الصفحة الأساسية > البديل النقابي > منطلقات للنقاش
منطلقات للنقاش
شباط (فبراير) 2004

بقلم: مناضل نقابي يساري

من الأشياء التي تميزت به السنوات الأخيرة، أي منذ التسعينات تقريبا الخلط الفادح والشائع على أوسع نطاق في المفاهيم النقابية. ولعل هذا الخلط كان واحدا من الأسباب التي أدت إلى ما تشهده الحركة اليوم من تردٍّ عام، في مستوى المفاهيم والأداء والعلاقات. وإذا كانت البرجوازية قد تعمدت نشر هذا الخلط وتمويله فكريا وماديا باعتباره يخدم مصالحها الطبقية فإن التيارات والرموز النقابية الديمقراطية والتقدمية التي ناهضت لحقبة طويلة المفاهيم المعادية للعمل النقابي الثوري قد سقطت عن وعي أو غير وعي في ذلك الخلط حتى آلت أوضاعها إلى ما هي عليه اليوم. لذلك بات اليوم من الملحّ فتح النقاش مجددا لإعادة تأسيس الرؤية النقابية الثورية والتقدمية التي زرعها اليسار في الحركة النقابية وفي الاتحاد أساسا منذ أواخر السبعينات. وتشكل هذه الورقة بما ورد فيها من أفكار منطلقا للنقاش لإحياء مقدمات الرؤية النقابية الثورية من أجل بلورة توجه أولي سيكون من الضروري مزيد إثرائه وتدقيقه في محطات نضالية قادمة.

1) مبادئ العمل النقابي:

ظهر العمل النقابي كشكل من أشكال رفض العمال للاستغلال الرأسمالي. وهو شكل ابتدعه العمال بعدما جربوا أشكالا كثيرة من المواجهات الفردية والعفوية التي تبين عدم جدواها. فالعمل النقابي هو إذن واحد من أساليب المقاومة الطبقية. وقد انطلق بأشكال تنظيمية حرفية ورسم لنفسه أهدافا تتلخص أساسا في:

-  التخفيض في ساعات العمل وتحسين ظروف الشغل
-  الزيادة في الأجور وتحسين المقدرة الشرائية.

غير أن العمل النقابي شهد في فترات لاحقة أبعادا أخرى انضافت إلى بُعدِه الاقتصادي إذ أصبح رافدا لنضال الطبقة العاملة من أجل تحررها. وعلى امتداد عقود من النضال ظهرت مدارس ورؤى نقابية كثيرة ومتعددة يمكن تلخيصهما في قطبين اثنين:

-  مدرسة الوفاق والتعاون الطبقي
-  مدرسة النضال النقابي الثوري

وقد شكلت المدرسة الأولى الإطار الفكري لترويض نضال العمال حتى يظل مجرد عملية تجميليّة للنظام الرأسمالي أي أن يظل عملا إصلاحيا لا يتجاوز سقف ما تسمح به البرجوازية. ولتمرير هذا المفهوم درجت البرجوازية على ترويج عدد من المقولات مثل الحياد النقابي والنقابة المساهمة و"عدم تسييس العمل النقابي". وقد عملت البرجوازية لترويج هذه المقولات في صلب العمال وجرهم إلى تخريب الحركة من الداخل باستمالة قادة النقابات وتمكينهم من امتيازات خاصة ليلعبوا الدور المرسوم لهم. وقد كان دور الأرستقراطية العمالية المهيمنة على النقابات على غاية من الخطورة في تدجين المنظمات النقابية وتمييع الوعي الطبقي لدى القواعد العمالية. وكلما استعصى عليها مقاومة تأثير العناصر الثورية عمدت إما إلى طردهم بصورة تعسفية من هياكل منظماتهم النقابية أو إلى الانشقاق وبعث منظمات جديدة تحظى بدعم الأعراف وأرباب العمل والدولة البرجوازية.

ويمكن القول إن سطوة البورجوازية على النقابات العمالية قد ازدادت حدة مع هيمنة النزعة النيولبرالية على اقتصاديات البلدان الرأسمالية منذ ثمانينات القرن العشرين وانهيار الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفياتي سابقا في مطلع التسعينات وما ولده من روح انتصارية لدى أشد قطاعات البورجوازية الاحتكارية رجعية جعلتها تشدد هجومها على مكاسب الشغيلة العالمية وتعمل على مزيد إخضاع النقابات وتحويلها إلى مجرد أدوات تساعدها على تصريف أزمات النظام الرأسمالي وفرض خياراته على الطبقة العاملة مما أدى إلى مزيد تدهور ظروفها المادية والمعنوية.

ومن الملاحظ أن مدرسة الوفاق الطبقي قد سادت في الحركة النقابية التونسية منذ وصول حزب الدستور إلى الحكم وإقامته نظاما دكتاتوريا قمعيا يعادي حرية العمل النقابي واستقلاليته. ففي مجمل الفترات كان اتحاد الشغل أداة من أدوات تكريس هيمنة الدكتاتورية الدستورية على العمال. فكان الشعار الأساسي للبيروقراطية النقابية طوال الستينات ومعظم السبعينات "الحفاظ على الوحدة القومية" وعلى "السلم الاجتماعي". ومنذ أواخر الثمانينات ساد، مع وصول السحباني وبطانته إلى قيادة الاتحاد، مفهوم "النقابة المساهمة". وقد حاولت هذه الجماعة المعادية لمصالح الشغيلة تبرير تبني هذا المفهوم بـ"المتغيرات الدولية" وما تقتضيه من "حفاظ على المصلحة العليا للوطن" أمام "اشتداد المنافسة على الأسواق". وقد تكفلت الأيام بإظهار حقيقة هذه السياسة النقابية التي لا تزال تكرَّس إلى حد اليوم. والتي ليس لها من معنى غير التواطؤ مع الدكتاتورية النوفمبرية لفرض اختياراتها المعادية للشغيلة والشعب في مختلف الميادين (التفريط في المؤسسات العمومية، تسريح العمال، مرونة التشغيل والأجور وظروف العمل، خوصصة الصحة والتعليم، مراجعة التغطية الاجتماعية لصالح رأس المال، قمع الحريات السياسية، دعم الحكم الفردي المطلق لبن علي…) والدفاع عنها في الساحة الدولية.

أما المدرسة الثانية أي مدرسة النضال النقابي الثوري فهي تربط النضال اليومي للشغيلة من أجل تحسين ظروفها المادية والمعنوية باستراتيجية تحررها العام من نير الرأسمالية والبورجوازية. فهي لا ترفع المطالب الآنية بهدف بث الوهم حول إمكانية تحقيق طموحات العمال في النظام الرأسمالي وإنما لتعميق أزمته وإظهار حدوده وتوعية الشغيلة بضرورة تجاوزه. ومن هذا المنطلق فهي لا تلتزم الحياد إزاء القضايا الجوهرية للصراع الطبقي أو الوطني بل تسهم في حلها باعتبارها طرفا في ذلك الصراع. فالنقابات في الأنظمة الرأسمالية تربط نضالها اليومي بالنضال السياسي العام ضد البورجوازية ومن أجل الاشتراكية. وفي البلدان التابعة فهي تربط نضالها اليومي بالنضال العام من أجل التحرر الوطني والاستقلال من ناحية والديمقراطية والتحرر الاجتماعي من ناحية أخرى. ويعود الفضل إلى مدرسة النضال النقابي الثوري تاريخيا في تحقيق أهم المكاسب التي حصلت عليها الشغيلة وفي الإسهام في دك حصون الرأسمالية والرجعية في روسيا القيصرية وغيرها من البلدان عقب الحرب العالمية الأولى والثانية. وما من شك في أن هذه المدرسة تراجعت في الساحة الدولية مع سيادة مدرسة الوفاق الطبقي خصوصا بعد الانقلاب التحريفي في الاتحاد السوفياتي وبلدان أوروبا الشرقية. واشتد هذا التراجع مع سيادة الرأسمالية المتوحشة في بداية الثمانينات وسقوط الكتلة الشرقية في مطلع التسعينات وما صاحبها من هجوم إيديولوجي وسياسي على الاشتراكية والشيوعية وعلى كل ما هو تقدمي وثوري. ولكن افتضاح الطابع الرجعي المتفشست للنيوليبرالية ما انفك يدفع نحو إحياء المفاهيم الثورية للعمل النقابي وهو ما نلحظه من خلال تنامي الحركة العمالية في مختلف أنحاء العالم وخاصة في البلدان الرأسمالية المتقدمة (فرنسا، إسبانيا، إيطاليا…) وفي بلدان أمريكا اللاتينية وآسيا وهي تتجاوز بشكل ملحوظ الأطر التقليدية أي النقابات البيروقراطية.

وإذا كانت مدرسة النضال النقابي الثوري بقيت مهمشة نسبيا في تونس بالنظر إلى غطرسة الدكتاتورية وحليفتها البيروقراطية النقابية يمكن القول إن ما تحقق للشغيلة من مكاسب خلال العقود الثلاثة الأخيرة قد تحقق بالنضال وليس بالمهادنة.

2) مسالة الوحدة والتعددية النقابية:

طرحت منذ سنتين تقريبا قضية الوحدة النقابية والتعددية النقابية للنقاش دون أن تستوفي حظها منه كمًّا ونوعا. والحقيقة أن هذه المسألة ليست بالجديدة لا على الحركة النقابية العالمية ولا على الحركة النقابية في تونس. وقد لاحظنا من خلال النقاش الذي جرى (مقالات صحفية أساسا: رد مصطفى بن أحمد وعبيد البريكي وعبد الله بن سعد وثلاثتهم آنذاك أعضاء في المكتب التنفيذي لاتحاد الشغل على فكرة انبعاث الكنفدرالية الديمقراطية للشغل…) لاحظنا خلطا في المفاهيم وتنظيرا لأفكار ومسلمات مغلوطة ولا منطقية أحيانا.

من الدعايات الرائجة أن كل من يدعو إلى التعددية معاد للعمال ومصالحهم وأن كل من يدعو إلى بعث منظمة نقابية جديدة إنما هو مستهتر بتاريخ الحركة وبرصيدها وبروادها وأبطالها إلخ… وتتمحور هذه الدعاية في النهاية حول تقديس الوحدة ونبذ التعددية في المطلق. وهو ما يحيلنا في الحقيقة إلى التذكير ببعض الجوانب المبدئية والتكتيكية في النظر إلى هذه القضية.

ما من شك في أن الطبقة العاملة في حاجة إلى تكتيل صفوفها وقواها وتوحيد نضالها لمقاومة استغلال رأس المال. فالبرجوازية تمتلك كل أدوات الاستغلال والقهر، جهاز الدولة بكل فعالياته وأدواته، رأس المال المادي وأجهزة الدعاية والإعلام وتكوين الذهنيات العامة علاوة على البوليس والإدارة وطائفة أخرى من المؤسسات بما في ذلك النقابات الواقعة تحت تأثيرها عبر هيمنة الأرستقراطية العمالية عليها. وحينما يواجه العمال هذه الترسانة من الأدوات والأجهزة يظهر الاختلال الكبير في موازين القوى لصالح البرجوازية. ولا يبقى بأيديهم سوى إرادتهم ووعيهم وتصميمهم وموقعهم في عملية الإنتاج كمنتجين للثروة وبطبيعة الحال هم في حاجة ماسة إلى توحيد صفوفهم حتى تكون لهذه الأدوات التي هي في حوزتهم على قلتها الفاعلية المطلوبة لدحر العدو المدجج بالإمكانيات المادية والمعنوية. فوحدتهم عنصر حاسم بل مسألة مبدئية. غير أنه لا بد من النظر إلى مسألة انتظامهم في نقابة واحدة بنسبية حسب حاجتهم ومصلحة نضالهم في كل ظرف من الظروف.

لقد ابتدع العمال هذا الشكل من التنظيم –أي النقابة- ليس لمجرد الانتظام فقط وإنما كوسيلة لتوحيد نضالهم أي للنضال بفعالية ضد الاستغلال البرجوازي. أما إذا انقلب هذا التنظيم إلى أداة تخدم مصلحة البرجوازيين في نهاية المطاف لم يبق أمامهم إما هجرانه إلى شكل آخر وهو ما دعا إلى بعث الأحزاب العمالية أو إلى مواصلة النضال من أجل تنقية النقابة من تأثيرات البرجوازية وهو ما يجعل النقابات دوما مسرحا لصراع مرير يكاد لا ينتهي بين دعاة التعاون مع البرجوازية وبين المناضلين الثوريين.

فالثوريون لم يقبلوا بدخول النقابات حبا فيها وإنما باعتبارها فضاء ينظم الغالبية العظمى من العمال ويساعد على الاندماج بهم والعمل معهم من أجل تثوير مفاهيمهم وأفكارهم ورؤاهم لكسبهم للفكرة الثورية من جهة ولتنظيم نضالات تمكنهم من تحقيق مكاسب جديدة ولو جزئية. فكل انتصار ينطوي على درس معنوي وسياسي يجعل الجماهير تؤمن أكثر بطاقتها وبقدرتها على الانتصار وتتأكد من خلاله أكثر أنه بمقدورها تحقيق مكاسب أهم وأعمق، أكثرها عمقا وأهمية هو قلب موازين القوى ودك أركان دولة البرجوازية ونظامها.

فالنقابة هي أداة للنضال ولكنها أيضا مدرسة للتكوين وللتدرب على إدارة النضال، تدربُُ على الثورة في معاركها الجزئية والصغيرة والتمهيدية للمعارك الحاسمة.

إن الثوريين والشيوعيين بالخصوص يدخلون النقابات بهذه النظرة وبهذا القصد ويفنون الجهد والعمر من أجل هذا الهدف. ويعملون دوما على توحيد العمال لتسهيل مهمتهم. فالوحدة النضالية في جميع أبعادها بما في ذلك التنظيمية ضرورية ومهمة.

غير أن مجريات الصراع لا تجري دوما مثلما يشتهي الثوريون تماما. فرغم نواياهم الحسنة وتضحياتهم الجسام وعملهم الجبار قد لا يتوصلون إلى تحقيق هدفهم بل بالعكس من ذلك أحيانا يستمر تأثير الأرستقراطية العمالية فتحاصرهم وتفشل مسعاهم. ويذكر لنا التاريخ حملات طرد الشيوعيين من النقابات في أوروبا بل والتنكيل بهم (ألمانيا، بلغاريا، النمسا، هولندا، أنجلترا…) رغم التأثير الذي يحضون به في بعض المنظمات والقطاعات وفروع الإنتاج. لذلك يجدون أنفسهم أحيانا مضطرين إلى بعث منظمات أخرى لاستحالة مواصلة النضال في منظماتهم الأصلية. وفي هذه الحالة لا يمكن باسم التمسك بالوحدة شجب مثل هذا السلوك ومعارضته.

وفي حالات أخرى يتوصل الثوريون إلى قلب موازين القوى داخل المنظمة النقابية لصالحهم الأمر الذي لا يروق للبرجوازية داخل هذه النقابات فتوعز لأتباعها بالانشقاق وبعث منظمات جديدة لتشتيت صفوف العمال ومحاصرة النقابة الواقعة تحت تأثير الشيوعيين. وبطبيعة الحال تغدق على النقابات الموالية لها كل الامتيازات والتسهيلات والإمكانيات. وهو ما يجري في عديد البلدان (فرنسا، إيطاليا، إسبانيا). وحتى في تونس (تجربة الاتحاد الوطني وقبلها تجربة FOT).

فكما هو ملاحظ من المثالين المذكورين، فإن الانشقاق الذي سيؤدي لا محالة إلى تقسيم صفوف جماهير القواعد العمالية إنما أملته المصلحة الطبقية التي تصبح أمامها قضية الوحدة مسألة ثانوية. فلا يمكن أن نتصور مثلا (لو توفرت كل عوامل النجاح للانشقاق) أن يستمر المناضلون النقابيون الثوريون في العمل تحت لواء منظمة تدين من فوق إلى تحت باختيارات السحباني أو جراد. إذ هل من الصحيح أن نتمسك بالوحدة على قاعدة أرضية البيروقراطية النقابية ورموزها ومن أجل أهدافها المعلنة وغير المعلنة؟

وكما سبق قوله فإذا كان الثوريون لا يدخلون النقابات حبا فيها فإنهم أيضا حينما ينشقون عنها ويبعثون نقابات موازية فليس ذلك حبا في الانشقاق وإنما بحثا منهم عن فضاء يسمح لهم بتحقيق أهدافهم. فالانشقاق أو اللجوء إلى التعددية النقابية هادف وله ظروفه وشروطه إذا لم يحسن اختيارها يمكن أن تؤدي تلك التجربة إلى الفشل.

ومن أهم الشروط المطلوبة هي أن تفتضح سياسة أعوان البورجوازية (أرستقراطية عمالية، بيروقراطية نقابية) على أنها سياسة معادية للعمال ومتواطئة على المكشوف مع العدو الطبقي بما يمكّن المنشقين عنها من تبرير موقفهم ووضع العمال أمام الاختيار بين التوجه المعادي لهم وبين الرؤية الوفية لهم ولأهدافهم. ومن الشروط الضامنة لنجاح تجربة الانشقاق أن تعيش البيروقراطية الماسكة بالمنظمة أزمة. ذلك أنها في ظروف الأزمة تكون عاجزة عن تجديد طاقتها بسرعة وعن تدارك الوضع والالتفاف على وعي العمال. أما الشرط الثالث والهام فهو أن يوجد في صفوف القواعد العمالية قدر هام من القابلية والاستعداد للمضي قدما في الانشقاق ودعمه لأن أي انشقاق فوقي سيظل معزولا وفاشلا منذ ولادته.

ومما سبق يمكن القول إن وحدانية التنظيم النقابي أو التعددية ليستا مسألة مبدئية ولا هما اختيار مطلق بقدر ما هو اختيار محكوم بجملة من الشروط يجب تقديرها بصواب ودقة إذ أن المهم أن يساعد الحركة على التطور نحو الهدف المنشود: إضعاف العدو ثم الإجهاز عليه.

ويجدر بنا اليوم أن نعود إلى تقييم تجربة الانشقاق التي عرفتها الحركة النقابية في بلادنا مؤخرا بميلاد الكنفدرالية الديمقراطية للشغل حتى ننظر فيها بتمحيص وبصورة مبدئية بعيدا عن الذاتية وعن الأفكار المسبقة. إننا نعتبر كل الجوانب المضيئة في تاريخ الحركة النقابية التونسية وفي تاريخ الاتحاد إرثا يحق لنا الاعتزاز والتمسك به والدفاع عنه وكل الانحرافات والفترات السيئة من سلبيات تاريخنا حتى وإن لم نساهم فيها جزء من هذا الإرث.

وينبغي أن لا ندافع لا عن مجمل تجربة الاتحاد بغثها وسمينها ولا عن تجربة الكنفدرالية هكذا بصورة ذاتية وعاطفية. إن ما يعنينا في هذه وتلك من التجارب هو مدى انسجامها مع المبادئ ومدى تطابقها وخدمتها لمصلحة الطبقة العاملة.

وإذا كان لا ينبغي أن نتمسك بالعمل داخل اتحاد الشغل من منطلق "الدفاع عن المكاسب" حتى وإن تحول الاتحاد إلى جزء من ديكور النظام السياسي وإلى سند لسياسة الحكم في المجال الاجتماعي وهو ما جعل الدكتاتورية تدافع عنه وتحميه بدعوى "المصلحة العليا للبلاد"، لا ينبغي أيضا الارتماء في أحضان المجهول وتبني مشروع الكنفدرالية فقط لجدته أو لمجرد أنه يرفع شعارات تبهر الغاضبين من تجربة اتحاد الشغل. لا بد من النظر لهذا المشروع بتمام الجرأة والوضوح والشجاعة والمسؤولية. هل تجاوزت الكنفدرالية مساوئ تجربة الاتحاد؟ لا نعتقد ذلك. بل لا نعتقد أنها قادرة على ذلك في المستقبل القريب أو البعيد والأسباب موضوعية ولا تتعلق برغبة وأهواء أصحاب المشروع. وعلى هذا الأساس بات من الضروري التفكير في الوسائل والأشكال الكفيلة حقا بتطوير التيار النقابي الثوري والتقدمي في الحركة النقابية التونسية.

3) حول مسألة التحالفات اليوم: مع من؟ وضد من؟

إن التردي الذي أضحت عليه الحركة النقابية في السنوات الأخيرة أضر بجميع مكونات هذه الحركة، البيروقراطية والتيارات النقابية المعارضة والمنخرطين… ففي ظل الوهن العام الذي أصاب المنظمة لم يعد للبيروقراطية ذلك الوزن ولا الديناميك السابقين. وتفيد كل المعطيات والمؤشرات منذ اندلاع ملف إزاحة السحباني إلى اليوم أن البيروقراطية تعاني من عناصر ضعف وترهل كبيرة. فلولا دعم السلطة لها وضعف حركة المعارضة وبطبيعة الحال تأخر وعي القواعد وحركتهم لما كان بمقدورها اليوم أن تستمر على رأس المنظمة.

أما التيارات النقابية المعارضة واعني بها أساسا تيارات اليسار فقد كانت هي الأخرى أكبر ضحايا الأزمة. بعضها انحسر تأثيره ويكاد يندثر كتيار نقابي والبعض الآخر ازداد تفتتا إلى شيع جزء منها تحوّل إلى بيروقراطية ناشئة واندمج بالجهاز تماما وبعضها الآخر يتظاهر بالمعارضة ولكنه في الحقيقة منقسم بين طرف يلهث وراء المواقع ومستعد لتقديم كل التنازلات المطلوبة منه، وطرف يصارع من أجل الحفاظ على نقاوته. والبعض الآخر يكاد يتحوّل إلى تيار نقابوي يتحصن بالمواقع ويريد الحفاظ على قشرة ثورية. تصريحاته تتناقض وما يؤديه على الميدان. أما البقية المتبقية فقد تحولت إلى شتات من الذوات يتميزون بخطاب راديكالي لعل ما يفسره هو البقاء على هامش المواقع النقابية الرسمية.

ومن نافل القول أن لا طرف في كل هذه الأطراف بمقدوره اليوم الاضطلاع بالمهمة وحده في استنهاض الحركة والخروج بها من التردي الحاصل. هذه القناعة تبدو اليوم ظاهريا على الأقل قناعة مشتركة لدى كل أطراف اليسار. وتشتد الدعوات إلى الوحدة والتنسيق وما شابه ذلك كلما اقتربت المواعيد الانتخابية أكثر.

ونشهد اليوم ونحن على أبواب حملة تجديد النقابات الأساسية تكاثر دعوات الوحدة بين تيارات اليسار تنم في جانب منها على وعي بمدى تردي الأوضاع في ظل اهتراء الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمهنية للعمال من جهة تصاعد وتيرة عمل البدائل الرجعية المناهضة للقيادة البيروقراطية الحالية وخاصة جماعة "النقابيين الشرعيين" (جماعة السحباني).

4) كيف يمكن التعامل وبماذا يجب أن ننقاد؟

من واجبنا لا فقط الترحيب بفكرة توحيد اليسار حول حد أدنى نقابي في إطار جبهة عمل أو ما شابه ذلك وإنما أيضا العمل من مواقع مبدئية وأمامية في هذا الاتجاه منقادين في أحكامنا على الآخرين بشيء من التسامح في ما يتعلق بأخطائهم تجاهنا هذه الأخطاء التي يمكن تفسيرها بإرث العداء المتبادل والأخطاء التي قد نكون اقترفناها تجاههم وبالمزاحمة المشروعة من أجل افتكاك المواقع ولكن بتشدد في ما يتعلق بالموقف من:

أولا: الدكتاتورية واختياراتها وقراراتها ومخططاتها

ثانيا: البيروقراطية في نسختها الراهنة أو نسختها السابقة ومسؤوليتها في تخريب الحركة

ثالثا: الأطراف التي تدعي اليسارية والتي في نفس الوقت تلعب دورا تخريبيا من داخل الجهاز وبالتعاون مع البيروقراطية والدكتاتورية وتزايد على الحركة بالقشرة الثورية.

هذه قواعد الفرز الأولى التي على أساسها يمكن بلورة أرضية تتضمن جملة المنطلقات والأهداف النقابية البعيدة والمباشرة مع ضبط ميثاق سلوك ملموس يكون هو الحاسم في التصديق على ما يقع تبنيه من مواقف مبدئية عامة. ميثاق يجب أن يعكس درجة التزام جماعي لتسهيل المراقبة والنقد ولتدعيم الثقة بالعمل المشترك.

هذه إذن بعض الأفكار التي أطرحها للنقاش دون أن تكون بطبيعة الحال إطارا للتقيد به وإنما هي منطلق للحديث في ذات القضايا وفي غيرها من المداخل التي تطرحها أوضاع الحركة النقابية في بلادنا الآن.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني