الصفحة الأساسية > بديل الشباب > جبنيانة... الأحداث والتداعيات...
جبنيانة... الأحداث والتداعيات...
25 كانون الثاني (يناير) 2010

ما تزال مدينة جبنيانة محاصرة بأعداد هائلة من مختلف أجهزة البوليس من شرطة وحرس وفرق تدخل وبوليس سياسي... وما تزال عناصر من البوليس السياسي تطوف المدينة تترصد التلاميذ وتعتدي عليهم في الشارع وتعتقلهم وترهبهم... حتى أنّ المدينة أصبحت تعيش حصارا شاملا وحالة من الطوارئ ومنع الجولان غير المعلنين، ممّا أشاع جوّا من الإرهاب داخل الأهالي وخيّر أغلبهم الاحتماء بمنازلهم وعدم المجازفة بالخروج حتى لا يتعرّضوا لاستفزازات عناصر من البوليس بالزيّ المدني هي أشبه بالميليشيات الفالتة من كل قانون والتي تحظى بالحماية والحصانة من أعلى مستوى. وأمام هذه الحالة قرّر الاتحاد المحلي للشغل بجنيانة والاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس مواصلة الإضرابات الاحتجاجية والدّخول في إضراب عن العمل يوم 11 جانفي الجاري هو الثاني في ظرف أسبوع. وقد عرف هذا الإضراب نجاحا منقطع النظير وساندته عديد القطاعات الأخرى مثل الصحة والتعليم الأساسي. وقد حاصرت قوات كبيرة من البوليس مقر المكتب المحلي للشغل بجبنيانة ومنعت الوافدين من الوصول إليه. في حين لا يزال معهد 18 جانفي مغلقا منذ يوم 6 جانفي. وقد تزامن هذا الإضراب مع انعقاد مؤتمر النقابة العامة للتعليم الثانوي بنزل الديبلوماسي العاصمة. وقد كانت أحداث جبنيانة حاضرة في هذا المؤتمر رغم أنها لم تأخذ ما تستحقه من اهتمام في كلمات المتدخلين في حفل الافتتاح، واكتفى الشاذلي قاري، الكاتب العام المتخلي لنقابة الثانوي، والذي افتتح المؤتمر، إلى الإشارة إلى أن ما حدث في معهد جبنيانة يشكل انتهاكا لحرمة المؤسسة التربوية واعتداء صارخا على كرامة المربي، و"هذا هو جوهر شعار المؤتمر الذي يدعو إلى حماية المؤسسة التربوية العمومية واحترام كرامة المربّي".

وتعود أحداث جبنيانة إلى مفتتح شهر نوفمبر من العام المنقضي عندما دخلت معاهد جبنيانة وخاصة معهد 18 جانفي في سلسلة من التحركات على إثر اعتقال مجموعة من الطلبة كانوا معتصمين للمطالبة بحقّ الطالبات في السكن. وقد تعرّض هؤلاء الطلبة لتعذيب وحشي ووقع تلفيق تهم حقّ عام في شأنهم وإحالتهم على القضاء يوم 14 ديسمبر 2009 في جلسة عاصفة. فقد رفضت هيئة المحكمة السّماح لهم بالدفاع عن أنفسهم، ومنعت المحامين من القيام بواجبهم وأمرت بإخلاء القاعة. فتدخل البوليس بوحشية وعنّف الطلبة مخلفا لهم أضرارا واضحة ومزّق ثيابهم. وقد واجه الطلبة جلاديهم بشجاعة وحوّلوا المحاكمة إلى محاكمة لنظام بن علي ولقضائه التابع وهو ما جلب لهم احترام ومساندة كل الأحرار في تونس. وكالعادة، فإنّ المعاهد الثانوية بجنيانة التي ساندت ووقفت إلى جانب الطلبة الموقوفين منذ اعتقالهم لم تقف مكتوفة الأيدي أمام هذه الأحكام القاسية والاعتداءات الفظيعة على أبسط حقوق الإنسان، وقرّرت الدخول في "أسبوع الغضب" ابتداء من يوم الاثنين 4 جانفي الجاري.

وقد اتخذ البوليس كل الإجراءات للحيلولة دون نجاح "أسبوع الغضب" وخنقه في المهد. فبادر باستدعاء الأولياء وإجبارهم على إمضاء التزامات بمنع أبنائهم من التحرّك. واستغل أعوان الحزب الحاكم بالجهة زيارة الأمين العام لـ"التجمّع" لجبنيانة فاتصلوا ببعض أولياء المعتقلين وطلبوا منهم تقديم اعتذار مكتوب إليه ليتدخّل من أجل إطلاق سراح أبنائهم، إلا أنّ كل الأولياء رفضوا هذا "العرض" وقالوا بصوت واحد:" أبناؤنا مظلومون فكيف نطلب لهم الاعتذار!؟" وطالبوا بإطلاق سراح فلذات أكبادهم دون قيد أو شرط. وقد تمسكت كل العائلات بهذا الموقف، رغم أنّ هناك من حاول مرة ثانية واقترح عليهم تقديم الاعتذارات إلى نوّاب برلمانيين تابعين لحزب معارض ليقوموا بإيصالها إلى من "يهمّهم الأمر"! وهو ما يبيّن درجة الاستياء التي يشعر بها الأولياء بعد توجيه تـُهَمُ حقّ عامّ، لا تليق بالمجرمين والصعاليك، إلى أبنائهم الذين أحسنوا تربيتهم وسهروا الليالي وباعوا الغالي والنفيس من أجل تعليمهم، وهم يُعَدّون بشهادة الجميع من خيرة شباب جبنيانة ومثالا يحتذى به في رفعة الأخلاق والانخراط في النضال من أجل المطالب المشروعة لزميلاتهم وزملائهم من الطلبة.

وبالتـّوازي مع هذه الإجراءات الاستباقية التي راوحت بين التهديد والتخويف وبين زرع الأوهام حول إمكانية إطلاق سراح المعتقلين، بدأت جحافل قوّات القمع تحاصر مداخل المدينة وتنتصب في مواقع حساسة استعدادا لكل طارئ ولزرع الرعب في قلوب التلاميذ والأهالي.

ورغم ذلك فإن تلاميذ جبنيانة كانوا في الموعد وبدأوا في تنظيم "أسبوع الغضب" يوم الاثنين 4 جانفي الجاري بتحرّكات سلمية داخل المعاهد رافعين الشعارات المساندة للمعتقلين والمطالبة بإطلاق سراحهم. وكانت قوات البوليس تراقب ما يحدث دون أن تتدخل بشكل مباشر. لكن صبيحة يوم الأربعاء 6 جانفي وفي حدود العادية عشرة صباحا نظـّم تلاميذ معهد 18 جانفي مسيرة سلمية داخل المعهد ثمّ حاولوا الخروج بها إلى الشارع لمزيد التحسيس بقضية المعتقلين. وقد بدأت المسيرة بشكل سلمي ولم تتخللها أي أعمال عنف أو تكسير. لكنّ قوات القمع التي كانت تحاصر المعهد بأعداد غفيرة هاجمت المسيرة بالقنابل المسيلة للدموع وبالهراوات ممّا أجبر التلاميذ على التراجع للاحتماء بمعهدهم. إلا أن فرق التدخـل واصلت هجومها واقتحمت المعهد مكسّرة الأبواب ومعتدية بالضرب على كلّ من اعترض طريقها من عملة وإداريين وتلاميذ وأساتذة. فاعتصم التلاميذ بقاعة الحارس وبقاعة الأساتذة وبالإدارة وبالأقسام فلاحقهم البوليس واعتدى عليهم بالعنف مركـّزا هجومه على التلميذات والأستاذات والعاملات ومتوجّها إليهنّ بكلام بذئ وبعبارات مهينة، بل إنّه اعتدى على إحدى العاملات وسبّب لها جرحا في ثدييها! وقد سقط العديد من الجرحى والمصابين استوجبت حالة البعض منهم زيارة المستشفى لتلقي العلاج. وطال الاعتداء أيضا تجهيزات المعهد من أبواب ونوافذ وطاولات وغيرها والتي بقيت شاهدة على فظاعة الهجوم وهي تحمل بصمات الأحذية العسكريّة وآثار العصيّ... وتمّ إغلاق المعهد إلى أجل غير مسمّى. وحسب بعض قدماء المعهد المنكوب فإن هذا الهجوم لم يعرف المعهد له مثيلا منذ مارس 1982.

وقد خلف هذا الهجوم استنكارا واسعا داخل جبنيانة وخارجها وخاصة في جهة صفاقس. وزاد من غضب واستياء الأهالي وعمّق الهوّة بينهم وبين النظام. وتحرّكت كل النقابات وخاصة نقابة الأساتذة التي وجهت برقيات إلى الهياكل النقابية المحلية والجهوية والمركزية ودعت إلى اجتماع عاجل حضره عدد هام من النقابيين ووقع التطرق فيه إلى الهجوم على المعهد وما تعيشه مدينة جبنيانة من حصار وإرهاب بوليسي لم تشهد المدينة له مثيلا. واتصلوا بالسلطات الجهوية من معتمد وإدارة جهوية للتعليم الثانوي الذين نفوا جميعهم أي علاقة لهم بالهجوم وأن ما وقع يتجاوزهم. فطالبوا بفتح تحقيق جدي في الموضوع ومعاقبة المسؤولين على ما وقع داخل المعهد ورفع الحصار الأمني عن مدينة جبنيانة. واحتجاجا على هذا الانتهاك الفظيع لحرمة المعهد والاعتداء الهمجي على الأساتذة والعملة والإداريين والتلاميذ نفّذت النقابة الأساسية للتعليم الثانوي بجنيانة إضرابا بيوم واحد يوم الخميس 7 جانفي. وفي اليوم الموالي نفذت النقابة الجهوية للتعليم الثانوي بصفاقس إضرابا بساعتين شمل كل معاهد ولاية صفاقس. وقد سجّلت هذه الإضرابات نجاحا باهرا، عبّر عن تضامن أساتذة الجهة والتفافهم حول مطالبهم المشروعة.

إن أحداث جبنيانة وما عرفته وتعرفه من تداعيات، وإن فاجأت الرأي العام خارج جبنيانة، فإنها لم تكن مفاجأة بالنسبة إلى أهالي المنطقة باعتبار وأن الحركة التلمذية في مدينة جبنيانة بالذات تعتبر حالة فريدة من نوعها وخاصة معهد 18 جانفي الذي كان حاضرا في كل المعارك الوطنية والقطرية ولم يتخلف على امتداد سنوات في خوض النضالات المساندة للحركات الاجتماعية والوطنية في تونس وخارجها. وقد تخرّج من هذا المعهد مناضلون عديدون متواجدون اليوم في النسيج الجمعياتي والحزبي.

وهذا ما يفسّر هذا الإستنفار الأمني وهذا التخوف من أن تتحوّل جبنيانة إلى رديّف ثانية خاصة وأن هناك تجاوبا بين الاتحاد المحلي للشغل بجنيانة والاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس. وحتى لا يتكرر سيناريو الرديف نرى السلطة اليوم تواجه أي تجمّع مهما كان صغيرا بقمع شديد. فهي لم تكتفِ بمحاصرة المكتب المحلي للشغل بالمدينة ومنع الاجتماعات به وغلق معهد 18 جانفي لمنع التلاميذ من التجمّع، بل إنها تلاحق التلاميذ في المقاهي والساحات العامة وتعتدي عليهم وترهبهم حتى يلازموا بيوتهم. ولم تكتف بذلك بل قرأت حسابا لإمكانية انتقال عدوى الاحتجاجات التلمذية إلى المدن المجاورة فوجهت المراسلات لمديري المعاهد ووسّعت عيونها لمزيد المراقبة والتضييق ووضعت وحدات التدخل على أهبة الاستعداد لقمع أي تحرّك محتمل. ورغم ذلك فقد تمكن تلاميذ الشابة في المعهد الثانوي أبو القاسم الشابي من تنظيم وقفات احتجاجية يومية ابتداء من يوم الهجوم على معهد جبنيانة تجاوبا مع تحركات زملائهم في جبنيانة ونصرة للطلبة المعتقلين. فما كان من إدارة هذا المعهد إلا استدعاء عدد من التلاميذ وتهديدهم بإحالتهم على مجلس التأديب واتخاذ قرار الطرد بشأنهم. وفي الحقيقة فإن هذا ما يخشاه ليس فقط تلاميذ الشابة وإنما أيضا تلاميذ جبنيانة. فقد أصبحت مجالس التأديب سيفا مسلولا لـ"تطهير" الجامعة من المناضلين ومن غير المستبعد تطبيق ذلك في المعاهد "المتمرّدة".

لقد كشفت تحركات جبنيانة هشاشة نظام بن علي وحالة الذعر التي أضحى عليها. فقد تحوّل اعتصام لمجموعة من الطلبة والطالبات للمطالبة بحق السّكن إلى قضية وطنية. وها هي السلطة بكل ما لديها من جهاز قمعي وإداري ومالي ورغم حالة الحصار التي تعيشها البلاد ورغم القمع الذي اشتدت وتيرته بعد المهزلة الانتخابية، نراها عاجزة عن إخماد تحرّك تلمذي في مدينة صغيرة رغم التعزيزات الأمنيّة من الولايات المجاورة.

إن نظام بن علي لم يعد له ما يقدّمه للشعب التونسي وخاصة الشباب، سوى مواجهة كل مطالبه بالقمع والمحاصرة وتلفيق القضايا. وكل ملاحظ نزيه يلاحظ دون عناء أن أزمة النظام ما فتئت تتعمّق وتتخذ أبعادا سياسية واقتصادية واجتماعية. كما أن جيوب المقاومة ما فتئت بدورها تتعزز ولم تعد آلة القمع قادرة على كبحها. وما نراه اليوم في جبنيانة من تحرك تلمذي ونقابي وما يلقاه من مساندة شعبية داخل جبنيانة وخارجها يؤكد ذلك. فالنظام كلـّما حاول إطفاء تحرّك هنا إلا وأجّج تحرّكا هناك، كأنـّه يصبّ الزّيت على النـّار. ولا يجب أن ننسى أن أحداث جبنيانة هي من نتائج حالة الهستيريا التي اجتاحت النظام بعد انتهاء المهزلة الانتخابية. فقد اعتقد النظام أن الحل لكل مشاكل البلاد هو تشديد القبضة الأمنية وفرض الصمت على الجميع لتدخل البلاد مرحلة قلما عرفتها في تاريخها وأصبح المواطن وكأنه يعيش في غابة يحكمها البوليس الفالت من كل عقاب، يختطف ويعتدي ويعتقل ويعذب ويلفق القضايا ويسجن ويشوّه المناضلين ويهتك أعراضهم في صحافته المفضوحة... لكنّ هذه السياسة نراها اليوم تتهاوى شيئا فشيئا بصمود المناضلين والصحافيين والحقوقيين والتلاميذ والطلبة والعمال والمهمّشين.. وما قام به النظام من أعمال إجرامية عادت عليه بالوبال وأدت إلى مزيد فضحه داخليا وخارجيا ومزيد عزله عن الشعب بوصفه نظاما غير شرعيّ يستمدّ وجوده من جهازه القمعي ومن المساندة والرعاية التي يلقاها من أسياده الامبرياليين في أوروبا وأمريكا.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني