الصفحة الأساسية > البديل الوطني > "انتخابات" 2009 وسبل التغيير الديمقراطي في تونس
وجهة نظر:
"انتخابات" 2009 وسبل التغيير الديمقراطي في تونس
16 أيار (مايو) 2009

تورطت أغلب أحزاب المعارضة في المعمعة "الانتخابية" أو بالأحرى في الدجل الانتخابي لسنة 2009، هذا الدجل الذي اعتادت عليه السلطات التونسية. فالعديد من أحزاب المعارضة، بشقيها القانوني وغير القانوني، اختارت نهج المشاركة، بما فيها تنظيمان ينتميان إلى الماركسية وهما "حزب العمل الوطني الديمقراطي" و"الحزب الاشتراكي اليساري". هذان التنظيمان اختارا، إلى جانب حركة التجديد، في إطار تحالف "المبادرة الوطنية"، السيد أحمد إبراهيم كمرشح لهما في "الانتخابات" الرئاسية.

"الحزب الديمقراطي التقدمي" أعلن منذ البداية عن تمسكه بـ"ثقافة المشاركة"، أما "حركة التجديد" فلم يكن في جعبتها قط تمش غير تمشي المشاركة. فتلاحق الأحداث يشير الى أن تلك الأحزاب قرّرت المشاركة مهما كانت الأوضاع السياسية في البلاد، أكانت تسمح بانتخابات حرّة أم لا، ديمقراطية أم لا. فعندما عجّل مرشح "الحزب الديمقراطي التقدمي" بتقديم ترشحه بدعوى ضمان أكثر الحظوظ لقبول مشاركته في الرئاسية، وعندما أعلنت حركة التجديد عن حرصها في تجميع كل الديمقراطيين والتقدميين، فإن هذا وذاك لم يكن يستجيب، في آخر التحليل، إلا لما يشبه سياسة الدكاكين أو سياسة المصلحة الخاصة.

إن المنطق الانتخابي الذي يقود هذه الأحزاب ليس له علاقة بما يتطلبه الواقع الاجتماعي والسياسي للبلاد، ولا بما أبرزته من تطورات النضالات الاجتماعية الأخيرة وفي مقدمتها نضالات الحوض المنجمي. الكل يعتقد أن هذه "الانتخابات" هي فرصة لدرّ المنافع على حزبه حتى وإن كان هنالك إجماع على عدم توفر شروط ديمقراطيتها ونزاهتها. أما حرص البعض على وحدة المعارضة في وجه السلطة فقد ذهب مهب الريح. وفي أحسن الأحوال أصبح حال المعارضة يذكر بالمثل القائل "كل فول لاهي في نوّارُو".

إن شغف المعارضة بهذه "الانتخابات"، وخاصة منها المنظمات التي تتبنى الماركسية والثورية، لا يمكن أن يبرره الوضع الحالي للبلاد ومتطلباته السياسية.

قتامة المشهد السياسي والاجتماعي

هذا الإقرار ليس من رأي السيد حاتم الشعبوني (حركة التجديد) الذي كان له من الشجاعة(!) التصريح بأن الوضع في البلاد "ليس مظلما تماما كما يعتقد المتطرفون" [1].

هذا الرأي يجب مقارعته بما تعرفه تونس من أوضاع حتى ندرك خلفياته الحقيقية. فذكرى دماء الخمس شهداء لا تزال مؤلمة لدى أهالي الحوض ألمنجمي. والاغتيال يبقى دون تحديد مسؤوليه ودون محاسبة. أما القمع فقد طال المئات من الموقوفين والعشرات من المحاكمين. وقد كانت أقصى الأحكام من نصيب قادة ومناضلي التحرك. أما البوليس فقد ضاعف أعماله الانتقامية من الأهالي، هؤلاء الذين تجرؤوا على التظاهر سلميا والتنديد بسياسات النظام وحيف ممثليه في الجهة. وفي حديثنا عن الوضع،الذي يصفه البعض بـ"ليس مظلما تماما" يجب التذكير بالأساليب التي التجأ إليها البوليس وأعوان وزارة الداخلية للتنكيل بالأهالي انتقاما وتشفيا. فوحشية هذه الأساليب ستبقى راسخة في ذاكرة ضحاياها وذاكرة أهاليهم لأمد طويل.
وقد تعرّض ولازال يتعرّض مئات الإسلاميين السلفيين، وغيرهم ممن أتهموا بالمشاركة في مواجهات جهة سليمان والعمل الإرهابي، إلى المعاملات غير الإنسانية والمحاكمات التي لا تحترم أبسط مقومات العدالة.

كما تواصل العائلات المافيوزية الحاكمة الاستئثار بالأرباح الطائلة ونهب خيرات شعبنا على هواها دون قيد ولا مراقب بينما يصيب اليأس والقنوط شبابنا بسبب انغلاق الآفاق حتى تحول البحر الأبيض المتوسط إلى مقبرة له وهو يحاول العبور إلى أوروبا مجازفا بحياته.

وتستمر السلطات في انتهاك أبسط الحريات على نحو منهجي وواسع النطاق بحيث لا يسلم من قمعها لا حرية الصحافة ولا حرية التعبير ولا حرية التنقل ولا حرية التظاهر وبحيث لا تستثني مضايقاتها أي طرف سياسي، أكان محسوبا على الراديكالية أم كان محسوبا على الاعتدال. فالخبز اليومي لنشطاء المعارضة وممثلي الجمعيات هو "الهرسلة" والتتبع البوليسي والتهديدات والسب والشتم والاعتداء بالعنف على مرأى ومسمع المواطنين. ووصلت هذه المضايقات إلى حد منع ممثلي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان من دخول المقاهي خوفا من أن يتحول احتساء القهوة إلى اجتماع تآمري يهدد أمن الحكومة.

آخر مثال للمضايقات، وهي لا تحصى ولا تعد، ما تعرض له أعضاء المكتب التنفيذي لإتحاد الطلبة الذين منعهم البوليس من الالتحاق بمقرهم وعقد مؤتمر منظمتهم. فقد أجبروا على السير في الشوارع لتبادل وجهات نظرهم، يقتفي خطاهم سرب من أعوان البوليس.

هذه الوقائع تبرهن على أن المجتمع المدني لا مخاطب له إلا أعوان وزارة الداخلية. وهذه الحقيقة لا تغيب عن إدراك أي مواطن أو أي معارض مهما كان اعتداله. في مثل هذه الظروف السياسية ودون التوقف عند تدهور الأوضاع الاجتماعية وانعكاسات الأزمة الاقتصادية والاستغلال الرأسمالي الفاحش، تتواصل الاستعدادات "للانتخابات" الرئاسية والتشريعية.هذا الوضع المتعفن يلخصه السيد حاتم الشعبوني بقوله "ليس على أحسن ما يرام كما تروج له السلطة، وليس مظلما تماما كما يعتقد المتطرفون".

"انتخابات" نتائجها معلومة

يقر الجميع تقريبا بأن موعد 2009 لا يحمل أي رهان انتخابي حقيقي. ولكن وراء ستار التصريحات تحتجب حسابات غير معلنة.

من المؤكد أن "انتخابات" 2009 لن تختلف عن سابقاتها ونتائجها معلومة مسبقا: إعادة "انتخاب" بن علي بأغلبية ساحقة (ونحن نراهن على أن انتصاراته ستفوق انتصارات بوتفليقة!) أما مسرح باردو فسيتم تقاسمه بنسبة 75% للحزب الحاكم وبنسبة 25% لأحزاب "المعارضة" مجتمعة ومهما كانت نتائجها. الغير معروف يبقى فقط تحديد من سيتحصل على "نصيب الأسد" من الـ25% المتروك للمعارضة. والغير معروف معروف. فسيد قصر قرطاج معتاد على إغداق حسناته على من يحسن الانحناء أكثر من غيره.وإذ تدرك أحزاب المشاركة أن منافسة الحزب الحاكم لا جدوى انتخابي منها، فإن عليها بالمقابل بصراع الديكه من أجل فتات الـ25%.

ولكن ذلك لا يمنع البعض من التلويح بشعار "المشاركة النضالية"، ولا من تبني أسلوب يساري ورنان حول الديمقراطية، بمناسبة بعض الاجتماعات وتجاوبا مع بعض الجمهور. لكن البعض لا يتبنى الخطاب اليساري إلا ليحسن الانعراج إلى اليمين.ومثال ذلك أن البعض من داخل تحالف "المبادرة الوطنية" يحبذون اتهام منافسيهم، من بين دعاة المقاطعة كما من بين دعاة المشاركة، بالتطرف، "التطرف بكل تلويناته" كما يحلو لهم القول.

خطاب التطرف على لسان من هم في صفوف المعارضة لا يمكن إلا أن ينال رضا السلطة. فهذه الأخيرة بررت ولا تزال تبرر كامل سياسة القمع والتسلط بحجّة مقاومة التطرف. معارضتـ"نا" الرصينة تحبذ عبارة "التطرف بكل تلويناته". هكذا يتبنى، ولو جزئيا، أعضاء "المبادرة الوطنية"، بمن فيهم الماركسي والثوري، خطاب السلطة ومبرراته. وهم يوفرون لها على هذا النحو الأريحية السياسية كي تواصل قمعها للتنظيمات "المتطرفة"، تلك التي قامت بإمضاء أرضيات ديمقراطية معادية للدكتاتورية، باسم "لجنة 18 أكتوبر".

وإذا ما تبينّا مرمى سهام "المبادرة الوطنية"، يمكننا القول أن أكثر الأحزاب "تطرفا" في الظرف الراهن، هي الأحزاب التي أبت دعم "الانتخابات" القادمة بمشاركتها، أي "المؤتمر من أجل الجمهورية" وحزب العمال.

المؤتمر من أجل الجمهورية، انطلاقا من قراءته لطبيعة السلطة القائمة، انتهج سياسة مبدئية معارضة للديكتاتورية ورافضة لما تعدّه من تحيل إنتخابوي جملة وتفصيلا.

أما حزب العمال فقد اتّبع مسلك المشاورات مع باقي أحزاب المعارضة وأبدى مبدئيا انفتاحه على العديد من الاحتمالات. وقد حوصل موقفه باقتراحه على الأطراف التي تتبنى "المشاركة النضالية" ضرورة إتباع تاكتيك كفيل بتحويل المشاركة إلى معركة حقيقية ضد السلطة. هذا التاكتيك مرهون بثلاث شروط. الأول يفترض توحد المعارضة حتى تتفادى كل إقتتال بين صفوفها. الثاني يرى أن معارضة جديرة بهذا الاسم يجب أن ترفض رشوة الـ25 % التي تغدقها السلطة على الأطراف الكرتونية.وثالث الشروط هو ضرورة توفر الإمكانيات الدنيا للمشاركة لا للاكتفاء بالتمنيات. دون هذه التعبئة تصبح المشاركة عمليا غير ممكنة كما تغدو غير نضالية، بما أنها في الواقع ترضخ لمخطط السلطة وتلاعباتها. حزب العمال كان حريصا على توحيد صفوف المعارضة في مواجهة الديكتاتورية وفي نفس الوقت كان أشد حرصا على عدم الاستجابة لما وضعته السلطة من قيود بوليسية و"قانونية".

ولكن تأتي الرياح.. وكان لابد من تلافي ما هو أنكى. فالسيد حمه الهمامي، الناطق باسم حزب العمال، لا ينأى عن التذكير بالوقائع التي يعرفها الجميع: كل الأحزاب والأطراف السياسية، المقاطع منها "للانتخابات" القادمة والمشارك، لن تفلت من حيف ومضايقات وقمع السلطة. وهو يعتقد أن هذا الواقع سيكنس بسرعة أوهام البعض وسيجبر أطراف المعارضة من جديد على إدراج مسلك الوحدة في جدول أعمالها.

بالمقابل يحبذ السيد أحمد إبراهيم، وغيره من نشطاء "المبادرة الوطنية"، خطاب المزايدة. فقد شبّه، مستهدفا بالدرجة الأولى حزب العمال، المقاطعة بالجلوس على الربوة وأن الدعوة لها لا يعدو أن يكون "دعوة إلى الانكفاء في معزل عن المجتمع". [2]

المعروف عن حزب العمال أنه حزب ممنوع عن النشاط ومناضلوه يتعرضون يوميا لقمع السلطة وهرسلة البوليس السياسي. عديد المحاكمات شملت، ولازالت، نشطائه وأصدقائه بمن فيهم مناضليه في جهة قفصة بسبب مشاركتهم في الحركة الاحتجاجية التي هزت الحوض ألمنجمي. كما يستهدف البوليس بصفة خاصة طلبته الناشطين في الحرم الجامعي. إن القول بأن مثل هذا الحزب وغيره من الحساسيات اليسارية والديمقراطية التي تتعرض إلى نفس القمع والحصار، أنها تدعو إلى المقاطعة حبا في الانزواء واختيارا لموقع الفرجة، إنما يعني ببساطة أن السيد أحمد إبراهيم ينفي واقع القمع السياسي الذي يحكم بالاختناق على كامل الحياة السياسية ويشل نشاط كل المنظمات والأحزاب. وأنه يحجب حقيقة أن الديكتاتورية هي التي حكمت على شعبنا بالانزواء وأجبرته على ترك كل نشاط سياسي. أما الذين اختاروا نهج مقاومتها ونهج التضحية والسجون فهم أولئك الذين قرروا بالفعل ترك مواقع الفرجة.

هذا من جهة، أما من جهة ثانية فإن المشاركة في معركة الحريات السياسية بما فيها حرية الشعب في اختيار ممثليه بكل حرية لا يعني ميكانيكيا المشاركة في كل المهازل الانتخابية التي نظمها بن علي طيلة الـ 22 سنة من حكمه ولا المشاركة في التي هو الآن بصدد إعدادها. فالمشاركة في كل المهازل الانتخابية لا يمكن أن تكون إلا عادة الذين لا يتجرؤون على غير ذلك. ثم أليس من حق حزب العمال والمؤتمر من أجل الجمهورية وغيرهما من القوى السياسية الدعوة إلى المقاطعة وتكريسها على أرض الواقع دون مضايقات البوليس؟! أليس الأحرى بكم يا دعاة الديمقراطية والتقدم أن تطالبوا أيضا بحق المقاطعين في المقاطعة مثلما تطالبون بحقكم في المشاركة، وأنتم تقرون بعظم لسانكم أنه "ليس هناك مؤشرات تبشر بأن الانتخابات القادمة ستكون مختلفة عن سابقاتها" [3] أم أنّ مقاطعة المهازل الانتخابية أصبحت بدعة لا يأتي بها إلا "التونْسهْ"؟!

إلا أنه من الوارد أننا لم ندرك مقصد مرشح "المبادرة الوطنية" ولعلّ كلامه من قبيل "الكلام على غيري والمغزى لي". لعله أراد الحديث عن حقيقة أخرى هي أقرب إلى الواقع السياسي في تونس ولعله أراد القول: "إذا قررت حركة التجديد مقاطعة الانتخابات فإن البوليس سيشل حركتنا وفي أحسن الحالات سيسمح لنا بدخول مقراتنا لا أكثر".

فعندما يمنع البوليس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان من النشاط ومن عقد مؤتمرها وهيأتها الإدارية ومجلسها الوطني فليس ذلك بسبب أن الرابطيين اختاروا موقع الفرجة أو إنعكاف منهم في الزوايا وإنما أولا وقبل كل شيء لرفضهم الإستسلام والإذعان للدكتاتورية. وهكذا حال المؤتمر التوحيدي لإتحاد الطلبة والمجلس الوطني الأخير للحزب الديمقراطي التقدمي...

ونود أن نذكر أن من بين الذين يتهمون حزب العمال بالاستقالة، لأنه يرفض الدخول في مشاركة وهمية لانتخابات وهمية، من اتهمه لأمد غير بعيد بالتوظيف السياسي عندما تعلق الأمر بالقيام بواجبه النضالي في دعم سكان الحوض ألمنجمي. هكذا يغدو رفض احتيال السلطة الانتخابي"استقالة" من النضال ويغدو النضال الحقيقي "توظيفا سياسيا".

أما سلوك الانكفاء السياسي فقد شاهدناه بالأحرى خلال أحداث الحوض ألمنجمي عندما كانت الحركة في أشد الحاجة إلى دعم الديمقراطيين. هذا السلوك لم يصدر عن أنصار مقاطعة "الانتخابات" بقدر ما صدر عن أنصار المشاركة بدون شروط. رغم أنه لم يكن هنالك ما هو أهم، من وجهة نظر دعم الديمقراطية في تونس وتفعيلها، من انتشار وتوسع حركة اجتماعية احتجاجية لا مثيل لها منذ تصدر بن علي دفة الحكم. بالمقابل، يدعونا السيد الشعبوني إلى "النضال العقلاني والواقعي" وينهينا عن "الجري وراء المعارك الوهمية الذي يزيد في تعقيد الوضع و ـ cerise sur le gâteauـ يجر السلطة إلى المزيد من الانكماش" [4] . على هذا النحو في مقدورنا القول أن" انكماش" السلطة في الرديف كان بسبب المعارك الوهمية التي توهّمها سكان الرديف!

لذلك نقول للديمقراطيين اللذين يلوحون بالنضال العقلاني وبإمكانية التغيير بمناسبة "انتخابات" تافهة، أن الديمقراطية في تونس لم تحسن الاستفادة من موعد ما قبل وما بعد 6 جوان بالحوض ألمنجمي وضيعت على نفسها فرصة معركة حقيقية للامتداد والتوسع على حساب التسلط والاستبداد.

زواج الأوهام والوطنية المغلوطة

لم يسع مرشح "المبادرة الوطنية"، في آخر تصريحاته ، إلا أن يتحفنا برائعة من أروع ما يمكن أن يبوح به ديمقراطيوننا. فقد أكد أن انتخابات تتم في "الحدود الدنيا من الشفافية، والحدود الدنيا من المصداقية" هي "عملية تكون فيها البلاد رابحة، والوطن رابح والسلطة رابحة.." [5] . يكفي إذا أن يقنع السيد أحمد إبراهيم الرئيس بن علي بصواب تحليله! والأدهى من ذلك هو إعلانه بإمكانية أن تكون "الانتخابات القادمة فرصة حقيقية لبدء الانتقال من الانغلاق إلى الديمقراطية" وأن لدينا "فرصة حقيقية لتكريس الديمقراطية، شريطة توفير ضمان المصداقية للانتخابات وترجمة الخطاب الرسمي إلى واقع" [6] أي أنه يؤمن بالفعل بإمكانية توفر شروط الشفافية والمصداقية!

إن مثل هذه التصريحات، في الوضع السياسي الراهن، ليست فقط من باب القراءات الخاطئة وإنما أيضا من باب المزايدات المسرحية.

السيد الشعبوني أعاد في مقاله نفس الفكرة: "مصلحة الجميع بما في ذلك السلطة تكمن في نقلة نوعية لطريقة إجراء الانتخابات". وإذا ما سلمنا بصحة فكرته هذه، فإنه في مقدورنا القول أن السلطة لا تدرك أين تكمن مصلحتها كلما نظمت مهزلة انتخابية. ولكن الأصح أن مثل هذه التصريحات تأتي لتكشف لنا المغزى الحقيقي لوطنية "المبادرة الوطنية". فحركة التجديد، على الأقل، تبدو وكأنها تتقاسم نفس "الوطنية" مع السلطة. وطنية الدفاع عن" مكاسب الدولة التونسية الحديثة"! هذه الدولة التي لم يكن لها في يوم من الأيام أي شرعية انتخابية أو ديمقراطية.

فهل لنا أن نستخلص أن برنامج معارضة الديكور هو دعم بن علي، بينما برنامج المعارضة المناضلة هو دعم "الوطنية"، "وطنية" "الدفاع عن المكاسب المدنية التقدمية للدولة التونسية الحديثة"، أي دولة بن علي ووطنيتها. لأننا لا نرى فرقا أساسيا بين الدولة البرقيبية ودولة بن علي غير مظاهر تضخم تعفن مؤسساتها ومؤسسات المجتمع.

أما بالنسبة للحزب الديمقراطي التقدمي فإن العديد من المؤشرات تفيد بأن هذا الحزب سيواجه، من بين باقي الأحزاب، أقصى الصعوبات والعراقيل لِـ"المشاركة" في "الانتخابات" القادمة. فمن وجهة نظر السلطة، هذا الحزب يتجاوز ما وضعته له من حدود. وليس من باب الصدفة أن يتلقى السيد أحمد نجيب الشابي، المرشح لـ"الانتخابات" الرئاسية، الورقة الحمراء وأن يتم إقصاؤه قبل بداية المباراة.
هذا الوضع دفع ببعض الأصوات من داخل الحزب إلى المطالبة بإتباع سياسة أكثر واقعية وأقل راديكالية في وجه السلطة. واعتبر أصحاب هذه الأصوات أن سلوك القيادة الحالي لن يكون لا نافعا ولا مجديا. فمن الأحسن شيء من الانحناء أمام الديكتاتورية! هذه الانتقادات أنجبت في المدة الأخيرة استقالة الـ27 عضو.

الحزب الديمقراطي التقدمي هو أيضا من بين الأحزاب المدافعة عن "المشاركة النضالية"، اعتقادا منه أن كل مقاطعة هي من قبيل السلوك السياسي السلبي. هذا الاعتقاد يتقاسمه العديد من المناضلين الصادقين في مسعاهم، معبرين عنه بفكرة "إنخوضوا عركة". والحال أن المشكلة بالضبط تكمن في استحالة المشاركة في الوضع السياسي الراهن وأن ما يسمى بـ"المشاركة النضالية" لا يمكنه أن يوفر مساحة أكبر للاحتجاج أو للتظاهر أو للتعبير السياسي مما يمكن أن توفره "المقاطعة النشيطة". أما فكرة "إنخوضوا عركة" في الظروف الحالية فمن الممكن تجسيدها في المقاطعة أكثر مما يمكن تجسيدها في المشاركة.

إن "اختيار" المشاركة يعكس في الواقع شعور الإحباط السياسي لدى بعض المناضلين، الشعور بفشل وبعدم فاعلية النضال خارج القانونية. وهم في تشاؤمهم عادة ما يحاججون بالواقع السياسي التونسي المتردي، حيث كل مبادرة محاصرة وكل حرية مفقودة وكل نشاط سياسي مآله التجريم. فلا خيار للديمقراطيين غير خيار ملء المساحة البسيطة التي تتركها لهم الديكتاتورية عسى أن يتمكنوا من كسر الطوق المضروب حول أنشطتهم.

والبعض الآخر ممن تغازله المشاركة مصاب بانغلاق الآفاق السياسية، ويقوده الاعتقاد بأن التغيير السياسي الجذري غير ممكن في تونس، حتى وإن أقرّ نظريا بضرورة سقوط كل الدكتاتوريات. وهو لا يري كيف يمكن للشعب التونسي أن ينهض ضد التسلط وأن يدك أركانه ومؤسساته. فالاعتقاد في التغيير الثوري هو من باب الأوهام.

غير أن هذه التحاليل إنما تعبر عن العسر السياسي في هضم آخر الأحداث التي هزت تونس ولازالت تتركها في بوتقة التوتر الاجتماعي والسياسي. هذه التحاليل لا تنتفع من الدروس السياسية التي أبرزتها النضالات الاجتماعية في الحوض ألمنجمي وهي لا تبصر الطريق التي تنيره هذه الدروس لشعبنا حتى يتخلص نهائيا من الديكتاتورية.

وإذا كان بعض مناضلينا يتصرفون، بعد هذه الأحداث، وكأن شيئا لم يكن، فإن ذلك لا يعكس حساّ واقعيا بقدر ما يعكس ما أصاب معنوياتهم من الإعياء بسبب ما يقارب الـ22 سنة من حكم بن علي. هذا ما يفسر، جزئيا على الأقل، خيار "لا خيار غير المشاركة".

المؤكد أن الشعب التونسي لن يشارك، كعادته، في المهزلة الانتخابية الحالية ولن تغير صناديق الدجل وجهته حتى وإن قرر بن علي، بفعل معجزة، تحويلها بالفعل إلى صناديق اقتراع. فهو لا يعتقد في نزاهة "الانتخابات" بعد كل ما خبره من هذا النظام. أما ما شهده من قهر لأهالي الحوض ألمنجمي فلن يزيده إلا كرها للنظام و تعزيزا لاعتقاده بأن لا أمل في الحرية تحت سماء الديكتاتورية.

إن الجدل الدائر حاليا بين مناضلي الحركة الديمقراطية حول "انتخابات" 2009 يقودنا إلى طرح مسألتين أساسيتين.

نضال اجتماعي أم مهرجان انتخابي

المسألة الأولى تكمن في معرفة حجم ووزن كلّ من النضالات الاجتماعية والنضال الانتخابي في إضعاف ثم إسقاط النظام التسلطي القائم ؟

جميعنا يدرك أن النشاط النضالي هو التزام دائم ويومي ضد الاستبداد. نضال لا يتوانى عن استثمار كل مجالات العمل السياسي والنقابي والجمعياتي والحقوقي والإعلامي. هذا من جهة، أما من جهة ثانية لا يتوقف النضال الحقيقي على ما توفره القانونية أو ما يسمح به البوليس. فنحن لا يمكننا أن نقبل بمضايقات قانونية صادرة عن مؤسسات وعن سلطة لا شرعية لها. لذلك نرى أن النضال الذي يحمينا من سلوك الانزواء والعزلة عن المجتمع هو بالضبط النضال الذي لا يقبل بما تضعه له السلطة من خطوط حمراء. زيادة على أنه نضال اجتماعي بالأساس: الإعداد للإضرابات والاعتصامات بالمؤسسات، تنظيم المظاهرات والتجمعات، تكوين لجان المساندة للنضالات المشروعة، إلخ .هذه الأشكال النضالية يعرفها الجميع ولكن جميعنا لا يعطيها نفس الأهمية.

إلا أن البعض من الديمقراطيين، ممن يتبنون اليوم "المشاركة النضالية" و"النضال العقلاني"، لا يمكنهم الانخراط إلا في العمل السياسي القانوني والذي يسمح به البوليس، ثم يستشهدون بـ"القانون" وبـ"دستور" البلاد كحجة دامغة على شرعية مسعاهم. ولكن من وضع هذا القانون ومن وضع هذا الدستور؟ كما يعتقد هؤلاء أن مقاطعتهم "للانتخابات" لا يمكن أن تؤدي بهم إلا إلى موقع الجلوس على الربوة. فالمقاطعة في دولة الاستبداد هي بالضرورة خارجة عن القانون، ومشاكلها كثيرة وهي غير محمودة العواقب. هذا ما لا طاقة لهم به. ولحسن الحظّ، إن كان في ذلك حظّ، هذا ليس شأن كل الديمقراطيين في تونس ولا شأن الثوريين منهم. ولا هو أيضا شأن كل المشاركين في "انتخابات"2009 ، إحقاقا للحق.

نحن نعتقد، ودون إهمال أي مجال من مجالات الفعل السياسي، أن المهمة الرئيسية اليوم تكمن في ضرورة النهوض بالنضالات الاجتماعية للشعب التونسي وفي مقدمتها تلك الملتصقة بالواقع اليومي للطبقة العاملة. نحن ندرك أيضا أن ضعف مقاومة الشعب التونسي للديكتاتورية يكمن أولا في ضعف نضالاته الاجتماعية الضرورية للدفاع عن حقوقه المعيشية، كما يكمن ثانيا في عدم مقدرة المعارضة التونسية، لأسباب يطول شرحها، على تحمل مسؤولياتها تجاه النضالات القائمة.

الديمقراطي الحقيقي في الظرف الراهن هو الذي يساعد في نهوض نضالات الفئات الاجتماعية المستغلة والمفقرة، يواكب تضحياتها اليومية ويطور قدراتها على الرفض والاحتجاج. إن تضاعف النضالات، بصغيرها وكبيرها، البارز منها وغير البارز، هنا وهناك، سيمثل حربا اجتماعية حقيقية، ستنتهي عاجلا أم آجلا بإنهاك قوى السلطة وبنهوض حركة اجتماعية شاملة. وعند المنعرج الحاسم سيكون في مقدور قوى شعبنا تمزيق جسد الديكتاتورية وتهشيم عظامها.

أما الطبقة العاملة التونسية فلا يمكنها أن تكتفي بتقوية عضلاتها لنيل الديمقراطية. فهي حتما في حاجة لكسب وعي سياسي مستقل. مثل هذا الوعي لا يمكن أن تتحصل عليه إلا بفضل فهم اشتراكي للديمقراطية، ديمقراطية تكون حصيلة نضالها الخاص وتضحياتها الخاصة.

من وجهة النظر هذه يجب الإقرار أن الطبقة العاملة التونسية في الظرف الحالي هي في وضع لا تحسد عليه. فهي لا تزال بعيدة عن كسب الوعي الاشتراكي. وأحداث الحوض ألمنجمي قد كشفت بكل وضوح عن ضعف مقاومتها وضعف تنظيماتها. فالمهمشون والعاطلون عن العمل هم الذين مثلوا الجمهور الأكبر للتحركات. ولم يخف عنا أن عمال قفصة لم ينخرطوا في التحركات وبقيت مدينة الرديف، موقع الصمود، دون سندهم. ويمكن القول أن الطبقة العاملة التونسية بأكملها لم يكن لها وجود طيلة الستة أشهر من المواجهات ولم تقدم أي سند ذا وزن لأهالي الرديف وأحوازها. كما لم يكن في مقدور لجان المساندة ولا اللجان التي نشأت داخل الإتحاد العام التونسي للشغل، ونصفها ينخره سوس البيروقراطية، تغيير المعطيات.

حزب العمال، أهم تنظيم ماركسي في تونس، ورغم ما له من فضل في دعم وتأجيج النضالات الاجتماعية والديمقراطية، حتى غدا في العديد من الأحيان مرمى سهام البعض ممن يتهمونه بالتوظيف السياسي، فإنه يتحمل مسؤولية كبيرة في الوضع الحالي للطبقة العاملة وعلى فعله السياسي تتوقف أيضا تطورات مستقبلها القريب.

السياسة كـ"فنّ الممكن"

المسألة الثانية التي يثيرها الجدل القائم حاليا بين الديمقراطيين حول "انتخابات" 2009، تتعلق بسبل التغيير الديمقراطي ومحتواه. إجمالا هناك صراع بين رؤيتان للمسألة.

الرؤية الأولى تتبنى إمكانية تحقيق التغيير الديمقراطي دون سقوط عنيف للديكتاتورية ومؤسساتها. دعاة هذه الرؤية يناضلون من أجل إصلاحات ديمقراطية ويعتقدون أن مثل هذه الإصلاحات هي من مصلحة المعارضة والمجتمع كما هي من مصلحة السلطة. لذلك هم يسلكون مسلك الحوار معها وليسوا من دعاة تأجيج النضالات الاجتماعية ضدّها، بل يسعون إلى احتوائها وكبح جماحها. هؤلاء يتهمون كل تجذر في مواجهة السلطة بالتطرف ويحبذون سياسة التواصل مع التسلط، عساه يرأف بالمجتمع وبالمعارضة. وهم ينبذون العنف بكل أشكاله ولكنهم لا يقطعون مع مؤسسات العنف ولا يطالبون بتصفيتها ( البوليس السياسي، وزارة الداخلية، الحزب الحاكم ـ إن كان لازال في مقدورنا تسميته بالحزب ـ ، ومؤسسة الجيش) . من الديمقراطيين إذا، من يحبذ بث الأوهام حول إمكانية إصلاح سلطة التسلط ومؤسساتها. لذلك يقبل البعض منهم اليوم بانتخابات مغشوشة سعيا منهم إلى تفادي خندق المقاطعة وشرورها.

وعلى عكس ذلك، لا تؤمن الرؤية الثانية بإمكانية تحقيق تغيير ديمقراطي مع تواصل مؤسسات الديكتاتورية. فالديمقراطية هي في تعارض تام مع مصلحة السلطة القائمة ولا يمكن أن تبنى إلا على أنقاضها. فإسقاط الديكتاتورية هي هدف كل نشاطها السياسي. والانتقال الديمقراطي يتطلب انتخاب جمعية تأسيسية تمثل بحق الشعب التونسي وتسن دستورا جديدا للبلاد، ديمقراطيا ويحمي كل الحريات. أما انهيار الديكتاتورية فلا يمكن أن يتحقق بمعول العمل الإرهابي المعزول عن فعل الجماهير بل سيكون ثمرة نهوض حركة جماهيرية عارمة لا تعرف الخوف ولا التردد. أما قوة الجماهير فستكون ضرورية ولا مندوحة عنها لتصفية مؤسسات التسلط وبنيانه.

طبعا نحن اليوم في مرحلة "سلمية" وشعبنا بعيد عن اكتساب هذا الوعي الضروري لتوحيد نضالاته وسيرها في اتجاه واحد. والنضالات الاجتماعية تبقى محكومة بواقع ميزان القوى المباشر بين الشعب التونسي وبين مؤسسات العنف. لذلك نعتقد أن على الديمقراطيين المتجذرين في نضالهم ألا ينساقوا وراء سياسة الحوار مع هذه المؤسسات ولا وراء سياسة "المصلحة الوطنية" مع السلطة التي لا وطنية لها ولا مشروعية. فسياسة التذبذب الديمقراطي، من نوع ساق في المعارضة وثانية في الحوار المغلوط لن تساعد شعبنا على قطع حبال الخوف ولن تنير درب تحرره.

إن الخيط الرابط لكل عملنا السياسي المعارض يجب أن يقام على مبدأ عزل الديكتاتورية عن "المجتمع المدني" وتشديد الخناق حولها، لا البحث عمّا يخدم مصلحتها. أما الحوار الوطني الحقيقي فشمله لا يمكن أن يلم إلا القوى الديمقراطية.

إن الاختلاف القائم في تصور سبل التغيير الديمقراطي بين الرؤية المترددة والرؤية المتجذّرة،هو الذي يحدد، في آخر الأمر، الموقف من "الانتخابات" الحالية، ويحكم أيضا كامل مجالات النشاط السياسي المناضل للقوى الديمقراطية.

بعض الأذكياء يرددون أن "السياسة هي فن الممكن". ولكن عن أي سياسة وعن أيّ فنّ نحن نتحدث. فالممكن وغير الممكن في السياسة لا تحدّده موازين القوى فقط وإنما تحدّده أيضا مبادئنا. فالكياسة ليس في إطلاق الحكم بل في فهمها حتى نفرق بين النضال والانتهازية في السياسة. نحن نحبذ السياسة التي تكشف عن عورة بن علي وتفضح برامجه، لا تلك التي تسترها. كما نحبذ فن الثبات في وجه التسلط على فن التسويات.

هل نرفض الانتخابات، كل الانتخابات؟

إن نضالنا من أجل انتخابات حرة وديمقراطية هو جزء من نضالنا من أجل الحريات السياسية ولهذا السبب بالذات نحن نرفض المهزلة الحالية. ودعوتنا إلى انتخاب جمعية تأسيسية ينبع من إيماننا بحق الشعب التونسي في اختيار ممثليه بكل حرية. وكل مؤسسة غير منتخبة ديمقراطيا لا شرعية لها وهو حال كل مؤسسات الدولة التونسية في الظرف الراهن. ونحن لا نرفض خوض المعارك الانتخابية حتى وإن كانت نتائجها في غير صالحنا ولكن نشترط حريتها وإلا لا معنى لها غير مصادرة إرادة الشعب.

وثوريتنا ليست في تناقض مع مبدأ الانتخابات. بل إن تنظيم انتخابات حرة وديمقراطية في تونس سيمثل في حدّ ذاته ثورة سياسية لأن نتائجها ستكون بالضرورة إسقاط نظام الاستبداد القائم حاليا.
لذلك من الوهم القول أن السلطة الحالية من مصلحتها تنظيم انتخابات حرة أو حتى انتخابات تتوفر فيها الحدود الدنيا للشفافية والنزاهة. ونحن نطمئن دعاة "النضال العقلاني والواقعي" أننا لن نعارض قيام انتخابات حرة دون عنف ودون دماء كما لن نعارض انتقالا سلميا للديمقراطية ولكننا لا نخلط بين رومانسية الأفلام والواقع. فالطرف الذي يستعمل كل أساليب العنف لمصادرة حق الشعب التونسي في انتخابات حرة وحقه في اختيار ممثليه إنما هو دولة بن علي . هذه الدولة التي رفضت مطلب إلغاء نتائج مناظرة مغشوشة وحبّذت إطلاق النار على المواطنين السلميين ومحاكمتهم كيف لها أن تستجيب يوما بمحض إرادتها لمطلب "برلمان تونسي" أو أن تستمع لنصائح "النضال العقلاني"؟!

من الواضح أنه من غير الممكن المشاركة في انتخابات حرة أو حتى نصف حرة في الوضع السياسي الراهن. ومن الناحية العملية من غير الممكن حتى المشاركة في المهزلة في حدّ ذاتها. فالسلطة هي التي حددت كامل فصولها إخراجا وإنتاجا وليس للأطراف الأخرى إلا بدور الصورة حتى وإن كثر ضجيجها.

من الناحية النظرية لا ينفي نظام التسلط السياسي إمكانية فرض انتخابات حرة. لكن ذلك يفترض حلول مرحلة نهوض ثوري للجماهير. وبصفة خاصة عندما تقرر الطبقة العاملة، بعمالها وعاطليها عن العمل، خوض غمار المعركة السياسية وترك مواقعها الدفاعية، مقرّة العزم على الإجهاز على نظام يتخبط في أزمته. في مثل هذه الظروف لا تأتي المشاركة استغلالا لما تتركه السلطة من فضاء وإنما استجابة لواقع ينفتح فيه باب الحرية على مصراعيه بفضل نهوض الجماهير وجرأتها السياسية.

أما واقع الانتخابات المزيفة، وحيث لا نهوض للجماهير ولا امتداد لنشاطها النضالي، فإنما يفرض على الثوريين إتباع مسلك الدعاية والتحريض ضد سلطة القمع وفضح اختلاساتها، مسلك رفض مصادرة إرادة الشعب مما يؤدي بديهيا إلى مقاطعة "الانتخابات"، ثم مقاطعة المؤسسات الناتجة عنها باعتبارها مؤسسات تفتقد لكل شرعية.

الديمقراطيون الثابتون هم الذي يرفضون الفكرة الوهمية القائلة بإمكانية قيام انتخابات حرةّ في الظرف الراهن أو بإمكانية تحقيق المكاسب النضالية أو بإمكانية لف الجماهير حولهم بفضل المشاركة في عملية أولها وآخرها، كبيرها وصغيرها بيد أعوان وزارة الداخلية. فسبيل التغيير الذي يجب الإعداد له ليس انتخابيا وإنما هو سبيل النهوض الشعبي الذي يلقي بكامل قوى الشغيلة في اتجاه واحد، اتجاه يهدف إلى كنس الديكتاتورية ودكّ مقوماتها. إنه الطريق الوحيد الذي سيمكن شعبنا من الديمقراطية الحقيقية والشعبية. إذ كيف لنا أن نتصور تغييرا حقيقيا، قادرا على هزم بوليس بن على وترسانة العنف التي بين يديه دون عزم وتصميم الآلاف بل ومئات الآلاف من المواطنين على التخلص نهائيا من سلطة الاستبداد؟!

صحيح تماما أننا لا نزال بعيدين في الظرف الراهن عن تحقيق مثل هذا النهوض الشعبي وصحيح أيضا أن التونسيين ليس في متناولهم مثل هذه الآفاق الثورية في القريب العاجل ولكننا لا نرى لبلدنا طريقا آخر للخلاص.

أما تاريخ تونس القريب فلم يخل من الأحداث الاجتماعية والسياسية الكبرى. وما طبع هذا التاريخ خلال العشريات الأخيرة لم يكن المشاركات المتكررة في "الانتخابات" المزيفة وإنما الأحداث الاجتماعية التي عرفت نهوض أوسع جماهير الناس ضد الديكتاتورية. لنذكّر بانتفاضة جانفي 1978 وبانتفاضة الخبز في 1984. وأحداث الحوض ألمنجمي، مع انحصارها في جهة واحدة، هي من نفس الطينة.

إن دروس هذه التجارب التي دارت أحداثها في واقع تونس القريب هي التي تدلّنا على أي نحو سيأتي الخلاص، رغم إدراكنا لمشاق الطريق وثقل المهام الملقاة على عاتقنا. وفي مقدمة هذه المهام إيقاظ الطبقة الاجتماعية الأكثر كفاحية، طبقة العمال، ونفخ الروح الثورية في جسدها الجبار وتنظيم صفوفها. وبدون تحقيق هذه المهام ستتواصل مآسي شعبنا لأمد طويل.

أخيرا، من المؤكد أن جدلنا هذا سيثير سخط البعض من الديمقراطيين الذين سيجدون انتقاداتنا الموجهة لأهل المشاركة في "انتخابات" 2009 هي أيضا من باب المزايدات الغير مجدية. وإنهم لعلى صواب إذا ما اكتفينا في عملنا السياسي بطبخ الانتقادات. فمهام المرحلة تحتم علينا ألا ننسى ضرورة توحيد صفوف الديمقراطيين في مواجهة الديكتاتورية رغم اختلافاتنا الحالية وأن المعارك التي تتطلب رص صفوفنا لم تنته بعد.

غسان الماجري في 22 أفريل

هوامش

[1مقالة بـ"الطريق الجديد"، عدد 121

[2خطاب 22 مارس 2009

[3حديث لإذاعة هولندا الدولية، 3 أفريل 2009

[4مقالة بـ"الطريق الجديد"، عدد 121

[5حديث لإذاعة هولندا الدولية، 3 أفريل 2009

[6خطاب 22 مارس 2009


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني