الصفحة الأساسية > البديل الوطني > المعلمون والأساتذة يدقـّون نواقيس الخطر
إضرابات ناجحة في التعليم:
المعلمون والأساتذة يدقـّون نواقيس الخطر
نيسان (أبريل) 2007

شنت، كما هو معلوم، قطاعات التعليم الثلاثة، الأساسي والثانوي والعالي إضرابا عن العمل لمدة يوم واحد (5 أفريل للعالي، و11 للأساسي والثانوي). وبينت نقابات هذه القطاعات، في ندوة صحفية مشتركة عقدتها قبل الإضراب، أن لجوءها إلى هذا الشكل الاحتجاجي يعود إلى تردي أوضاع منظوريها المادية والمعنوية وعدم التزام وزارتي الإشراف بتعهداتها الناجمة عن مفاوضات سابقة والانفراد بالقرار والتسيير وعدم تشريك أهل القطاع في إعداد التصورات والخيارات والبرامج التربوية علاوة على الإمعان في انتهاك حرية العمل النقابي بالمؤسسات التعليمية ومحاولة فرض أطر (مجالس المؤسسات) على الأساتذة (الثانوي) بديلة للأطر الممثلة ومواصلة رفض وزارة التعليم العالي التعامل مع النقابة العامة التي انتخبها الأساتذة والتشكيك في تمثيليتها لتستمر في الانفراد بالقرار.

وما هذا الذي تطرحه النقابات إلا وجه من أوجه تأزم التعليم في تونس. أما الأوجه الأخرى فتهمّ الظروف المتردية التي يدرس فيها التلاميذ والطلبة والبرامج المرتجلة التي يتلقونها وانسداد الآفاق الذي ينتظرهم بعد التخرج. وفي ما عدا السلطة فإن كل الأطراف من تلاميذ وطلبة وأساتذة وأولياء، وجمعيات ونقابات وأحزاب مجْمِعة اليوم على أن التعليم في بلادنا انهار انهيارا شديدا وأن المكتسبات الجزئية التي تحققت في وقت من الأوقات بفضل مجهود التونسيات والتونسيين بصدد التلاشي. والسبب في ذلك أن نظام بن علي، أخضع قطاع التعليم، تحت ضغط المؤسسات المالية الدولية النهابة، إلـــى قواعد "اقتصاد السوق" الهدامة، فقلص نفقات الدولة في هذا القطاع وفتحه أمام الرأسمال وأخضع تكوين الشُّعب ومحتوى البرامج للحاجات المباشرة لـ"السوق" وهي حاجات متقلبة من ناحية ولا تقتضي كفاءات عالية بالنظر إلى طبيعة المؤسسات القائمة من ناحية ثانية ولا ديدن لها إلا الربح من ناحية ثالثة. كما أهمل قطاع البحث العلمي ونزلت الدولة بانتداباتها من خريجي الجامعة إلى مستوياتها الدنيا وأصبح عشرات الآلاف من أصحاب الشهائد العليا معطّلين عن العمل.

وإلى ذلك تعاني المؤسسات التربوية إلى جانب "آفة" السوق من آفة أخرى هي آفة الاستبداد. فـ"المشاريع" و"الإصلاحات" المملاة دائما من الخارج، تفرض فرضا دون استشارة المعنيين مباشرة ودون نقاشها شعبيا للوقوف على مدى ملاءمتها للمصلحة الوطنية. والتلاميذ والطلبة محرومون من أبسط حقوقهم بما فيها الحق في التنظّم وفي النشاط الفكري والسياسي والثقافي الحرّ وهم يخضعون للمراقبة المباشرة لأعوان الإدارة والبوليس وعرضة للاعتقالات والمحاكمات والطرد. ولا يسمح للمعلمين والأساتذة بحرية النشاط النقابي، علما وأن معظم الفضاءات الثقافية بالمؤسسات التربوية أغلقت. وعلاوة على ذلك تمت مراجعة البرامج التعليمية لـ"تطهيرها" من كل ما من شأنه أن يطور الروح النقدية لدى الناشئة. ولتشديد المراقبة على أساتذة التعليم العالي عمدت السلطة إلى التضييق على هؤلاء في اختيار المواد والبرامج التي يدرسونها وتحويلهم إلى ملقنين عوض أن تكون مهمتهم تعويد الطلبة على البحث. كما أخضعت نشاطهم الأكاديمي لمراقبة أمنية وإدارية صارمة.

كل هذه العوامل مجمّعة أدت إلى تدني مستوى التعليم في كافة المراحل وتحويل الجامعة إلى مؤسسات لتخريج العاطلين عن العمل. كما أدت إلى عزوف الناشئة عن كسب المعرفة وتعلم البحث واللهث وراء "الشهادة" حتى إن تطلب ذلك اللجوء إلى الغش أو الإرشاء أو غير ذلك من الأساليب اللاأخلاقية التـي أصبحت حديث الناس في كافة الجهات. وبهذه الصورة خارت ركيزة أساسية من ركائز بناء المجتمع. وهي ليست الوحيدة التـــي تعرف مثل هذا المصير، فكل الركائز في مجتمعنا وبلادنا تنهار: الاقتصاد والسياسة والثقافة والأخلاق إلخ... ولكن التعليم ليس ككل الركائز ذلك أن لانهياره انعكاسا سلبيا على أجيال كاملة. فهو مستقبل بلد، ومستقبل شعب، وركيزة استراتيجية لنهوضهما والحفاظ على هويتهما، فكما تكون المدرسة، يكون المجتمع، وحين يُدمّر التعليم، كما هو حاصل في بلادنا، فإن بلدا وشعبا يدمران، تتعرض هويتهما للاضمحلال، ويفقدان القدرة على إنتاج المعرفة، ويرهنان مستقبلهما بأيدي القوى الامبريالية.

إن تغيير أوضاع التعليم في تونس هو جزء من التغيير العام والجذري الذي تتطلبه أوضاع البلاد على كافة مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ولا يمكن لأي مشروع تغيير أن ينال رضاء الشعب إلا إذا ربط بين كافة هذه المستويات. فالتعليم لا يمكن أن يكون وطنيا، عموميا، ديمقراطيا (إلزاميا ومجانيا في كافة المستويات) وشعبيا، يستجيب لمقتضيات النهوض بالبلاد وإخراجها من التخلف وتخليصها من سيطرة الشركات والمؤسسات والدول الأجنبية ومن نهب الأقلية الفاسدة المحلية، إلا إذا اندرج ضمن رؤية استراتيجية عامة. وإذا كان لهذه النظرة أن تقود كل مشروع لتغيير واقع التعليم في بلادنا، فإن كافة الأطراف الفاعلة في الميدان، من تلاميذ وطلبة ومعلمين وأساتذة، وكذلك كل الأطراف المعنية بالمسألة أي كل الجمعيات والمنظمات والهيئات والأحزاب الديمقراطية، باعتبار الطابع الوطني لقضية التعليم، مدعوة إلى التحرك مباشرة لإيقاف النزيف وفرض إصلاحات على نظام الحكم سواء في مستوى الاختيارات أو في مستوى أساليب التسيير أو في مستوى ظروف الدراسة والعمل. إن تحرك قطاعات التعليم الثلاثة في نفس الوقت يمثل علامة وعي مهمة بخطورة الأوضاع وهو ما كنا نادينا به في السنة الفارطة على صفحات هذه الجريدة. والجميع يأمل أن يتواصل التنسيق بين النقابات الثلاثة، وأن توجد هذه النقابات صلة بالتلاميذ والطلبة والأولياء من أجل تعبئة الجميع ضد تدمير التعليم في بلادنا إن هذا الأمر يتطلب وعيا وطنيا حادا، ولا نخال تونس خويت روحها وفقدت ذاتيتها حتى لا يهبّ بناتها وأبناؤها للدفاع عن مصيرهم !



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني