الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > الوصيـــــة.. !
الوصيـــــة.. !
تشرين الثاني (نوفمبر) 2008

فتح عينيه بتثاقل، حاول أن ينهض من كرسي لم يبارحه منذ ساعات عديدة لكنه لم يفلح، فيداه مازالتا مقيدتين إلى الكرسي الحديدي المثبت بالأرض. أجال بصره في الغرفة لكنه لم يتبين شيئا، أحس بالوحشة والخوف وزاد الظلام الحالك والأصوات المبهمة من وحشته... أنفاس حارة تلامس وجهه وتبتعد كأنها تستفزه في صمت. تخيل نفسه في قاع بئر عميق وحوله مئات الأفاعي تلفحه بأنفاسها الحارة، ترهقه بأصوات حفيفها وتثبته في مكانه بأجسادها الخشنة الملتهبة، تتحين لحظة ضعفه واستسلامه لليأس لتغرس أنيابها في جسده الحامي العرقان... صار يراها أمامه من خلال الظلام الدامس، يميز أصواتها، يسمع همساتها ويرى الشرر المتطاير من أعينها... أراد أن يقف مرة أخرى لكنه فشل، صرخ بأعلى صوته فتاه صوته المختنق وسط الأصوات العديدة المنبعثة من كل مكان، افتقد الإحساس بالزمان والمكان صار كمن ألقي وسط الفراغ، لم تفارقه وسط هاته المحن سوى صور رفاقه مشوشة وخيالها مبتسمة... أرخى جسده المنهك المثخن بالجراح وأغمض عينيه بغية أن ينام مرة أخرى فيفيق من هذا الكابوس ليجد نفسه في فراشه ويجدها نائمة على صدره فيملأ رئتيه بعبيرها ويلهو بخصلات شعرها بين يديه...

فجأة فـُتح الباب، دخل رجل أشعث الشعر، قبيح الخلقة، وقف أمام مكتب عريض وخاطب الجالس قبالته بصوت مرتعش:

-  سيٍٍٍٍِِِِِِِِِِِدي

رفع رأسه وسوى نظارته، نظر إليه من خلف النظارة وسأله:

- أسرع ماذا تريد؟ ماذا فعلتم مع ذاك المسمى... هل أجبرتموه على التحدث أم فشلتم كالمرات السابقة؟
أخفض بصره، طأطأ رأسه وأجابه بخوف شديد:

-  سيدي لقد فعلنا كما أمرتنا. حبسناه ثلاثة أيام متتالية في غرفة مظلمة... لقد طبقنا أوامرك بحذافيرها...

قاطعه:

- وماذا بعد؟ أتظنني أهتم لما فعلتم به ؟ ما تهمني هي النتائج، هل تكلم؟
- سيدي لقد أخرجناه فخيل إلينا أنه جن لأول وهلة، كان يصرخ بأعلى صوته: أتركوني لا تنفثوا سمومكم في جسدي...

قاطعه وقد استشاط غضبا: - ألم تفهم يا ابن الكلبة؟ ما همي أنا إن جن أو احترق أو انفجر... ما يهمني هو هل تكلم هل اعترف؟؟؟

-  كلا يا سيدي... لقد نقلناه إلى غرفة أخرى وما إن جلس حتى تلاشى جنونه ورفض الإفصاح عن أي معلومة مرة أخرى...

حمله شخصان من مكانه وأدخلاه غرفة أخرى، أجلساه قبالة ضوء ساطع لم يحتمله فأغمض عينيه. تتالت عليه الأسئلة واللكمات من كل مكان فلم يدري ماذا يفعل أو ماذا يجب أن يقول؟ شرد ذهنه لبرهة من الزمن تساءل من أكون؟ وماذا أفعل في هذا المكان الموحش البارد المقفر؟ فجأة تراءت له صور رفاقه كما اعتادهم وطيفها القادم من بعيد تبتسم حاملة بين ذراعيها رضيعا صغيرا... أفاقته لكمة موجعة من حلمه اللذيذ، عادت إلى محياه ابتسامته الماكرة وراح يحدث نفسه:

-  يا لكم من أغبياء، لن تقدروا على هزيمتي ما دامت ذكرى رفاقي محفورة في ذاكرتي، ما دامت أصواتهم تعلوا لتخرس صوتكم المخيف، ما دامت أحلامنا تنير دروبنا وتدحر هاته الظلمات التي تزرعونها في نفوسنا...

تناسى آلامه المبرحة وابتسم، تمنى أن يتوقف عن التفكير خيفة أن يفكر بصوت عال فيسمع المتوحشون صوت تفكيره. كان كلما تلقى صفعة أو لكمة ازداد ابتسامه وازداد إصرارا على الصمت... لسنا كائنات خرافية ولكننا نذرنا أجسادنا وأرواحنا قربانا لهذا الوطن وكلما ازداد بطشكم تضاعفت عزيمتنا وازداد عشقنا وحبنا الخرافي لهذا الوطن...

ضرب بكفيه المكتب وراح يجول في المكان جيئة وذهابا، يضرب كفا بكف كمن يدبر مكيدة. فجأة التفت إلى الرجل المتسمر أمامه، نظر إليه والشرر يتطاير من عينيه، توقف وخاطبه زاجرا:

- أي إنسان هذا؟ لقد ضبط متلبسا ومعه عدد من المناشير وحقيبة مليئة جرائد ومع ذلك فقد أنكر أي صلة له بالتنظيم وكلما عذبناه أكثر ازداد إصراره وعناده، لم يتكلم كثيرا ولكنه كلما تحدث زاد يقيننا أنه عنصر قيادي لكنه قاوم ورفض الإفصاح عن أية معلومة تفيدنا. أحضروه إلى مكتبي أظنني أعرف كيف سأجبره على الحديث. آه لو كان الأمر بيدي لاقتلعت عينيه وقلبه وألقيت جثته للكلاب السائبة كي تنهشها. اجلبوه إلي حالا فيجب أن أستنطقه قبل نهاية هذا اليوم...

حمله اثنان. عبرا ممرا واتجها ناحية باب في آخر الردهة. ما إن دخل الغرفة حتى أحس بتغير الأجواء، غابت الروائح الكريهة النتنة، الأصوات المبهمة والظلام الداكن وعم المكان سكون قاتل. أجلساه فوق كرسي مريح، جلس قبالته رجل في متوسط العمر بدت عليه علامات الوقار وعلت محياه ابتسامة ماكرة. أمر الرجل الآخرين بالانصراف، وقف وتقدم نحوه، أشعل سيجارة وناوله أخرى لكنه تجاهله، جذب كرسيا وجلس قريبا منه. نظر إليه وقال:

- آسف لما حدث ولكنك تعرف أنهم أغبياء، إنهم لا يفقهون شيئا. لقد أمرتهم بحسن معاملتك فانظر ماذا فعلوا بك، سحقا لهم!!!...
ابتسم كعادته ونظر إلى الرجل باحتقار! ماذا يريد هذا الحقير؟ هل يظن أنه يستطيع خداعي بهاته الكلمات المنمقة الخادعة... ؟ ترى ماذا يبغي من هذا الحديث غير المعهود وهذا اللطف والكرم المفاجئين؟ جالت هذه الأفكار في رأسه لكنه لم يسعفه طويلا فخاطبه وقد علت صوته نبرات المكر والخديعة:

- أنا أعلم أنك رجل رصين وشديد البأس وأنهم لن يفلحوا في استنطاقك ولو قتلوك وأحرقوا جسدك وأنت على قيد الحياة... ولذلك فقد أحضرتك إلى هنا لنتحدث قليلا واعلم أنني لن اخبر أحدا بفحوى حديثنا هذا...

أجل لن تخبر أحدا أنا أعلم ما تخفيه خلف هذا الوقار وهذه الطيبة الزائفة، إنك تخفي وحشا سيكشر عن أنيابه في أية لحظة. سحقا لكم فلتحرقوا جسدي وترموني في الزبل لكنني لن أتكلم...

- أنت تعلم أن زوجتك وضعت مولودا منذ أيام وأظنك تشتاق إليه وتشتاق إليها فلتكن متعاونا وسأخلي سبيلك عصر هذا اليوم...

أجل أشتاق إليها وأحن إلى ولدي ولكن ما لا تعلمه أن ما يزيد من عزيمتي وإصراري ليس سوى ذاك الوليد وتلك المرأة... ويقيني أن رفاقي لا يتوانون لحظة في التضحية بأرواحهم من أجل مبادئنا وأهدافنا السامية...

- كن عاقلا وأجب عن أسئلتي وكن ولو للحظة أنانيا وفكر مليا في مصلحتك ومصلحة ذاك الصغير فما ذنبه ليعيش يتيم الأب، تذكر والدتك المسنة وارأف بحالها... تذكر لوعة زوجتك وهي ترى ابنكما بدون أب...

يا لك من ماكر مخادع أتعتقد أنك ستدفعني للحديث بكلامك هذا؟ صحيح أنني أتمنى أن أحمل ولدي بين يدي أن أقبلها وأمسح شعرها، أن أجثو على ركبتي وأقبل يد أمي... ولكن ليس كل هذا أثمن من وطني...

انتصب الرجل واقفا أشعل سيجارة أخرى ورمقه بنظرة مستنكرة حاقدة، لم يتحرك ظل ساكنا لكنه ابتسم كمن يحتقر هذا الوحش القابع أمامه. كمن يقول له مهْما فعلت ومهما قلت فلن تصيب مني شيئا، أنـــا أعلم نواياك أعرف شديد المعرفة ما تخفيه خلف قناعك...

برهة وتلاشت تلك الابتسامة الماكرة وحل محلها غضب وحقد عارم، انطفأت تلك النظرة الحنونة واشتعلت نظرة متوحشة جحودة... اقترب منه وقد أحضر معه رزمة أوراق، ألقاها أمامه وقال ساخطا:

- أظنك لن تفهم... أجل.... هيا أخبرني من أجل من تضحي من اجل وطنك فعن أي وطن تتحدث وبأي عالم تحلم هاه !؟؟؟ أتضحي من أجل رفاقك، تفحص الأوراق التي أمامك وأخبرني إن وجدت اسمك ولو عبثا...أين هم رفاقك هل تناسوك بسرعة أم أنهم فقدوا الأمل في أن تظل صلبا وتلتزم الصمت وتتحمل كل هذا التعذيب وحدك، أخبرني من غيرك يتحمل كل هذا؟من؟ أتدري من وشى بمكانك لنا أتدري؟ إنه أحد رفاقك...

تذكر رفاقه، تذكر جلساتهم ونقاشهم، اشتاق إليهم، تمنى لو يحضنهم ويشدهم إلى صدره... أحس بالعبرات تتزاحم لتنتحر على شرفات جفنيه... تمالك نفسه واستجمع قواه. بصق في وجهه الكريه. تراجع قليلا أخذ منديلا وراح يمسح اللعاب من وجهه ثم أخذ يكيل له السباب والشتائم...

**********

في غرفة صغيرة محكمة الإغلاق، جلس ثلة حول مائدة، أمامهم رزم من الأوراق المبعثرة، منفضة سجائر وكؤوس شاي، تكلم أحدهم قائلا:

- إن أكثر ما يحيرني في قضية الرفيق قدرته على التحمل لكل هذا الوقت وهو المعزول عن العالم الخارجي تقريبا وأظن أن من واجبنا مضاعفة الجهود لنضغط عليهم ليفرجوا عنه في أقرب الآجال...

أضاف ثان:

- أجل يجب مضاعفة الجهود ولكن هل تظنون أنه صامد طوال هذا الوقت؟ لا بد أنه يلاقي أشد أنواع التعذيب. فهل سيصمد إلى النهاية؟ أم ستخر قواه وينهار؟

أردف ثالثهم:

- آه لم أعد استطيع التفكير... رفيقنا يعذب ونحن مكتوفي الأيدي، البوليس يزيد قمعه وحصاره علينا ونحن عاجزون لا نقدر أن نفعل شيئا لنساعده...

اختنق صوته، أشعل سيجارة أخذ نفسا عميقا ومج الدخان في الفضاء، سبحت أفكارهم وسط الدخان وعلت محياهم علامات الحيرة والذهول...

انبعث صوت هادئ رصين، من آخر الغرفة، مليء بالثقة والفرح والأمل. اشرأبت أعناقهم ناحية الصوت وأنصتوا بإمعان:

- أنا أحس بالفرح الشديد عندما أسمعكم تتحدثون بكل هذا الحب والحرقة عن رفيقنا المخلص. كلنا نحب الرفيق ونكن له التقدير، ولكن هل تدرون كيف يمكن لنا أن نساعد رفيقنا في محنته؟ لن نساعده إلا بالمضي قدما في درب دحر هذا الوحش وهذا البؤس عن شعبنا... لن نساعد رفيقنا إلا بالمضي قدما في تحقيق حلمنا بغد أفضل بوطن أجمل... فليتفانى كل في القيام بواجباته وبذلك نكون حقا قد ساعدناه...

*********

مشى في الغرفة ذهابا وإيابا والزبد يتطاير من فمه، خاطبه ساخرا مستهزئا:

- أحلامكم، مبادئكم، كلها وهم، لن ينفعك رفاقك ولن يخلصوك من براثننا... (سكت برهة وأردف) إنكم كمن كذب كذبة وصدّقها، تبيعون الحلم الزائف تتوهمون أنكم قادرون على تخليص شعبكم فلتخلصوا أنفسكم قبل ذلك...

أحلامنا، مبادئنا، رفاقنا جواهر ودرر ثمينة وأسلحة نحارب بها أعدائنا، لم كل هذا البطش وهذا العذاب إن كنا لا نساوي شيئا، إننا لا نحلم بالشهرة والمجد ولكننا نحلم بوطن أجمل، وطن لا يضطهد فيه الأبرياء، وهذا الوطن، وطننا نفديه بأجسادنا ومهما بذلنا فلن نوفيه حق قدره...

التفت إليه، ضحك بصوت عال وقال:

- وتلك الساقطة زوجتك ألا تشتاق إليها؟ أتدري أين هي الآن؟ أغلب الظن أنها بين أحضان رجل آخر وأنت هنا تشتاق إليها وتضحي بحياتك ولكن من أجل ماذا؟ من أجل سراب!!!

احتقره كما لم يحتقر أحدا من قبل. أغمض عينيه رأى صورتها تقف أمامه بكامل حسنها وجمالها. اشتاق إليها، اشتاق إلى حضنها الدافئ، لوجهها البريء، عينيها العسليتين، فمها الكرزي وشعرها الفاحم المترامي الأطراف، اشتاق لحنانها لغيرتها، تمنى أن يقبلها ويضمها إلى الأبد...

********

فتحت نافذة الغرفة، استنشقت هواء الصباح العليل، تلاعبت نسمات الفجر الباردة بخصلات شعرها الأسود، نظرت إلى الأفق البعيد، تذكرت لياليهما وسمرهما، سهرهما تحت ضوء القمر منتظرين بزوغ الشمس، اشتاقت لصوته، لكلماته العذبة، اشتاقت لابتسامته، لعبوسه، اشتاقت للحظات صفوه وكدره، لفرحه وغضبه، اشتاقت لأنفاسه الحارة وهو يداعب شعرها بأنامله وهي تنام على صدره، يحدثها عن آلامه وأفراحه، عن مخاوفه وآماله... هكذا تعلما أن يحبا بعضهما بكل خصالهما وعيوبهما... أطلقت زفرة طويلة وتركت العنان لخيالها يجول بها بين ذكرياتهما الجميلة، تذكرت يوم صارحها بمشاعره وعلامـــات الخجل تلك الحمرة التي علت محياه، كيف تلعثم في الكلام، تذكرت أول لمسة، أول همسة، أول قبلة...أعادها الواقع الأليم إلى الواقع الأليم، صوت الوليد يبكي بصوت خافت مسحت عينيها المغرورقة بالدموع، انحنت صوبه نامت بجانبه قبلت جبينه وراحت تحدثه:

-  لا تبكي فوالدك صلب كالصخر، أنا على يقين أنه صامد وأنه لن يركع لجلاديه فكن شجاعا كأبيك.

********

قرع جرس، هرع ثلة من الرجال أمرهم أن يلقوه في زنزانته حتى تحين ساعته وراح يتساءل:

- كيف لهذا الجسد أن يحتمل كل هاته الآلام؟ كيف له أن يصمد أمام هذا التعذيب الوحشي؟ من أين يستمد قوته؟ من أين...؟ كيف...؟

حمله الحراس إلى زنزانته الباردة، ألقوا به على الأرض انكمش على نفسه، رأى أطيافهم جميعا أمامه، أمه، هي، رفاقه، طفله... مد ذراعيه احتضنهم جميعا إلى صدره بقوة ونام كنوم طفل بريء...

فجأة سمعت طرقات على الباب وصوت متعب ينادي اسمها ركضت ناحية الباب فتحته و...


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني