الصفحة الأساسية > البديل الوطني > "الانتخابات" البلدية وبعدُ؟
"الانتخابات" البلدية وبعدُ؟
28 أيار (مايو) 2005

انتهت مهزلة البلديات التي أجرتها سلطة السابع من نوفمبر يوم 8 ماي الجاري دون مفاجآت. فقد استحوذ الحزب الحاكم على 94% من المقاعد بالمجالس البلدية (4098 مقعدا) واستولى بذلك على رئاسة كافة هذه المجالس التي يبلغ عددها 264 مجلسا. وقد ترك لأذياله من أحزاب الديكور الـ6% المتبقية من المقاعد (268 مقعدا) ليقتسموها، بل لتوزعها عليهم وزارة الداخلية، كل حسب درجة ولائه.

وقد حاول وزير الداخلية، رفيق الحاج قاسم، إضفاء مصداقية زائفة على هذه النتائج المزورة، بأن ادعى في الندوة الصحفيـة التي عقدها يوم 9 ماي الجاري، بأن نسبة المشاركة بلغت 82,75% بينما هي لم تتعدّ الـ10 أو الـ15% بسبب مقاطعة المواطنات والمواطنين غير المسبوقة لهذه المهزلة اقتناعا منهم بخلوها من أي رهان انتخابي.

ومن المعلوم أن بن علي لم يسمح بالمشاركة في هذه المهزلة الجديدة لغير قائمات حزبه أي "التجمع الدستوري الديمقراطي" وقائمات الأحزاب الإدارية أو أحزاب الديكور التي لا يتجاوز دورها إعطاء الدكتاتورية واجهة ديمقراطية وتشريع التزوير الذي تمارسه في كل عملية انتخابية مقابل بعض المنافع المادية التـي تقدّم إلى قياداتها في شكل مناصب أو أموال بعنوان "دعم الأحزاب البرلمانية". أما القائمات الخارجة عن السرب أو المشكوك في ولائها مثل قائمات "التحالف الديمقراطي من أجل المواطنة" فقد أسقطت جميعا بدعوى أنها لا تتوفر فيها الشروط القانونية.

وما من شك في أن هذا السلوك قد عرّى مرة أخرى الطبيعة اللاديمقراطية لنظام بن علي والطابع الديماغوجي لخطابه حول "الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان". كما بيّن عقلية الغطرسة التي تقوده إذ من الواضح أن الرسالة التي أٌرِيدَ إبلاغها إلى أصحاب القائمات المستقلة هي أن بن علي هو الذي يقرر في نهاية المطاف من يترشح ومن لا يترشح، ومن يفوز بمقاعد ومن لا يفوز وبالتالي فإن الطريق الوحيد إلى المجالس البلدية، لا هو القانون ولا هو صندوق الاقتراع، كما هو الحال في أي انتخابات حرة، وإنما هو الولاء لبن علي وكسب رضائه.

ولكن ليس هذا هو الاستخلاص الوحيد من سلوك بن علي ونظامه، فالاستخلاص الآخر الذي لا يقلّ أهمية عن الأول هو خطأ الذين يمعنون في الدعوة إلى المشاركة في هذه المهازل الانتخابية التي تقاطعها الغالبية من الشعب بدعوى أنهم يريدون "خوض معارك ميدانية" أو "الالتحام بقضايا المواطنين". فماذا جنوا من هذا الموقف الدغمائي، الجامد، الذي لا يراعي الظروف السياسية وموازين القوى التي تجري فيها الانتخابات إضافة إلى عدم امتلاكهم القدرة على التصدي ميدانيا للتزوير المنهجي والحيلولة دون أن تستخدم الدكتاتورية مشاركتهم في مهازلها لتشريعها وإعطائها طابعا تعدديا زائفا؟

إن "التحالف الديمقراطي من أجل المواطنة" مثلا لم يتمكن من إعداد 10 قوائم من بين الـ264 المطلوبة في كامل أنحاء البلاد إلا بشق الأنفس بسبب رفض معطم العناصر الديمقراطية في العاصمة وفي الجهات المشاركة في المهزلة. ثم إنه لما تقدم بتلك القائمات إلى السلطات المعنية أسقطتها جميعا، فلم يقدر التحالف على أكثر من عقد ندوة صحفية للتنديد بموقف السلطات وبـ"غياب المقومات الدنيا للمنافسة" واعتبار أن "المواطنات والمواطنين الذين حرموا من إمكانية إبداء رأيهم بحرية وسلب منهم حق الاختيار قد أصبحوا بهذا الشكل، غير معنيين بالاقتراع الصوري المبرمج ليوم 8 ماي 2005". وهكذا انتهت البلديات بالنسبة إلى "التحالف" قبل أن تقع.

إن ما لم يأخذه "التحالف"، وخاصة الأطراف الأكثر دفاعا فيه عن المشاركة "مهما كانت الظروف"، بعين الاعتبار، هو أن "المقومات الدنيا للمنافسة" وبالتالي حرمان المواطنات والمواطنين من الاختيار الحرّ، لم تغب في بلديات 8 ماي التي حرم هو من المشاركة فيها فحسب، بل كانت غائبة ايضا في رئاسية وتشريعية أكتوبر الماضي مع فارق وحيد هو أن السلطة أغلقت هذه المرة باب الترشح على الجميع، بينما هي كانت فتحته في المرة السابقة على البعض فقط مع مراقبتهم ومحاصرتهم في الحدود التي رسمتها، لحاجتها إلى تشريع ترشـّح بن علي غير الشرعي وغير المشروع وتمرير بقائه في الحكم مدى الحياة، ولحاجتها أيضا إلى تشريع استمرار هيمنة "التجمع" على الحياة العامة. وقد أخطأت بعض القوى السياسية حين قدمت مصالحها الحزبية الضيقة على المصلحة العامة للحركة الديمقراطية وانخرطت في اللعبة لتجد نفسها تشرّع لعبة محسومة مسبقا.

ومع ذلك فإن هذه القوى لم تستوعب الدرس ودعت مجددا إلى المشاركة في مهزلة البلديات في إطار "التحالف" الذي جمعها بقوى أخرى كان بعضها قاطع المهزلة السابقة. وبما أن بن علي ليس في حاجة هذه المرة إلى مشاركتها فقد أسقط جميع قائماتها فلم تقدر على أكثر من التنديد، بل لم تجرأ حتى على الدعوة إلى المقاطعة بعد أن وجدت نفسها رهينة المأزق الذي وضعت فيه وهو المراهنة على المشاركة ولا شيء غير المشاركة بدعوى أن المقاطعة موقف سلبي، فإذا بها تتخذ موقفا غاية في السلبية وهو الانسحاب والتصريح بـ"أن المواطنات والمواطنين غير معنيين بالاقتراع الصوري المبرمج ليوم 8 ماي 2005" وكأن طبيعة هذا الاقتراع كانت ستتغير لو شاركت فيه القائمات العشر لـ"التحالف"!

لقد اتضح مجددا استهانة بعض الأحزاب والقوى السياسية بغياب الشروط الدنيا لانتخابات حرة وهي الشروط التي تبرر المشاركة وتعطيها مغزى. كما اتضحت استهانتها بموازين القوى، إذ ما معنى المشاركة في مهزلة انتخابية إذا لم تكن للقوى المعنية القدرة على "تفجير" اللعبة من الداخل وإثارة أزمة سياسية وهو ما يقتضي وجود تعبئة شعبية لإسناد المشاركة والضغط على السلطة، وهو العنصر الذي كان مفقودا سواء في رئاسية وتشريعية أكتوبر الماضي أو في بلديات ماي الجاري بسبب المقاطعة السلبية لغالبية الناس لهاتين المهزلتين. ومن البديهي أنه من غير الممكن تغيير هذا الوضع في نصف شهر (بالنسبة إلى الرئاسية والتشريعية) أو الأسبوع (بالنسبة إلى البلديات) الذي تستغرقه "الحملة الانتخابية". فالمعارك الميدانية الحقيقية تسبق بعمل دؤوب يرفع من درجة وعي الشعب وتنظيمه حتى إذا جدت حادثة مهمة، أو حصلت أزمة، أو أجريت انتخابات كان الشعب مهيئا للحركة ولخوض المعركة، أما أن تعزف بعض القوى عن هذا العمل اليومي والدؤوب ولا تتذكر "المعارك الميدانية" إلا مرة كل خمس سنوات أي عندما يأتي موعد مهزلة انتخابية فإن ذلك لن يتركها إلا مهمشة تقوم بدور "الكمبارس" في المهازل التي تنظمها الدكتاتورية وتتحكم في فصولها من البداية إلى النهاية. ويتحول خطابها عن "المعارك" إلى مجرد غطاء لإخفاء حساباتها الضيقة، وبالتالي تخليها عن المعارك الحقيقية المفروض خوضها.

من هذا المنطلق دعا حزب العمال في أكتوبر الماضي وفي ماي الجاري إلى مقاطعة المهزلتين الانتخابيتين وفضحهما لمزيد عزل الدكتاتوية وحرمانها من أي فرصة لإضفاء طابع تعددي على مهازلها الانتخابية، والعمل تدريجيا على تحويل المقاطعة السلبية لغالبية الشعب لهذه المهازل إلى مقاطعة واعية، ومنظمة ونشطة وذلك من خلال عمل دؤوب تمتزج فيه أشكال النضال القانونية وغير القانونية، العلنية والسرية، ويكون محوره القضايا الحارقة السياسية والاجتماعية والثقافية التي تؤرق الجماهير الكادحة والشعبية.

ومهما يكن من أمر فقد انتهت اليوم مختلف المواعيد الانتخابية وكانت النتيجة مؤسسات رئاسية وتشريعية وبلدية صورية، وبالتالي نظاما سياسيا لا يتمتع بأية شرعية. وهذا النظام ما انفك يصعّد القمع السياسي ضد كل فئات الشعب وقوى المعارضة وينهك الجماهير الكادحة بالبطالة والتهميش وغلاء الأسعار والنهب والفساد الذي عمّ كافة الميادين كما ينهك الوطن بمزيد إغراقه في التبعية وهو ما تجلى أخيرا في دعوة مجرم الحرب أرييل شارون لزيارة تونس كخطوة نحو تنشيط التطبيع مع الكيان الصهيوني إرضاء للإدارة الأمريكية وخضوعا لشروطها.

فكيف ستواجه قوى المعارضة هذا الوضع؟ إن ما نأمله في حزب العمال هو أن تتحمل هذه القوى مسؤوليتهـا وتلتف حول مشروع مرحلي يهدف إلى وضع حد للدكتاتورية وإقامة نظام ديمقراطي في خدمة مصالح الشعب وحول خطة ملموسة تحوّل بنود هذا المشروع إلى ممارسة يومية بل التحام يومي بقضايا المواطنات والمواطنين. إن عقد ندوة وطنية لمناقشة مثل هذا المشروع بات أمرا ملحا. وإن إضاعة الوقت لن تستفيد منها سوى الدكتاتورية المتأزمة باطراد.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني