الصفحة الأساسية > البديل الوطني > قطاع النسيج في مهبّ الأزمة (1)
قطاع النسيج في مهبّ الأزمة (1)
25 كانون الثاني (يناير) 2010

عندما اندلعت الأزمة الاقتصاديّة في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي قطاع العقارات تحديدا، تعالت صيحات الفزع في كل مكان من العالم منبهة إلى مخاطرها ومحذرة من عواقبها، وكان النظام التونسي من القلائل الذين هوّنوا من شأنها وطمأن الشعب التونسي حيث صرّح أكثر من مسؤول في الحكومة وفي ميدان الأعمال أن الاقتصاد التونسي في "مأمن منها". ومن الحجج التي اُعتمدت هي أن النظام المصرفي التونسي لا يمكن أن تطاله الأزمة بما أنه ضعيف الارتباط بالنظام المصرفي العالمي وأنه لم يتورط في معاملات المضاربة التي تسبب الأزمة. وعليه فإن الاقتصاد التونسي محصّن ضد آثارها. لكن، وفي نفس الوقت راحت الحكومة تبحث عن الحلول والإجراءات التي تحميها من تبعات الأزمة متـّخذة سلسلة من التدابير. في هذا الصّدد نذكر خصوصا تكفل الدولة بنسبة 50% من أعباء الضمان الاجتماعي بالنسبة للمؤسسات التي تلجأ إلى التخفيض بـ8 ساعات عمل على الأقل بسبب تقلص نشاطها وكذلك تكفلها بمساهمة أصحاب المؤسسات في الضمان الاجتماعي خلال فترة إحالة المؤسسة لعمالها على البطالة الفنية نتيجة تقلص نشاطها المرتبط بالأسواق الخارجية. ومن الإجراءات أيضا تكفل الدولة بـ50% من كلفة التأمين لعقود تأمين صادرات المؤسسات وإعادة تأمين المخاطر عن طريق الشركة التونسية لتأمين التجارة الخارجية cotunace. كما اتخذت السلطة قرارا بتقليص آجال دفع فائض الأداءات وتحمّل ما قيمته نقطتين من نسبة فوائض القروض الناتجة عن عمليات إعادة الجدولة لفائدة المؤسسات المصدرة والتي تأخرت في استرجاع مستحقاتها الناجمة عن عمليات تصدير. هذا إلى جانب حث مؤسسات القرض على مساندة المؤسسات التي تشكو من تقلص نشاطها وخاصة المؤسسات المصدرة. وانضاف إلى هذه الإجراءات سلسلة أخرى من التدابير تضمنها القانون الجديد بتاريخ بتاريخ 28/12/2009 الذي جاء لينقح القانون عدد 79 لسنة 2008 المؤرخ في 30 ديسمبر 2008 المتعلق بإجراءات ظرفية لمساندة المؤسسات الاقتصادية لمواصلة نشاطها. وجاء في تصريح لوزير التنمية والتعاون الدولي، يوم 30 ديسمبر الماضي "أن نحو 225 مؤسسة مصدرة استفادت من الإجراءات المتعلقة بتأمين الصادرات باعتمادات بلغت 5،6 مليون دينار وأن 270 مؤسسة مصدّرة استفادت من الإجراءات المتعلقة بتأمين الصادرات باعتمادات بلغت 600 مليون دينار، مما مكّنها من المحافظة على نسق التصدير". كل ذلك عملا بالإجراءات المشار إليها والتي استفادت منها أساسا وفي حقيقة الأمر المؤسسات الأجنبية المنتصبة في تونس والشركات المختلطة التونسية الفرنسية وخاصة العاملة في قطاع النسيج.

لقد كانت الحكومة على يقين من أن الأزمة لن تتسرب للاقتصاد التونسي من نافذة النشاط المصرفي بقدر ما ستنعكس على القطاع الإنتاجي، فالحكومة التونسية تعلم جيدا أن نظامها البنكي صغير ومحدود وغير مندمج بالأنظمة البنكية العالمية وأن حجم بنوكها الصغير والمتخلف، من وجهة نظر مناهج التسيير وميادين التدخل الاستثماري، لن يسمح لها بالدخول في المضاربات العقارية على الطريقة التي جرت بها الأمور في أمريكا وأوروبا وحتى بلدان الخليج والإمارات العربية، ولكنها تعلم أيضا أنّ الأزمة ستنعكس في تونس على قطاعات إنتاجية هامة ومحورية في موازنات المالية للدولة وفي هيكلة اقتصادنا مثل قطاع صناعة قطع الغيار للسيارات والصناعات المعملية الخفيفة وقطاع النسيج والسّياحة... فهذه القطاعات تحتل مكانة أساسية في الصادرات التونسية وتؤثر أيما تأثير على مداخيل الدولة من العملة الصعبة وهي محدّدة إلى حدّ كبير في ميزان الدفوعات، فهي قطاعات مرتبطة بالخارج وبطلب الأسواق الخارجية ومرهونة بتقلبات أسواق السيارات وبالقدرة الشرائية للمواطن الأوروبي (السيّاح) وبوضعية المؤسسات التجارية الأجنبية.

وبما أن أزمة البنوك والعقارات الأمريكية والأوروبية قد تحوّلت إلى أزمة عالمية وانتقلت لتعصف بكبرى الشركات المصنعة للسيارات في تلك البلدان ولـ"تضعضع" المقدرة الشرائية لمواطنيها فإن المؤسّسات التونسية العاملة في هذه القطاعات سرعان ما وجدت نفسها تحت وطأة الأزمة وعرضة لآثارها.

وتؤكد المعطيات الإحصائية الرسمية، وكذلك الأحداث الجارية في عديد المؤسسات من قطاع النسيج والسياحة وصنع السيارات وكافة المؤسسات المصدرة كليا أو جزئيا لمنتوجاتها، أن عددا كبيرا من العمال قد تم تسريحهم والإلقاء بهم على قارعة الطريق وأن عددا آخر مهدد بنفس المصير في القريب العاجل.

قطاع النسيج نموذجا

يَعُدُّ قطاع النسيج أكثر من 2000 مؤسسة (منها 800 مؤسسة أجنبية) تشغل ما يزيد عن 250 ألف عامل أي ما يعادل نصف مليون موطن شغل تصدّر منتوجاتها كليا، موزّعة ما بين المؤسسات المتخصصة في الخياطة 74%، و26% في الاختصاصات الأخرى. ويستأثر هذا القطاع بما يقارب نصف صادرات البلاد التونسية من السلع، حوالي 75% منها للاتحاد الأوروبي.

تتوزع المؤسسات العاملة في قطاع النسيج كما يلي: 68% منها تشغل أقل من 100 عامل و27% منها ما بين 100 و300 عامل والبقية أي 5.8% أكثر من 300 عامل. تمثل المرأة 78% من مجموع المشتغلين ويمثل العمل القار 59% من جملة مواطن الشغل مقابل 32% بالنسبة للعاملين في إطار عقود محدودة الآجال و7.3% بالنسبة للمتدربين والمتربصين و1.7% في إطار عقود مناولة.

يتصدّر قطاع النسيج قائمة القطاعات المصدّرة ويحقق أرقاما هامة من المداخيل بالعملة الصعبة غير أنه ما انفك منذ سنوات يتراجع بالنظر لنتائج إلغاء العمل بالاتفاقية الدولية متعددة الألياف وجراء انعكاسات الأزمة الاقتصادية الحالية. فد تراجعت مداخيل صادرات النسيج التونسية خلال سنة 2009 من 5175 ألف دينار السنة الماضية إلى 4729 ألف دينار أي بنسبة 8.8% (ما يعادل نسبة 12.11% بالعملة الأوروبية الموحدة) وجاء هذا التراجع نتيجة تراجع الطلب على المنسوجات والألبسة المصنعة بتونس في الأسواق الأوروبية التقليدية (فرنسا، ألمانيا، إيطاليا...) وفي المقابل زادت وارداتنا من مواد النسيج الوافدة على السوق التونسي من تركيا بنسبة 10.8% ومن الصين بنسبة 11.3% ومن البرتغال بـ56.2%. ومثلت صادرات مداخيل النسيج التونسية 5585.1 مليون دينار تونسي أي ما يعادل 28% من إجمالي مداخيل الصادرات التونسية المقدرة بـ19468.8 مليون دينار تونسي بعدما كانت تمثل قرابة النصف في سنوات سابقة (سنة 2003 مثلا).

إن تونس مثلها مثل غالبيّة البلدان التي تركز في نشاطها الصناعي على النسيج والملابس، عرفت نشأة هذا القطاع وتطوّره في بداية السبعينات مع دخول الاتفاقية متعددة الألياف حيز التطبيق. وكان ذلك استجابة لسعي الشركات العالمية وقتها للبحث عن حصص إنتاج إضافية منخفضة التكلفة بعد استنفاذ الدول المصدرة للملابس لحصصها. لكنه بقي يتميز بصغر حجم مؤسساته التي هي في الأساس مؤسسات لخياطة الملابس (confection) خاضعة تماما لحاجات الشركات والموزعين الأوروبيين (sous-traitance)، وغالبا ما يقتصر دورها على "التحويل السلبي" وإنتاجها موجّه بكامله نحو التصدير حتى تتمكن من الانتفاع بالإعفاءات الجبائية والامتيازات التي منحها "قانون التشجيع على الاستثمار". وهو ما جعل هذا القطاع في بلادنا أقرب إلى الخدمات منه إلى الصناعة.

إن الاختلال بين الخياطة والنسيج الذي لم يتطور، إذ لا يتجاوز عدد المؤسسات 200 مؤسسة، جعل تونس تستورد أغلب حاجياتها من النسيج من أوروبا، وهي تحتل أول مورّد متوسطي للأقمشة الأوروبية بنسبة 19%.

لقد كان متوقعا أن يواجه النسيج في تونس مثل هذه المصاعب حتى قبل اندلاع الأزمة الاقتصادية الأخيرة. فحذف الحصص المضبوطة بالاتفاقية القديمة (الاتفاقية متعددة الألياف) وَضَعَ مؤسسات النسيج التونسية وجها لوجه مع كبريات الشركات والبلدان المنافسة وفي شروط مزاحمة قاسية. ومثلما كان متوقعا اضطر النسيج التونسي إلى خسارة نصيبه في الأسواق التي كان يتمتع فيها بحصة تسويق مضمونة. ومن جهة أخرى وجّه جزء من شركات التوزيع الأوروبية وجهته نحو بلدان أخرى مثل الصين حيث يمكنه تحقيق أرباح أكبر (لتدني كلفة الإنتاج) وتنويع مقتنياته في مجال الموديل والمواد الرفيعة والأقمشة وهي مواد تتطلب تقنيات عالية لا يتوفر عليها قطاع النسيج في بلادنا.

وجاءت الأزمة الأخيرة لتضيف لهذه المصاعب مصاعب أخرى تسببت في الخسائر التجارية المذكورة علاوة على الخسائر الاقتصادية والاجتماعية الأخرى. فقد ذكرت بعض الإحصائيات أن 51 مؤسسة قد أغلقت أبوابها سنة 2009، وفقد في نفس السنة حوالي 3100 عامل موطن شغلهم. وتقول إحصائيات رسمية أخرى أن عدد المؤسسات التي مسّتها تداعيات الأزمة قد زاد عن 10% من مجموع مؤسسات القطاع أي ما يزيد عن 200 وحدة أغلبها من المؤسسات الأجنبية غير المقيمة أي التي اضطر أصحابها إلى غلقها والعودة لبلدانهم.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني