الصفحة الأساسية > بديل الشباب > ندوة "علمية" حول التشغيل تحوّلت إلى بوق دعاية للنظام
عندما يرتدي البحث العلمي ثوبا ديماغوجيا:
ندوة "علمية" حول التشغيل تحوّلت إلى بوق دعاية للنظام
20 شباط (فبراير) 2010

انتظمت بكلية 9 أفريل ندوة حول" التشغيل والتشغيلية لأصحاب الشهادات العليا في تونس". نظمها أساتذة جامعيون (أساتذة ورؤساء أقسام ومديري معاهد عليا) يمثلون الحزب الحاكم. هذه الندوة تحوّلت إلى دعاية ممجوجة للنظام.

وقد أقرّت جميع المداخلات بوجود أزمة تشغيل قائمة في المجتمع التونسي، لأن هذا المشكل لم يعد يحتمل التكتم وتركه في سجلات الدولة مقبورا لأن الواقع الاقتصادي والاجتماعي بات مكشوفا وصارخا بالحقيقة الاجتماعية الفاضحة لتلاعب النظام التونسي بقضية التشغيل.

إنّ مجمل المداخلات حول تشغيل أصحاب الشهادات تناولت الموضوع من خارج الأطر الرئيسية التي ينبغي أن يعالج في إطارها والجميع يعلم أن الإطار الأساسي لمعالجة قضية التشغيل لا يمكن أن يكون إلا سياسيا بحتا بمعنى مدى توفر إرادة سياسية حقيقية وجادة قادرة على وضع تخطيط محكم خالق لمنافذ تشغيل ومستكشف لفضاءات اقتصادية واجتماعية جديدة مع ضرورة مراجعة الإخلالات الموجودة في السياسة الاقتصادية والاجتماعية السابقة والتي أعلنت إفلاسها وهروبها من معضلة البطالة.

كما أن المداخلات كانت في أغلبها تحوم حول إشكالية التشغيل في تونس ولا تتجرّأ على الدخول في عمق الإشكالية، فيما عدى مداخلة واحدة يمكن اعتبارها حادت قليلا عن السياق العام للمداخلات الأخرى لأنها لمّحت إلى ضرورة فتح المجال للشباب في عالم الشغل اعتمادا على تقنية التقاعد المبكر ورفض عملية تمديد سنوات العمل بعد سنة التقاعد. وحملت هذه المداخلة عنوان" :التهرّم السكاني في فضاءات العمل". وهو بعد ديمغرافي هام جدا بالنسبة إلى عملية تشغيل الشباب حاملي الشهادات العليا لأن العلاقة يمكن أن تكون إيجابية ولصالح التشغيل إذا ما تمت بلورة استراتيجية تولي أهمية للشباب بدلا عن المتقدمين في السن. فالشباب يمكن أن يمثل قطاعا اقتصاديا واجتماعيا هاما يخلق بدوره مواطن شغل جديدة تتعلق أساسا بشتى الخدمات الاجتماعية التي يمكن أن تتمتع بها الفئة العمرية المحالة على التقاعد المبكر (55 سنة). وبالتالي فإن هذا الإجراء يعتبر حلا لمشكلة تشغيل أصحاب الشهادات العليا من ناحية وهو أيضا يمثل قاعدة اجتماعية جديدة خالقة لمواطن شغل خصوصية ذات صبغة اجتماعية وصحية وترفيهية وثقافية... من ناحية أخرى، وأن مساهمات هؤلاء المتقاعدين في صناديق الضمان الاجتماعي والتقاعد والحيطة الاجتماعية يمكن تعديلها دون أن تضر بالتوازنات المالية لهذين الصندوقين. عدا هذه المقاربة التي تضمنت حلاّ وإن لم يكن عميقا وجذريا، فإن بقية المقاربات تفتقد إلى بدائل حقيقية ولحلول جذرية.

لقد تحدث البعض عن" مزيد تحرير قطاع الخدمات لما له من أهمية في التشغيل ومزيد تأثيث سوق الشغل" متناسيا ما آل إليه ذلك عمليا من تفاقم الأشكال الهشة للتشغيل والتي لم تساهم في القضاء على البطالة ولا حتى الحد منها فحسب ولكنها أيضا كثفت من وتائر استغلال الشغالين ونهب عرقهم دون تمكينهم من الضمانات التي يوفرها الشغل القار (تغطية اجتماعية، حوافز، تعويضات، الترسيم في العمل، الحماية النسبية من التسريح...) متغافلا عن التطرّق إلى موضوع نسونة الفقر رغم اكتساح المرأة لسوق الشغل والتي تحتل فيها للأسف مواطن شغل هشة ولا تفي بالحاجة.

وأشار أحد المتدخلين، بشكل سريع، إلى تضحيات العائلات التونسية من أجل إعالة أبنائها المعطلين دون ذكر أسباب الأزمة الاجتماعية رغم تعرّض البعض في سياق المداخلات إلى نظام العولمة والتوجه الانتقالي لتونس نحو المزيد من الليبرالية. واتفق الجميع على أن العولمة الاقتصادية واتجاهها المغالي في الليبرالية هي "قدر محتوم" لا بد من التعامل معه والاندماج في صلبه ومحاولة إدارته على شاكلة الدول المتقدمة. ويتكرّر بالتالي نفس الخطأ في كل مرحلة تاريخية من تقدم المجتمع التونسي للأنظمة الرأسمالية التي تفترس الشعوب المغلوبة على أمرها.

كما تحدّث متدخل آخر عن حاجيات المؤسسات من الكفاءات والمؤهلات دون شراكة فاعلة وجدية بين الجامعة والمؤسسات الاقتصادية لتجاوز أزمة اللاإرتباط والتقطع بين التعليم والتكوين والتشغيل. هذا الثلاثي الذي يجب أن يصبح في المستقبل المنشود متجسدا داخل "منظومة تشغيلية واحدة "تتحمل في إطارها المؤسسات الاقتصادية أدوارها الاجتماعية إزاء عملية المشاركة في التشغيل كمسؤولية اجتماعية أساسية. ولن يتحقق هذا المبتغى إلا في إطار سياسة اجتماعية عادلة تعيد توزيع الأدوار الاقتصادية والاجتماعية من جديد. وفي هـذ السياق لا بد من الإقرار بأن حل القضايا الجوهرية والمصيرية التي تواجه شعبا هو حل سياسي أو لا يكون خاصة في هذه المرحلة من تاريخ تونس. وهذا ما تمّ تغييبه كليا في الندوة التي أراد منظموها أن يوهموا" أن الدولة ما تزال تجتهد في إيجاد الحلول الممكنة لمعضلة البطالة". وهي في الحقيقة ندوة كمثيلاتها من الندوات ومن الحملات حول التشغيل الوهمي في ظل نظام مفلس. وهي في نهاية الأمر مجرد بوق دعاية للسلطة الحاكمة في البلاد والتي تفتقد في سياستها الليبيرالية المتوحشة وفي طبيعة نظامها الرأسمالي التابع، إلى الحلول الحقيقية لمطالب الشعب الإستراتيجية وأوّلها مطلب التشغيل.

والغريب في الأمر أن متدخلا من ليبيا، وهو جامعي، تبنى في مداخلته نظام العولمة وضرورة الاندماج فيه و"أن التشغيل اليوم قد أصبح قضية شخصية وعلى الفرد أن يجتهد في إيجاد الحلول الخاصة لمشاكله الشخصية. فإن وجد شغلا فيا حبّذا وإن لم يجد فعليه أن يسعى لذلك دون أن يطالب به وأن يعتبره حقا مكتسبا ولأن التشغيل اليوم لم يعد من مشمولات الدولة بل من واجب الأفراد اعتمادا على كفاءاتهم ومؤهلاتهم التي تمكنهم من عرضها على أصحاب المؤسسات الاقتصادية قصد تشغيلهم. كما يمكنهم بعث المشاريع والانتصاب للحساب الخاص" وفي هذا الإطار تطرّق أحد المتدخلين إلى "افتقاد الشباب لروح المبادرة وثقافة المقاولة "وأن نسبة باعثي المشاريع الخاصة ضعيفة جدا. وقد نوّه بـ"مجهودات الدولة في تسهيل عملية بعث المشاريع إجرائيا وماليا"، دون الإشارة إلى إعلان إفلاس عدة مشاريع بسبب إشكالية التمويل أو بسبب عدم مردودية النشاط الاقتصادي الذي ينتمي إليه المشروع. أما إحصائيا فاعتمدت المقاربات على الإحصائيات الرسمية وكأنها انعكاس فعليّ للواقع الملموس وأن تحيين الانسجام الداخلي وإلى إمكانية إجراء مقاربات منطقية زمنيا وفضائيا وبعيدة عن مقومات المنطق العلمي والموضوعية العلمية في تناول ظاهرة بطالة أصحاب الشهادات العليا.

إن اللافت للانتباه في هذه الندوة هو الغياب الكلي لمسألة تأثيرات الخوصصة على تشغيل أصحاب الشهادات العليا . وهي مسألة لا بد وأن تطرح في صلب إشكالية التشغيل بشكل عام. وقد أكدت عدة دراسات علمية أن الخوصصة في تونس قد تسبّبت في تسريح آلاف العمال ولم تخلق مواطن شغل جديدة.

كما أهمل منظمو هذه الندوة طرح مسألة تنامي القطاع اللاشكلي (secteur informel) في تونس كردّة فعل عن الإقصاء من القطاع المنظم. ويمثل القطاع اللاشكلي بالنسبة إلى الكثير من المعطلين بما فيهم حاملي شهادات عليا ملاذا لتحدّي الجوع والخصاصة وإعادة الإنتاج البيولوجي والاجتماعي والثقافي كذلك. فالقطاع اللاشكلي في بعده الاقتصادي يفرز مجتمعا لاشكليا له خصائصه الاجتماعية المميزة وثقافته الخاصة التي غالبا ما تنعت بثقافة الهامش. وتقترن هذه الثقافة بالفئة الاجتماعية المهمّشة من السكان التي تشتغل في الأنشطة الهامشية. وهنا لا نتحدث عن أقلية هامشية بل عن فئة عريضة من السكان تشتغل في القطاع اللاشكلي وأن نسبة مرشحة، في الظروف السياسية والاقتصادية الراهنة التي يعيشها المجتمع التونسي، للارتفاع والتفاقم ردّا على الإقصاء من منظومة الاقتصاد الرّسمي !



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني