الصفحة الأساسية > البديل الوطني > مباراة غير متكافئة
مباراة غير متكافئة
15 أيلول (سبتمبر) 2009

تستعد البلاد لاحتضان جولة جديدة قديمة من الانتخابات الرئاسية والتشريعية خلال شهر أكتوبر 2009. وتدل كل المؤشرات على أن هذه الجولة لن تختلف عن سابقتها، انتخابات 2004. فالوضع العام في البلاد متأزم ويسوده الاحتقان والتوتر والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية ما فتئت تتفاقم. ونسبة البطالة في ارتفاع متواصل والسلة لا تملك في جعبتها حلولا سوى القمع والتضيق على حركة المجتمع المدني وعلى الجمعيات المستقلة التي تحاصر وتمنع من حق النشاط المستقل رغم قانونيتها (الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، الاتحاد العام لطلبة تونس، جمعية القضاة الشرعية، نقابة الصحفيين...) وتمنع الأحزاب من تنظيم النشاطات والتظاهرات واستغلال الفضاءات العامة إلا في حالات استثنائية نادرة. وفي المقابل يُفتح المجال للحزب الحاكم والجمعيات التابعة له لاستغلال الفضاءات العامة والخاصة ووسائل الإعلام العمومية للترويج لسياساتها ومشاريعها والقيام بحملتها الانتخابية منذ سنتين أو أكثر بدءا بحملات مناشدة رئيس الدولة للترشح مجددا وانتهاء بالتعريف بـ"الانجازات التاريخية في مختلف الميادين". فكل الوسائل والإمكانيات بما في ذلك الجدران ووسائل النقل العمومية والخاصة وواجهات المحلات تُستخدم لخدمة "مشروع" 7 نوفمبر القائم على القمع والاستغلال والتبعية وتكريس الفوارق الطبقية والجهوية والذي يُقدم للرأي العام على أنه "تحوّل مبارك وحقوق إنسان ومساواة وديمقراطية وتعددية ورخاء اقتصادي ورفاه اجتماعي...".
هناك ضغط إعلامي رهيب (ماتراكاج) يُمارس على أبناء الشعب لإقناعهم زورا أو قسرا بأنه ليس في الإمكان أحسن مما هم عليه وأن أوضاعهم بخير وهم أفضل حالا على كل المستويات من نظرائهم في دول الجوار وهناك حلول سحرية في الأفق لبعض المشاكل المتعلقة بالتنمية والتشغيل و"التأهيل الديمقراطي" وأنه لا بديل عن التجمع الدستوري الديمقراطي الذي "حرر البلاد (اقرأ ربطها بالدول والمؤسسات الامبريالية النهّابة) ولا بديل عن مرشحه بن علي الذي "أنقذ البلاد من الانهيار" وسيتدعم ذلك من خلال نسبة النجاح التي "سيفوز" بها خلال مباراته مع مرشحي المعارضة الممنوعين من التعبير عن أنفسهم إلا في حدود ما تسمح به الدكتاتورية حتى لا تعلو أصواتهم ولا يجدوا من يستمع إليهم ويتعاطف معهم. إن أفضل المعارضين يُقدم عبر وسائل الإعلام على أنه "عديم الوطنية ويكرس اجندات خارجية ويستقوي بالخارج". وأن المعارضة "لا تملك بدائل"... وأنه مطروح عليها التذيل للدكتاتورية الحاكمة وتزكية برامجها واختياراتها اللاشعبية واللاوطنية مع إمكانية توجيه بعض النقود الخفيفة وتقديم بعض المقترحات من أجل إصلاح الأوضاع في حدود ما هو مرسوم سلفا (الانضباط لمتطلبات الديكور).

إن فكرة التداول على الحكم غائبة تماما عن ثقافة الدكتاتورية وغير مسموح لأي معارضة مهما كان لونها أن تصبح قادرة في يوم ن الأيام على فرض ثقافة التداول والحوار والاحتكام للشعب بصورة حقيقية. وعلى هذا الأساس وفي هذا السياق تـُنظم المباراة بين سلطة طليقة اليدين تقمع وتمنع وتـُشهر وتُفبرك وتجوّع وتربط البلاد بدوائر النهب الامبريالي معتمدة في ذلك على ترسانة من القوانين والمؤسسات الزجرية (قوانين الصحافة والجمعيات والأحزاب، البوليس السياسي، قضاء تابع...) وعلى سياسة شراء المعارضين وتوجيههم ضد بعضهم البعض وضمان مساندة القوى الخارجية أو على الأقل تحييدها بخدمة مشاريعها في المنطقة، وبين معارضة مقيدة اليدين والرجلين ملجمة وممنوعة من حق التعبير الحر عن ذاتها، جمهورها مبعد عن الحلبة لا حق له في المساندة، تقبل اللكمات ولا تقدر على الفعل أو حتى حماية نفها. إنها مباراة لا متكافئة ومعلومة النتائج مسبقا، مباراة طرفها الأول يملك كل شيء حتى إمكانيات التزوير الواسع وطرفها الثاني يُمنع من كل شيء حتى تسجيل أنصاره ضمن القوائم الانتخابية رغم أنهم مواطنون تونسيون لحما ودما.

إن المشاركة في هكذا انتخابات في مثل هذه الظروف وفي ظل القوانين الحالية (المجلة الانتخابية خاصة) هي بمثابة الجريمة السياسية في حق هذا الشعب لما توفره من غطاء للتزوير والتلاعب بإرادة الناخبين وتكريس للرشاوي السياسية (تخصيص 25 بالمائة من المقاعد للمعارضة مع تمتيع الأحزاب البرلمانية دون غيرها بمنحة..) وتمييع العملية الانتخابية برمتها حيث تـُقرأ المشاركة على أنها لهث وارء المصالح الخاصة بأي ثمن إضافة إلى الخدمات الجليلة التي ستوفرها للدكتاتورية بإعطائها شرعية هي في حاجة ماسة لها خاصة وأن الرئيس الحالي يترشح لهذه الانتخابات للمرة الخامسة على التوالي بعد أن نقـّح الدستور بما يفتح الباب أمام الرئاسة مدى الحياة.

إن الدكتاتورية في حاجة أكيدة إلى هذه الشرعية خاصة تجاه الرأي العام الخارجي حتى تدافع عن ديكورها الديمقراطي وتقدمه على أنه ديمقراطية كاملة الأوصاف والأركان: انتخابات ديمقراطية جرى فيها التنافس بين عدة أطراف، أفضت إلى برلمان تعددي وبرز حلالها التجمع الدستوري الديمقراطي بمثابة الطرف الأقوى والأفضل على الإطلاق والأجدر بقيادة البلاد... وستـُطنب وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة بالصوت والصورة في التهليل والمديح والتمجيد "لأبطال" تونس الجدد الذين كسبوا المباراة وحققوا فوزا ساحقا على أرضهم وأمام جمهورهم. أما "الضيوف فتعوظهم الخبرة والخطط والبرامج القادرة على إقناع الناخبين وينتظرهم عمل كبير للتدارك والعبرة بالمشاركة ولا بد من حد أدنى من الروح الرياضية لتقبل الهزيمة بصدر رحيب...

هكذا في تقديري ستطوى صفحة الانتخابات ليعيد التاريخ نفسه في شكل مهزلة وتتواصل هيمنة الحزب الحاكم على البلاد والعباد. لكن "الرئيس" المنتخب بنسبة عالية تفوق الـ90 بالمائة سيتدخل بما لديه من صلوحيات دستورية لتخفيف الضغط والاحتقان بتشغيل بعض حاملي الشهادات العليا وإطلاق سراح نشطاء الحركة الاحتجاجية بالحوض المنجمي موفرا للبيروقراطية النقابية متنفسا لتبرر تزكيتها لمرشح التجمع الدستوري الديمقراطي، وربما تمكين الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والاتحاد العام لطلبة تونس من إنجاز مؤتمريهما بعد أن استعصت على السلطة إمكانية تدجينهما مثلما فعلت مع جمعية القضاء الشرعية.

إن الأطراف السياسية والجمعوية والنقابات والشخصيات المؤمنة بعدم جدية هذه الانتخابات وبطابعها الشكلي والصوري مدعوة إلى تنسيق أعمالها حتى ولو اختلفت منطلقات مقاطعتها لهذه الانتخابات من أجل فضح الطابع المهزلي لهذه الانتخابات وإقناع أوسع الناس بضرورة مقاطعتها وإحداث فراغ حول صناديق الاقتراع. إن المسألة ليست ترفا سياسيا لكنها تتعلق بمصالح الشعب التونسي في التغيير الديمقراطي الضامن للحد الأدنى من العيش والاستقرار في دولة تضاف فيها حقوق المواطنة والحريات السياسية.

مراد الذويبي


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني