الصفحة الأساسية > البديل الوطني > حزب العمال يدعو إلى مقاطعة المهزلة الجديدة
حزب العمال يدعو إلى مقاطعة المهزلة الجديدة
نيسان (أبريل) 2005

بعد مهزلة أكتوبر الماضي للانتخابات الرئاسية والتشريعية يستعد نظام بن علي لتنظيم مهزلة جديدة، في شهر ماي القادم، هي مهزلة الانتخابات البلدية. ومن الواضح أن هذه المهزلة الجديدة معلومة النتائج مسبقا، ستجري في نفس الظروف السياسية العامة التي جرت فيها المهزلة السابقة والمتميزة بالقمع السافر الذي اشتد في الآونة الأخيرة ردا على التحركات الشبابية والشعبية المناهضة لدعوة بن علي مجرم الحرب أرييل شارون لزيارة تونس، وبالغياب التام للحريات، خاصة حرية التعبير والاجتماع، وسيطرة الحزب الحاكم المطلقة على وسائل الإعلام وكافة الفضاءات العمومية، علاوة على سيطرته على الإدارة والقضاء مما يسمح له بالتحكم في العملية الانتخابية من بدايتها إلى نهايتها والتلاعب بنتائجها وفقا لمصالحه الضيقة.

كما أن البلديات ستجري في إطار قانون انتخابي جائر سُنّ على قياس حزب بن علي. فهذا القانون يضمن له مسبقا الاستحواذ على 80% من المقاعد بالمجالس البلدية الـ265 التي تضم حوالي 4360 مستشارا وهو ما يضمن له الاستحواذ على رئاسة تلك المجالس كلها. أما الـ20% المتبقية فتوزّع كما في التشريعية على أحزاب الديكور، كل حسب درجة ولائه لبن علي ونظامه. وبالإضافة إلى هذا القانون الانتخابي الجائر، فإن القانون الأساسي المنظم للمجالس البلدية ولأعمالها وهياكلها (قانون 1975 المنقح سنة 1985 و1995) يجرّد هذه المجالس من أي صلاحيات ويحولها إلى مؤسسات صورية خاضعة بالكامل لسلطة وزير الداخلية والوالي والكاتب العام للبلدية. وقد رأينا في السنوات الأخيرة كيف وقع حل عدة بلديات (الحمامات، قرطاج…) بمجرد أمر مما يجعل الحديث عن البلديات كمؤسسات لتكريس "الديمقراطية المحلية" مجرّد لغو إذ أنها في الحقيقة لا تعدو أن تكون امتداد للإدارة. (انظر مقال الأستاذ منذر الشارني حول هذا الموضوع، المنشور بجريدة "الموقف" الأسبوعية العدد 302 بتاريخ 5 مارس 2005).

أمام هذا الوضع فإن حزب العمال يعتبر أن المقاطعة هي الموقف السليم في مواجهة المهزلة الجديدة التي يقابلها الشعب مرة أخرى بلامبالاة تامة لإدراكه أنها، مثلها مثل مهزلة الرئاسية والتشريعية، خالية من أي رهان انتخابي وأن نتائجها معلومة مسبقا مما يجعل المشاركة فيها موقفا خاطئا يمكن أن تستخدمه السلطة لتشريع التزوير وإضفاء طابع ديمقراطي زائف على المهزلة. وكما في الرئاسية والتشريعية فإن المقاطعة ينبغي أن تكون نشيطة، بل فرصة للقيام بحملة لشرح دواعي هذا الموقف وتوعية المواطنات والمواطنين بأهمية النضال من أجل الحرية السياسية لقلب موازين القوى التي تسمح بتنظيم انتخابات بلدية حرة حقا وبتغيير قانون البلديات حتى تكون المجالس البلدية مؤسسات تكرّس الديمقراطية المحلية بصورة فعلية. كما أنها فرصة لفضح مضامين السياسة البلدية الرجعية لنظام بن علي التي تخدم الفئات الغنية على حساب الفئات الفقيرة وبالتالي الأحياء الراقية والمناطق المحظوظة على حساب الأحياء الشعبية و"المناطق المتروكة" في كل ما يتعلق بالتعبيد والتطهير ومقاومة التلوث والبناء الفوضوي والكوارث وتنظيم حركة المرور وتهيئة الساحات العامة والمساحات الخضراء وخدمات النظافة ورفع الفضلات (انظر مقال الأستاذ منذر الشارني في جريدة "الموقف" بتاريخ 4 فيفري 2005).

إن تبرير المشاركة بـ"ضرورة خوض معركة ميدانية" هو مرة أخرى تبرير غير مقنع إطلاقا. فالشروط الدنيا لخوض هذه المعركة غير متوفرة. فلا حرية الترشّح والانتخاب ولا حرية التعبير والاجتماع، ولا حياد الإدارة واستقلالية القضاء متوفرة. أضف إلى ذلك أن المواطنين والمواطنات القادرين، في ظل غياب الضمانات السياسية والقانونية لحسن سير الانتخابات، على قلب موازين القوى على أرض الواقع، يقابلون في المرحلة الراهنة هذه المهزلة بلا مبالاة كبيرة لعدم ثقتهم بنظام بن علي من جهة وعدم تهيّئهم لمواجهته ميدانيا لافتكاك حقوقهم من جهة أخرى مما يدفعهم تلقائيا إلى المقاطعة وإلى عدم الإصغاء إلى من يدعونهم إلى المشاركة.

إن تحويل الانتخابات إلى معركة ميدانية حقيقية وجدية يتطلب إعدادا مسبقا. فمن الخور أن تظل بعض القوى السياسية تهادن الدكتاتورية أو تتواطؤ معها أو هي لا تتعدى الخطوط الحمر التي ترسمها لها ولا تتحرك إلا في الحدود التي تسمح لها بها، وبالتالي تأبى خوض معارك جدية ضد هذه الدكتاتورية ثم لما تأتي مهزلة انتخابية مرة كل خمس سنوات تأخذ في الحديث، لتبرير مشاركتها فيها، عن ضرورة خوض "المعارك الميدانية" ولا تتردد في إعطاء الدروس حول "الديمقراطية التي تفتك ولا تعطى". ومثل هذا الخطاب الذي يفتقد إلى ممارسة جدية وحقيقية تكسبه حدا أدنى من المصداقية، يتحوّل إلى خطاب ديماغوجي الهدف منه تبرير موقف "شرعوي" لا يرى من إمكانية للتحرك إلا في الحدود التي ترسمها الدكتاتورية النوفمبرية سواء طمعا في منصب أو خوفا من عقابها. ومن الملاحظ أن البعض يحاول تحميل جماهير الشعب وزر موقفه بالادعاء أنها "أكثر استعدادا للتحرك" في "الأطر الشرعية" منه في "الأطر غير الشرعية". ولما تنتهي الانتخابات نرى هذه الأطراف تعترف أن الشعب قاطعها وأن نسبة المشاركة فيها ضئيلة للغاية. والمشكل كل المشكل أن تلك الأطراف "المشاركة" لا تريد وضع الإصبع على السبب الحقيقي لمقاطعة الشعب للمهازل الانتخابية وهو عدم ثقته بها ويأسه من جدوى المشاركة فيها وشعوره بعدم القدرة على تغيير مجراها. فالناس يكونون فعلا، وفي مرحلة معينة من وعيهم أكثر استعدادا لخوض معارك في "أطر شرعية" حين تكون الشروط الدنيا لتلك المعارك متوفرة حقا. حين توجد إمكانية فعلية للترشح، وإمكانية فعلية لخوض حملة انتخابية، وإمكانية فعلية لافتكاك مواقع. في هذه الحالة يمكن أن تعتقد جماهير الشعب في إمكانية تغيير أحوالها عبر صندوق الاقتراع والمؤسسات التمثيلية لذلك تكون تعبئتها ممكنة. لكن حين تكون تلك الشروط معدومة، وحين تيأس تلك الجماهير من جدوى المشاركة، يصبح من الخطأ دعوتها إلى المشاركة في مهزلة معلومة النتائج مسبقا بدعوى "خوض معركة ميدانية" خاسرة مسبقا.

لقد تم تبرير المشاركة في مهزلة أكتوبر الماضي الرئاسية والتشريعية بحجة "خوض معركة ميدانية". غير أننا لم نعش في الواقع أية معركة ميدانية حقيقية. فهل حدثت معركة حول "القائمات" التي أسقطتها الإدارة؟ كلا إن ما رأيناه هو اللجوء إلى مجلس دستوري منصّب شرّع سلوك الإدارة التعسفي. وهل حدثت معركة ميدانية حقيقية حول حرية الدعاية وحرية الاجتماع؟ كلا إن ما رأيناه لم يتجاوز في أحسن الحالات بعض التحركات الجزئية جدا غير القادرة على التأثير في مجرى الأمور مما دفع بعض الأطراف المشاركة إلى الانسحاب. وهل حصلت معركة ميدانية حقيقية للاحتجاج على التزوير؟ كلا!! لقد اكتفى مرشح المبادرة الديمقراطية للرئاسية برفع طعن لنفس المجلس الدستوري المنصّب الذي أعلن (مثلما كان منتظرا) أن نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية قانونية وشفافة وأن كل الطعون لاغية!!

أفلم يكن من باب أولى وأحرى الاتعاظ بهذه التجربة. إن حزب العمال يعتبر أن المناسبات الانتخابية لا تتحول إلى معارك حقيقية إلا إذا هُيّء لها بمعارك ميدانية من شأنها أن تطوّر الوعي السياسي للشعب حتى إذا جاءت تلك المناسبات الانتخابية يكون على درجة من الاستعداد تمكنه من الاستجابة لشعارات المعارضة الديمقراطية سواء كان ذلك بالمشاركة أو بالمقاطعة حسب الظروف، والالتحام بها لخوض معركة ميدانية تؤثر في مجرى الأمور. فإن لم تؤدّ إلى خلق أزمة سياسية فعلى الأقل تعبّد الطريق إليها. وهذه المعارك الميدانية في الساحات الاجتماعية والسياسية والثقافية لا ينبغي أن تتقيّد بالحدود التي تفرضها الدكتاتورية بل من الضروري أن تنقاد بشعار "نمارس حقوقنا ولا ننتظر رخصة من وزارة الداخلية".

لقد توفرت في الآونة الأخيرة فرصة لخوض معركة ميدانية إثر دعوة بن علي مجرم الحرب أرييل شارون لزيارة تونس مما دفع بعدة قطاعات وخاصة منها القطاع الشبابي إلى الاحتجاج. ومن المعلوم أن دعوة شارون لا تطرح فقط الطبيعة العميلة للنظام القائم ولكنها تطرح أيضا طبيعته الاستبدادية إذ أن بن علي تصرّف كحاكم فردي مطلق يعتبر أن الشعب التونسي لا كلمة له في أي قضية من القضايا المصيرية ولا حق له في النقد أو الاحتجاج على أي موقف يتخذه وهو ما جعله يقمع كل التحركات الاحتجاجية بوحشية ويمنع وسائل الإعلام الرسمية، من تلفزة وإذاعة وجرائد، من التحدث عنها بل إنه لم يتورع عن نكرانها. وهو ما يطرح قضيـة حرية التعبير والاجتماع والتظاهر. كما أن تلك الدعوة طرحت قضية هامة تستقطب اهتمام الشعب التونسي بكل طبقاته وفئاته وهي قضية الفساد، إذ أن زيارة شارون ارتبطت باتفاق حول نقل "الحجاج الإسرائيليين" من تل أبيب إلى جربة بدون تأشيرة عن طريق شركة "كارتاغو" التي يملكها أحد أفراد "العائلة الحاكمة"!! فلماذا أحجم بعض دعاة المشاركة في البلديات لـ"خوض معركة ميدانية" عن خوض هذه المعركة الميدانية الحقيقية والمتأكدة وبمشاركة قطاعات واسعة من الشعب؟ هل يعتقدون أن مهزلة البلديات ستوفر فرصة أهم من الفرصة التي وفرتها دعوة شارون لزيارة تونس لتعبئة التونسيات والتونسيين؟ أم أن مشكلة هؤلاء، ولا نقصد كل المشاركين طبعا، تكمن في رفضهم خوض معركة تضعهم في مواجهة مباشرة مع الدكتاتورية؟

من هذا المنطلق فإن حزب العمال يعتبر أن المشاركة في مهزلة البلديات موقف غير سليم مهما كانت الذرائع التي يقدمها دعاته. وهو إذ يدعو إلى مقاطعة هذه المهزلة لفضحها وتعميق عدم ثقة الشعب بمنظميها ومنظمي غيرها من المهازل الانتخابية وبالتالي تعميق القطيعة بينه وبين الدكتاتورية النوفمبرية، فإنه يؤكد أن من مقتضيات تطوير وعي الشعب التونسي وإخراجه من سلبيته وتحويل نقمته على نظام بن علي إلى فعل سياسي واع ومؤثر، توحد القوى الديمقراطية الحقيقية حول أرضية واضحة تهدف إلى وضع حد للدكتاتورية التي لم تزد مهزلة أكتوبر الماضي، ولن تزيدها مهزلة ماي القادم سوى فضح طابعها غير الشرعي وإلى إقامة سلطة ديمقراطية، ناجمة عن انتخابات حرة ونزيهة، وبهذه الصورة، يكون هذا الهدف مصبّا لكل النضالات الجزئية.

لذلك فإن مهزلة البلديات ستمر عما قريب وستصبح هذه القضية على رأس أولوية الأولويات وسيجبر الواقع كل الأطراف على التعاطي معها أو دس الرأس في الرمل كالنعامة والحكم على النفس بالاندثار.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني