوليس له والشفقة التي أصبح يثيرها عندما يعابثه الصبية. ولم تقف الطرافة عند هذا الحد. فقد كان للأحداث نصيبها.

2 – الغموض:

قد يكون الغموض إيجابيا أحيانا بحيث يبعد النص عن الخطاب المباشر ويحفز القارئ إلى التأمّل والتأويل لمعرفة أبعاد النص ومرامي الكاتب وأقصوصة "وعد الحكة" تفرض على القارئ شحذ ذهنه لتفكيك ألغازها. فعندما ننتهي من قراءتها نطرح على أنفسنا جملة من الأسئلة: ترى لماذا تقدم السن بحمد واشتعل رأسه شيبا ولم يتزوّج فضيلة رغم أنها خطيبته والقاصي والداني يعرف ذلك وحتى البوليس على بيّنة بهذه العلاقة؟ ولماذا أصبح "كراكوز" يسخر منه الصبية ويلقون في وجهه الحجارة؟ ولماذا بكى لما أعلم أمه أن الشرطة ضربته؟ فهل أصاب الضرب رأسه فحوّله إلى إنسان مختبل أم أصاب أعضاء أخرى من جسده فسبّب له عجزا؟ هي أسئلة قد تتعدد الأجوبة عنها، وهو تعدد يمنح النص ثراء ويغني دلالاته. ولم يكتف الراوي بالإيحاء عند صياغته الأحداث فقد عبّر عن بعض المواقف بطريقة غير صريحة.

3 – إيديولوجية الأقصوصة:

ليس من الضروري أن تكون إديولوجية النص حاضرة بشكل مباشر وأن يسمّي الراوي الأشياء بأسمائها ويحدد الفاعل بصفاته. فالإشارة تغني أحيانا عن صريح العبارة، وربّ تلميح أفصح من تصريح. لذا قد يلتجئ القاصّ الناجح إلى أساليب مختلفة للتعبير عن موقف من المواقف. فعندما تشير فضيلة إلى اعتقالها وضربها وعسف الشرطة لأنها خطيبة حمد فهذا يعني أنها تدين السلطة لأن قمعها الأعمى لا يفرّق بين متهم وبريء، ولا بين معارض ومسالم... فأيّ ذنب اقترفته فضيلة حتى تـُضرب ويسيل دمها؟ وأيّ قانون يحتكم إليه البوليس عندما يعذب امرأة بريئة ذنبها الوحيد – إن عدّ ذلك ذنبا – هو أنها خطيبة حمد ابن عمّها المناهض للسلطة الحاكمة؟ ومن أدرانا أنها تفقه في السياسة شيئا؟ وهل يجب على المعارض للسلطة ألا تكون له خطيبة حتى لا تعاقب مثله؟

وعندما أضحى حمد مجنونا أي عندما تتسبب السلطة الحاكمة في جنون المعارضين لها فإن الإشارة إلى ذلك بطرف خفيّ هي إدانة لها وتشنيع بها لأنها لا تحترم الذات البشرية ولا تؤمن بحق الاختلاف بل ترتكب جرائم بشعة بدون أيّ مبرر. ومن ثمّ يكون الكاتب قد كرّس موقفا إيديولوجيا ناقدا للسلطة بطريقة ضمنية ووفـّق في ذلك أيـّما توفيق.

4 – مصير البطل

كل قصة تـُبنى انطلاقا من نهايتها. ذلك أن القصة يتم تنظيمها للوصول إلى هذا الهدف ولأنها قصيرة. وقد أكد النقاد أن هناك ضربين من النهايات: نهاية مغلقة ونهاية مفتوحة. ولا يكون في النهاية المغلقة امتداد للأحداث، ويكون مصير البطل محددا سلفا في حين تترك النهاية المفتوحة الأحداث معلـّقة، ولا تستجيب لرغبة القارئ الذي يأمل في نهاية سعيدة أو سيئة. ومن ثمّ يكون القارئ مدعوا إلى سد الثغرات. ونهاية "وعد الحكة" نهاية مفتوحة تقتضي أكثر من قراءة وتحمل القارئ على تصوّر أكثر من نهاية. فالقارئ لا يعرف مصير البطل، وكل ما يعرفه عنه هو أنه يتألم في صمت ويموت موتا بطيئا. ولعلّ الغاية من التجاء القاص إلى هذه النهاية المفتوحة هي رغبته في إشراك القارئ في تصوّر نهاية معيّنة لمصير هذا البطل الذي خرّبت السلطة الحاكمة جسده وعقله رغم أن ما فعله لا يتجاوز السباب، أي الكلام. وهكذا لم يقابل كلامه بكلام بل قوبل بفعل شنيع. فكان العقاب أضعاف الجرم وكانت النتيجة مجهولة، ولكن المستقبل سيكون إمّا صورة من الحاضر وإمّا أسوأ منه. فالإشارات الكثيرة توحي بمستقبل مظلم ونهاية مأساوية.

5 – لغة الكتابة

وقديما قال علماء البلاغة العرب: "يفاضل الأدباء بجودة السبك وحسن الصياغة". ومن ثمّ فجودة المعاني وإحكام الصياغة وصواب الإشارة واختصار العبارة كلها عناصر أساسية لا بد منها للأديب. فالمتعة الفنية لا تتحقق إلا إذا توفرت هذه العناصر. فكم من أسلوب يغني النص بمجازاته وإيحاءاته، وسجعه وجناسه، ومحسناته البديعية، وكم من أسلوب ينفر القارئ منذ أول وهلة...

وقد قادتنا قراءتنا لهذه الأقصوصة إلى مثل هذه التوطئة قبل النظر في عنصر اللغة، ذلك أن أكثر من ملاحظة بوسعنا أن نبديها بشأن هذه المسالة:

أ – لغة الأقصوصة جافة، متعثرة وغير قادرة على أداء المعنى الذي يرغب القاصّ في تأديته بدقة. فقد سيطر عليها قطب التقريرية فانتفى منها الخيال والمجاز، وغابت عنها الشاعرية الغنية بإيحاءاتها، واكتفت بسرد الوقائع التي عاشها حمد وفضيلة وتقديمها بأسلوب مباشر لا جديد فيه ولا طرافة.

ب – تسرّبت بعض الأخطاء إلى متن الأقصوصة، سنكتفي بذكر بعضها حتى لا يسقط فيها أبو النحس مستقبلا:

الخطأ الصواب
أولائك أولئك
خطى خطا
نظر لي نظر إليّ
ترقرقت عيناها بالدموع ترقرقت دموعها في عينيها
دخل أربعة أعوان يحملان دخل أربعة أعوان يحملون
قاربت على المغيب قاربت المغيب
سحبتها إلى ذكريات حزينة عادت بها إلى ذكريات حزينة

خاتمة:

كلمة حق يجب أن تقال في حق أبي النحس حتى لا نظلمه، فقد اجتهد ليكتب قصة متميّزة فكان النجاح حليفه على مستوى تطوير البنية ورمزية الأحداث وتقديم الوقائع من خلال رؤيتين اثنتين. لكن اللغة التي استعملها القاص لتصوير هذا الكون الحكائي خذلته، ولولا هذه الهنة لحققت هذه الأقصوصة نجاحا كبيرا ولعدّت مثالا يحتذى ونموذجا جديرا بالتقليد. فالأقصوصة ذات المضمون السياسي أو الإيديولوجي تحتاج إلى فنيات مخصوصة حتى تبعد عنها تهمة المباشرة والتشبّه بالكتابة السياسية. لذا نرجو أن نقرأ لأبي النحس مستقبلا – وقد تخلص من نحسه – قصصا أخرى متميّزة مبنى ومعنى، قصصا ترتاد عوالم مجهولة وتصطفي لغة بكرا وتوظف أساليب طريفة.

ملاحظة:
نشرت أقصوصة "وعد الحكة" لأبي النحس بـ"صوت الشعب" عدد 277، وبـ"الطريق الجديد" عدد 171 بتاريخ 13/19 مارس 2010

أبو العلاء
22 أفريل 2010



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني