الصفحة الأساسية > البديل الوطني > الـــرديّــف.. مـسيـرة الخبــز والـدم...
أبُــو ذرّ يروي المسيرة:
الـــرديّــف.. مـسيـرة الخبــز والـدم...
حزيران (يونيو) 2008

يا من لعرضي هتك * * * فقدت شرعيّك

من رُبع قرن كئيب * * * لعنتُها طلعتك

أموالنا حلّ لك * * * فأملأ بها جُعبتك

نصف المشهد عيد الشغل، ونصفه الآخر عيد الدم..

احتفل أهالي الرديف بذكرى عيد الشغل في غرّة ماي، وعندما نقول الأهالي فنحن نقصد ذلك لأن الشغل أصبح مطلب الجميع، ولم تعد هذه الذكرى مُقتصرة على الطبقة الشغيلة ومنخرطي الإتحاد العام التونسي للشغل، وكان الاحتفال خارقا للعادة بجميع المقاييس، وكان عنوان الاحتفال في الـرديف: "يوم إطلاق الحُريّـات"، وبالفعل تكّلم الجميع من نقابيين وناشطين ومواطنين، وكان للضيوف حق الكلام في مدينة الثورة والأحلام، الكل تكلّم في النقابة والسياسة.. لعنوا النظام وجبروته.. فضحوا اللّص عمارة وسكوتـه.. تحدّثُوا عن غلاء الأسعار وسوء المعيشة.. وعن شباب يمتهن الخمـر والموت البطيء.. تحدّث الجميع عن وطـن يسُوسه قُطّاع الطرق ولصوص الليل.. تسـوسه عصابة من الفاسدين المُتنفّذين..
الجمع كان غفيرا.. وغفيـرا جـدّا.. حالـة نادرة من الوعي الثّـوري.. حالة نادرة من الوعـي الحاد بسوء الحـال وجسامة الاحتمال والمآل.. حـالة نادرة من الوعـي الجمـعي الذي يذوب فيه الأفـراد.. في مجتمع يُـعدُّ مُحافظا تخـرج نساؤه في الإعتصامات.. وتشارك في الاحتفالات لتعـلن إطلاق الحُريّـات.. لن نستطيع بعد اليوم أن نُلجـم نساءنا.. عن ماذا؟ عن الحُريّـة وحب النّصـر.. وأن نُلجم أفواهنـا.. عن ماذا؟ عن قـول الحقيقة المُـرّة.. الحقيقة الهاربـة من ذكريات الانتفاضات المنسيّة في الزمن الغابـر...

هـل سنعبُر من النّصر إلى القهر؟..

خوفي على هذا.. وخوفي على ذاك من نفسـه.. خـوفي على الرجـال لو نظروا لأنفسهم من خـلال أنفسهم.. خـوفي على الرجـال إذا اختـلفـوا حول أنفسهم.. خـوفي على سيّـد الكلمات لـو أصابتـه لعنـة الوهنـات أو حتى الرهانـات.. خـوفي عليه من خـوف يُولد صغيـرا لكنّـه يكبر ككـرة الثّلـج فيغدُو كبيـرا.. وكبيـرا جـدّا.. خوفـي على رجل كثُرت حساباتـه، فقلّت مغامراتـه.. البطولة تحتـاج كثيرا من المغامرات.. كثيـرا من المسافـات.. خوفي على رجل تداعت كُـؤوسُـه حتّـى غدا الـوعي لبُـوسـه.. لكـنّ هذه البلدة العتيدة لـم تغفـر للقواديـن عُهرهم.. ولن تغفر للخطوط ميلانها أو انحناءها قليلا قليـلا.. الرديف لا ترسُم إلاّ الخطوط المُستقيمـة.. في البلدة خـطّان مُتوازيان لا يلتقيان، خطُّ للـقيـادة وخطُّ للدّعـارة.. هذه البلدة ترى مُستقبلها أمامهـا جليّا دنيّا.. بلدة لا تنسى ولا تأسـى.. تذرف ولا تـأسـف..

خـوفي من شبـح قـادم من بعيد بعيـد.. يصنع الفُـرقـة ويخلُق الـوحـدة في النفوس.. تخرج الحيّات من جُحُـورها فتهتك أعراضها.. كالماء تسـري بين الثّنايـا، بين الحفايـا والعـرايـا.. العقرب في صحـرائي لا تمُوت وحـدها، لكنّها تلهتم جسدها ونفسـها.. السُّـوس يتسلّلُ إلى عظمنا.. بدأ ينخُرنا من الأعلى، على غيـر عاداتـه ترك الأسفـل.. هـل كـان أسفلنا هشّـا حتّـى يُتـرك مهجـورا.. أم كان أعـلانا مُشـرفا على بـوّابات الضعف والهـزيمة.. قدرا كان أم مـاذا كلّ هـذا؟..

لا أحـدا يستطيـع أن يُفكّـر مكاني بعد اليوم، وهـل هناك من يستطيع أن يضبط للحـركـة قانونا مُطلقا؟.. باسم السياسة يستأثرون بالحياة.. باسم التجـربة يرون ما لانرى.. نـراه قـريبا ويـرونه بعيـدا.. ليس هناك مكان لشمس الحريّة بعيدا عن هناك.. مللنا التفكيـر والتضحية بالـرجـال.. امتطيناهم في صحرائنا كالجمال، تعبنا وما نـزلنا.. أرهقتنا الرحلة على طـولها، وهواجس السقوط عن المطـايا مُضنيـة..

من سنُحارب؟ كلاب الليـل.. بقايا الذّيـل.. العسس والقواديـن.. أم حـزب لم ينس صفعـة الأهالي حين طردوا أمينه العام بالنّعـال، أو حين كسر الشباب هراوتـه الخشنـة.. لم تُمتنا غازاتُـه.. لم تُرهبنا قُـوّاتـه.. جاء ليُحاصرنا بالرجال والعتاد فـوجد نفسه مُحاصرا بأيادي لا شيء فيهـا سـوى المـاء والتـراب.. مازال في العُمر بقيّة.. مـازال في النضـال ألـف باب لم نُجـرّبـه.. مازالت لكم التحيّـة.. من كـان يُـدرك أنّ الـرجال سلكـوا دروب الأطفال.. الآن وعيت ما معنى أن تتعلّم الشعـوب من طفل الحجارة كيف يهزم جبّـارا عتـيّـا.. للظالميـن وجـه واحد مهما اختلفت أزمنتهم وأمكنتهم.. مللتُ خُـرافة الذبـابة التي تهـزم الفيل بالحيلـة.. لم تعُد تُضحكني، أصبحتُ أسخـر من نفسي وأنا أتقيأ خرافات العجائز..
ما حدث في الـرديف نصـر خارق لو أكلنا ثماره.. أجدادُنـا صنعوا التاريخ فتركوا لنا خُرافاتهم.. ومن هـذا النّصر نستطيع أن نتـرك لأطفالنا وأحفادنا أسـطـورة جـديدة قوامها النصر والمجد والحُـريّـة والكـرامـة.. كـل ذلك مُمكـن إذا....

... تجُوع الحُرّة ولا تـأكُـل بثـدييها...

المشهد لم يكتمل بعد.. في قفصة كما في تونس عصابات تستأثر بالسلطة، دخلنا عصر المليشيات وأُمراء الحُرُوب، بعد أن كنّا نتصوّر أنّنا تجاوزنا عصر الهمجيّة، في قفصة لدينا سمير جعجع آخر وهو عمارة العباسي، لديه من المال ما يشري به السواعد المفتولة والعصي الغليظة.. مُستوليا على مقرّ الإتحاد الجهوي للشغل بقفصة، واضعا الحواجز أمام بوّابته، مانـعا المناضلين من الدخول، أصبح مقر الإتحاد ضيعته ملكا وتمليكا.. غير بعيد يقف الجلاد محمد اليوسفي ليحمي تلك الميليشيات المأجورة.. الدائرة واسعة.. دائرة الفساد يجتمع فيها الكثير، هي سلسلة مُتـرابطة مُتوازية نقابيّـا وأمنيّـا: في الرديف إبراهيم الطبابي، وفيها المخبر "المُـتوكّل"، ، وفي قفصة عمارة العبّاسي وفيها أيضا الجلاد محمّد اليـوسفي ، وفي العاصمة علي رمضان وعبد السلام جراد وفيها أيضا ذاك الـذي يرانا ولا نراه.. أنا أخاف أن أنطـق باسمـه.. أنا أخاف قسوته، إنّـه الرّعـب والقتل الجنُـوني.. وأحيـانا الموت البطـيء..

مازال في العُمر بقيّة.. ومـازلنا ننـتظر الميتة الهنـيّـة... ليس بأيدينا، ولكن بأيدي تلك العصابات الشقيّـة...

المشهد لم يكتمل بعد.. يُحاكمون شباب الحركة.. حكم.. يحكُـم.. حُكُـومة.. ومحاكمة.. لن أتحدّث عن الذي حكـم ويحكم.. عن الذي سلّط وتسلّط دونما شرعيّة أو مشروعيّـة.. باسم الرب يجثم على رقابنا وباسم الشعب يُذبّح أبناءنا.. انتصبت المحكمـة لتحكم فينا وتُحاكم من خرج يطلب خبزا وكرامة.. هم ثمانية تاسعهم كلبُهم.. في ريعان الشّباب، هم جيل الإصلاح التربوي، كانوا يُراهنون على تكوين جيل فارع فكريّا وعاطفيّا، يسوقونه كالأغنام والأنعام، لكنّ من فراغه الفكري والسياسي استطاع أن يعي أنّ هذا النظام ظالم وجائـر، نسوا أن يغرسوا مكان السياسة الخوف والرّعب، فكان جيلا للتمرّد والانتفاضة والثورة.. لاتحكمه الضوابط أو المُحرّمات الموروثة.. شباب يقف في وجه الكلاب البوليسيّة دونما رهبة أو تردّد أو خوف.. يُعتقلون.. يُعـذّبُون.. وفي محكمة الزور يتحدّون القاضي، بل يسخـرون من عدالته الموهومـة، الوعي في أذهانهم بسيط.. وبسيط جدّا.. ليسوا سلفيّين أُصوليين، صحيح أنّهم يشربُـون، لكنّهم قبل المُحاكمة شـربوا مُرّ التهميش والإهمال.. القاضي مُرتبك وهو يُصدر أحكامه بالسجن على شباب الرديف.. مُرتبكُ جدّا.. من نظراتهم الحادّة الثّاقبة.. ومن سُخريّة الأقدار أو من وصمة العار.. أعوان البوليس مُرتبكون أيضا، يركضُـون كالمُهرّجين بين أروقة المحكمة المُحترمة جـدّا، يُسارعون بل يُسرّعُون الحكم ليرحلوا بخيرة شبابنا نحو زنازينهم الخبيثة.. مازال في العُمر بقيّة حتّى نرى عورة هذا النظام البائس..

المشهد لم يكتمل بعد.. ربّـمـا أقبل البـدر علينا.. فخامة الرئيس قرّر زيارة قفصة والقصرين.. الزيارة يلزمها الكثير من الترتيبات.. زيّـنُوا الجـامد والمُتحرّك، حتّى الأشجار تم طلاؤها ليُسلب منها لونها الطبيعي أو ربّما قطعوها حماية للسيّد الرئيس، والأهم أنّ الزيارة يلزمها تهدئة مُطلقة وإلاّ لن تتمّ الزيارة الموعُـودة.. يُريدونها مدن أشباح لا حراك فيها، فكان عليهم تخدير الناس مـدّة الزيارة.. ربّما لجئوا "للهروين" أو "الكوكايين" حتّى نخرج لاستقباله ونحن نضحك ونُصفّق بشدّة.. فرحا وابتهـاجا بالذي قد يأتي ولا يأتـي.. يقولون إنّ هذا الزّعيم لم يُفلح إلاّ في زيارة السّجُـون، ولذلك يحتاج أن يُحوّل كل المُـدن التي سيزورها إلى سـجُـون مُـؤقّتة.. وربّـما دائمة وأبديّة.. المُهم أنّ الزيارة بدأت تتلاشى بعد أن دخلت مدينة المتلوّي على الخط، خط الانتفاضة والمواجهة، ولذلك تحوّلت مدن قفصة إلى ثكنات للبوليس.. المعركة قادمة لا محالة.. ويقولون إن الزيارة مُهمّة لأن الزّعيم المُفدّى سيتخذ قرارات ثورية أشبه بالمُعجزات للنهوض بالبلاد والعباد..
المشهد لم يكتمل بعد.. الجمعة 6 جوان 2008، أُلغيت الزيارة الموعودة ليحلّ الرّصاص الحي بيننا قاتلا وقتيلا.. جاء الرّئيس كما وعدونا، ولكن جاء صيّادا للأطفال والشباب.. المشهد كان رحلة صيد وقنص.. طاردوا الشباب الهاربين في الجبال والسهول.. كانوا ماهرين وهم يقنصُون سبعة وعشرين شابّا.. سـال الدّم غزيرا مريرا..واحـد من الشباب اختارت الرصاصة قلبه لتُرديه.. قتيلا بلغة السّلطة، وشهيدا بلغة الشعب.. إنّه الشّهيد الحفناوي بن رضا مغزاوي.. بكيتُه لأنّني أعرف أنّني ما وفّيته.. قبلها لم أستطع أن أبكي الشهيد هشام بن جدّو علائمي الذي أحرقه بطش النظام بناره ليدفنوه ليلا..
لم يكفهم القتل بالرصاص ولكنّهم أمطروا البيوت بالغازات السّامة.. راحوا يدكُّون المنازل دكّا.. هشّمـوا الأبواب، اعتقلوا الشباب، ضربوهم وعـذّبوهم أمام أعين آبائهم وأمّهاتهم، واقتادوهم في حفلة التعذيب بين مخافر الرديف والمتلوي وقفصة.. الكل يضرب ويُنكّل.. القرار واضح: هذه القرية لا بُـدّ لها من درس في التّعذيب.. فرغـوا من حفلة الأحياء فانتقلوا إلى متاجر الفقراء.. خلعوا الأبواب، نهبوا الأموال، اللصوص سـرقوا ما في المتاجر نقدا وعينا.. أحرقوا السيّارات والدرّاجات.. القرار واضح: هذه القرية لا بُـدّ لها من درس في التخريب.. وخرّبوها دون أن يجعلوا أسافلها أعاليها، فالموت لا يحني قامات الرجال.. صورة بشعة للانتهاكات التي طالما تقزّزنا منها ونحن نشاهدها على التلفاز من فلسطين والعراق.. المشهد هذه المـرّة من الرديف التي رأت الأهوال، والوصف أعجز من المشاهدة، من الحيرة..

الجمعة ليلا، دخلت المدينة في ظلام دامس، قُطـع الماء والكهـرباء، واستغاث الأهالي نحو العالم بالنداء، وبدأت حفلة الاعتقالات بين المنازل والأحياء، من شارع لشارع كان الرّعب والموت يملآن القلوب والأجـواء، تركنا أمّ الشهيد حفناوي تنتحب وتبكي ابنها الوحيد حين كانت قوات البوليس تقتحم بيتا وتطلب من زوجة عاقر أن تُخرج ابنا لم تلده أبدا.. وإلى بيت آخـر يُبرز كلب بوليسيّ خصيتيه أمام النساء.. إلى آخر يُشهر مُسدّسه في وجه امرأة لكي تدلّه على مكان زوجها الهارب من جحيمهم.. أوقفوا عامل حضيرة في طريقه للعمل وأمطروه ضربا ولهوا، ثمّ حرقوا درّاجته الناريّه.. وغير بعيد كانوا يُحرقون سيارة بائسة لصاحبها البائس..

المشهد احتفاليّ جدّا عندما فرغوا من الاعتقالات ليلة الجمعة.. أخرجوا اللّحم من متاجر الجزاّرين بعد أن خلعوها، انتصبت موائد الشواء للكلاب البشريّة ليلتهموا اللّحم في ساحة السوق، ويُعذبوا الشباب في مخفر الشرطة.. يتداولون على اللحم واللحم، كلاب الدولة لا تُفرّق بين اللحم البشري واللحم الحيواني.. القرار واضح: كلّ شيء حولكم هو حلّ لكم، كلوا واشربوا وعذبُـوا..

دخـل الجيش.. الجيش وطني.. نحن لا نشك.. استغاث أهالي الرديف بجنوده يطلبون الحماية من كلاب نهشت لحمهم وعظمهم.. وانتظروه صباحا حتّى يبسط سيطرته ليُخلّص البلاد والعباد من بطش الكلاب البوليسيّة.. لكن.. لكنّنا أفقنا صبيحة السبت على مشهد غريب لم يحدث في العالم بأسره.. بلدة مقسومة بين بين الجيش والبوليس.. نصف طوارئ.. ضحكت من النصف ومن الأنصاف.. لم يعد هناك من يستطيع أن يفهم وأن يشرح ما يحصل لنا.. أعلن الجيش أنّه لم يعد يستطيع السيطرة على الكلاب وعلى الوضع، طلب من الأهالي ملازمة البيوت حتى يحفظوا ما تبقّى.. لم يكن هناك ما تبقّى ليُحافظوا عليه.. لازم الناس بيوتهم وتقاسموا رغيفا مرّا في الحلوق.. كيف يستسيغ الناس رغيفا بالدمّ والعصا..
مساء السبت، الساعة الخامسة.. تهادت الجموع من البيوت في صمت رهيب نحو منزل الشهيد الحفناوي بن رضا المغزاوي.. تحدّت الحصار، يئست السلطة حين فكّرت في دفنه ليلا.. الناس قرّروا أن تكون الجنازة في قامة جبال الرديف الشّامخة، لائقة بالشهيد وعظمته.. سيلان من البشر بتعداد الحجر، تجمّعوا حول البيت والطرق المؤدّية نحوه، ومن عجز عن الوصول لبيت الشهيد كان في المقبرة ينتظره، وخرجت الجنازة المسيرة بزغاريد النساء، وشعارات الرجال: يا شهيد ارتاح ارتاح، سنواصل الكفاح.. كان الغضب شديدا لجمهور فاق العشرين ألف خرجوا يُودّعون شهيدهم رغم الحصار والمطاردات.

في المساء أطلّ علينا مُهرّج السلطان: برهان بسيّس خطيبا حكيما كما كان.. كان في الجامعة (كلية 9 أفريل) يُحدّثنا عن الأعرابي الذي يُصلّي الصبح وراء علي بن أبي طالب بالكوفة، وفي المساء يتناول العشاء مع مُعاوية بن أبي سُفيان في دمشق، ولمّا سُـئـل عن هذا النفاق أجابهم: إنّ الصـلاة وراء عـلـي أقـوم والأكل مع مُعـاويـة أدسم.. لقد فهم اللّعبة الفكرة، فانتقل إلى الصف الآخر دون أن يُناور.. لكن ليتـه كان يشارك السلطان أكله، فهذا البرهان الذي لا يملك البرهان يتغذّى من بقايا موائد السلطان.. الغريب أنّه من فضلات أسياده أصبحت له أوراك وأرداف ووجه يقطُر زيتا وزيتونا.. الملعون خرج علينا ليُعلن أنّ شباب الرديف يصنعون "كوكتال مولوتوف؟".. الحمد للّه أنّه لم يتّهمنا بالنووي والجرثومي؟؟ وليس غريبا عليه وهو الذي يُتقن اللّعب بالكلمات والمُفردات أن يُجرّم شعبا بأكمله.. والغريب أيضا أنّه لم يجد تفسيرا لارتباكه حين اعترف أنّ الحركة شعبيّة أهليّة تُطالب بالشغل والخبز..

وأطلّ علينا المُهرّج الآخر، الملعون أبو بكر الصغيّر صاحب مجلّة "الملاحظ"، وليته لاحظ ركاكة التفسير والتأويل، عفوا فأمثاله لا يعرفون التأويل والتفسير، لكنّه يُتقن فنون "التبنديـر في زمن التّغيير"، هو يعرف جيّـدا أنّ المرأة إذا سقطت أصبحت مُومسا وأنّ الرجل إذا سقط أصبح بنديرا، وغالبا عند أسياده حقيرا، لا هو منهم ولا هو منّا.. أسفي عليهم من أنفسهم وأسفي على نفسي منهـم..

صبيحة الأحد، فرغت آلة القـمـع من الأموات لتّتجه صوب الأحياء عبر الأحياء، يطاردونهم صباحا ومساء.. كانوا بالسيارات البوليسيّة والدراجات في مشهـد ليس بعيد عن العصابات الأمريكيّة أو رعاة البقر الهمجيّين.. أمسكوا بالشباب عذّبوهم في الشوارع وفي المخافر.. تندّر البعض بالنكتة حين قال أحدهم: قدّم النظام التونسي طلبا رسميّا لتسوّغ سجن غوانتنامو بعد أن ضاقت سجونه.. هرب الشباب نحو الجبال والصحاري فلاحقتهم آلة القمع والاعتقال والتعذيب.. لم يسلم من الاعتقال حتى جرحى رصاصهم الحي، من المستشفى يُنقلون إلى التحقيق والتعذيب.. يمنعون عنهم الزيارة.. إنّهم عند النظام أسرى حرب، حرب غير متكافئة، حرب يشنّها نظام يملك كل أدوات القمع على شعب أعزل خرج يطلب خُبزا وكرامة، ولم يتجاسر بعدُ لطلب الحريّة والمواطنة.. حلم بعيد لشعب عنيد..

أسبـوع كامل من الحصار والتجويع وحظر التجوال.. أسبوع كامل من المطاردات والاعتقالات والمداهمات.. النساء في رعب وخوف.. الأطفال ناموا وما ناموا، بالدمع يجتازون الامتحانات علّها تمنحهم فرصة للحياة.. العصابات البوليسيّة تمرح في شوارع مدينتي الجميلة.. القرار واضح: هذه القرية يلزمها درس في التأديب، لأنّها كفرت بالنعمة فحلّت عليها النقمة.. هذه القرية تجاسرت على أسيادها ورفضت القهر لتكشف ما في النظام من عُهر.. وحتّى لا تكـون نموذجا لغيرها من القُرى والمُدن يلزمها العصا الغليظة والسواعد المفتولة..

في الجهة المقابلة انتصبت المحكمة الوجه الآخـر للعدل الجائر والظلم القاهر، ليقف القاضي بمهارة البوليس في حيرة بين الإدانة والبراءة.. بين التعظيم والتّجـريم.. حكم المسكين ولم يدري أنّه يُحاكم من أمره بالحُكم.. مازال في العمر بقيّة.. أكثـر من ستّين مُحاميا كانوا على موعد مع المُحاكمة.. منعوهم من زيارة الرديف ليقفوا على جرائمهم.. تعوّد المُحامون على بُؤس العدالة الوطنيّة لكنّهم صمدوا في وجه الجلاّدين.. هم لن يُعيدوا الحياة إلى هشام أو حفناوي، ولكنّهم أرادوا أن يكونوا شُهودا على الجـريمة التي تُرتكب ضدّ جيل بأكمله.. مكانهم مقاعد الجامعة والمعامل والمصانع.. وليس زنزانات التوقيف والسجون الخبيثة..

أكتب لكم من الرديف بالعين المجرّدة.. وخلفي أو حولي الكلاب البوليسيّة تُطارد الشباب بين الأحياء والشوارع والمنازل.. في الجبال والصحاري والسهول.. والمدينة محاصرة من كلّ الاتجاهات.. ومازالت المسيرة مُستـمرة لأنّ رغيف الخُبز ثمين...

هذا النظام ميّت منذ أمد بعيد.. حـتى النبي عيسى يعجز عن إعـادة الحياة لجـثّته المُتعفّنة...



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني