الصفحة الأساسية > البديل العربي > رحلة في دماغ جلاد‍
رحلة في دماغ جلاد‍
7 تموز (يوليو) 2006

ننشر في ما يلي ترجمة لحوار مثير مع جلاد مغربي نشرته مجلة "تال كال". الحوار أجراه عبد اللطيف العزيزي، والترجمة لـ"صوت الشعب".

بداياته في "المهنة"، "تقنياته" المختلفة، تبريراته، شكوكه، ندمه، إدمانه على الكحول. لأول مرة في المغرب، وفي حديث خاص بـ"تال كال"، جلاد مغربي سابق يتقيأ كل شيء. شدوا أنفاسكم!

المغرب، في بداية جوان 2006، وفي منزل معزول بالريف. الرجل يريد الاستماع للموسيقى. شريط لأم كلثوم.. "حتى يتسلى"، قال الرجل. طلب الخمر، من النوع الأحمر الضخم كما اعتاد على شرب ذلك مع زملائه قبل كل حصة تعذيب. بدأ يشرب حتى قبل الشروع في الحوار. عبّ كأسين كبيرين بشكل مسعور تقريبا. كما لو أنه يرغب في إغراق آخر تردداته. ثم بدأ الحوار.

كيف صرت جلادا؟

مهلا. لم نبدأ بعد وأنت تحدثني عن التعذيب!
حسنا كنت في الأصل عون أمن عادي.

كيف وجدت نفسك في مركز اعتقال مخصص للمساجين السياسيين؟

التحقت بالخدمة في بداية السبعينات. الفترة الساخنة بدأت في منتصف السبعينات لتنتهي في مطلع التسعينات. ما تسميه أنت تعذيبا لم أختره، بل هو الذي اختارني.

كيف ذلك؟

كنت في بداية عملي عونا بسيطا من أعوان الشرطة العدلية، بمحافظة إحدى الدوائر. وكان المسؤول عن أحد مراكز اعتقال المساجين السياسيين بالمدينة كثيرا ما يشتكي من النقص في الأعوان. فطلب منه أعرافه أن يقوم بجولة في محافظات الشرطة لينتدب أعوانا. وقد قدر محافظ الشرطة الذي أعمل تحت إمرته أنني أتمتع بالمواصفات المطلوبة. كان يلاحظ أن المنحرفين الذين أتولى استنطاقهم سرعان ما ينهارون ويعترفون بجرائمهم، فعينني. وهكذا وجدت نفسي أهتم بالمساجين السياسيين.

هل يوجد تكوين خاص يجب على المنتدب إتباعه قبل أن "يهتم" بالمساجين السياسيين؟

لا يوجد تكوين خاص. وقع الاختيار علينا بالكيفية التي ذكرت. المطلوب هو التحلي بالانضباط والإخلاص. كما يبغي أن يتمتع المرء ببنية جسدية قوية وأن لا تكون له مخالطات سيئة. الباقي يتم تعلمه بسرعة في خضم الشغل.

هل تتذكر الحصة الأولى التي توليت فيها التعذيب؟

(يرد بحركة انفعالية) قلت لك في بداية عملي في الشرطة العدلية، غالبا ما كنت أستنطق منحرفين ولصوصا ومغتصبي أطفال... فإذا كنت تعتبر الصفعات والركلات التي كنت أعالجهم بها "تعذيبا" فإنني لا أتذكر المرة الأولى التي فعلت فيها ذلك.

ومع المساجين السياسيين، ما هي الأساليب التي كنتم تستعملونها؟

كان لنا الحق في استعمال جملة من أساليب التعذيب الجسدي: اللكمات، الضرب بالسوط على أطراف القدمين، إطفاء بقايا السجائر في الجسد، الهيلوكبتر (وهي تتمثل في تعليق المعذب ببريمة مشدودة إلى السقف، ثم تدويره)، والدبوزة (إقعاد الضحية على دبوزة)، الاغتصاب، الخنق بـ"خيشة" مبللة بالبول وبمادة "الإيتار". و في غالب الوقت كان المعتقلون يخضعون لحصة أو حصتي تعذيب في اليوم [هذه المرة نطق بكلمة تعذيب]. كنا نستنطقهم في أغلب الأحيان في ساعة متأخرة جدا من الليل. كنا نحبسهم في زنزانات لا تتعدى مساحتها بضعة أمتار مربعة، ولا توجد بها لا إضاءة ولا مرحاض ولا حشايا. كان لهم الحق فقط في "كردونة" ينامون عليها. المحظوظون من بين المعتقلين كان يسمح لهم بارتداء ملابسهم. كان المعتقلون يقضون حاجتهم البشرية في سطل ويفرغونه مرتين في اليوم. وكانت عيونهم معصبة داخل زنزاناتهم. كانت التعليمات واضحة: ينبغي منعهم من الاتصال بأي كان. حتى نحن لم يكن مسموحا لنا بالتحدث إليهم.

هل توجد طرق تعذيب خاصة بكل حالة؟

لا. ولكن كانت توجد درجات في التعذيب. كان بعض المعتقلين ينهارون من الوهلة الأولى يكفي أن تصفعه أو تبصق عليه أو تضغط على جرح بجسمه حتى يصبح طيعا ويقوم بما تطلبه منه. أما بالنسبة لمن أصلب فكنا نمر بسرعة إلى المرحلة الثانية أي إلى الطريقة الغليظة مستعملين وسائل متنوعة بعضها بسيط وبعضها الآخر معقد: جلد، هيلوكبتر، تغطيس في سطل من الفواضل البشرية.

هل كانت توضع لكم حدود ينبغي عليكم ألا تتجاوزوها؟

نعم. كان يسلم لنا مع كل معتقل ملفه الطبي. معنى ذلك أنه علينا أن نحتاط. فإذا كان المعتقل مصابا بمرض القلب مثلا، علينا اجتناب استعمال العديد من التقنيات غير الملائمة في هذه الحالة. وإذا كان مصابا بمرض الربو فمن غير المطروح استخدام "الخيشة" في تعذيبه.

ما هي الأساليب التي تستعملونها في أغلب الأحيان؟

غالبا ما نبقي المعتقلين وقوفا، عراة، مغلولي الأيدي والأرجل لمدة ساعات بل لمدة أيام وليال حتى ينهاروا بالكامل. وكنا نجلد الذين يسقطون أرضا على أسفل القدمين.

هل تشاركون في الاستنطاقات؟

نعم ولا.

كيف؟

نحن لسنا مطالبين حقا بجبر المعتقلين على تقديم اعترافات... كنا مكلفين فقط بكسر روح المقاومة لدى الأشخاص الذين يسلمون إلينا. كنا لا نعلم حتى إن كانوا متهمين حقا أم لا. ولكن في بعض الأحيان عندما يأتي أحد أعرافنا لإلقاء نظرة على ما نقوم به، فإنه يسألنا مثلا إن كان المعتقل تكلم حول هذا الشخص أو ذاك أو حول هذا المكان أو ذاك، وخصوصا إن كان لا يزال صامدا.

هل توجد نساء جلادات؟

سمعت بوجود نساء جلادات في مراكــز أخرى. شخصيا لم أعمل بالمرة مع نساء.

ألم تكن تشغل بالكم الأسباب التي اعتقل من أجلها هؤلاء الأشخاص؟

بالطبع كان ذلك يشغل بالنا! كنت أنهض أحيانا في الليل وأسئلة تخامرني حول هذا المعتقل أو ذاك. وكانت هذه الأسئلة تلاحقني إلى حد أنني أغادر فراشي وأذهب إليه لأوجه إليه سؤالا أو سؤالين [أغلب الجلادين، ومن بينهم محاورنا، كانوا يقيمون بمساكن وظيفية موجودة في مراكز التعذيب – من عند هيئة التحرير]. أعتقد أن ذلك كان ضروريا للحصول على معلومات في أسرع وقت ممكن. إن من يريد الحصول على اعترافات لا يمكن أن يبلغ مراده باللين وبالابتسامة. ولكن عندما يمارس الضغط على المعتقلين يمكنهم الاعتراف بأي شيء بل يمكنهم اختلاق روايات سخيفة لا أساس لها من الصحة للإفلات من التعذيب. وحتى في هذه الحالة فإن مثل هذه النتائج ترضي أعرافنا، لذلك...

ولكن ما الذي يحصل إذا تراجع هؤلاء عن اعترافاتهم لاحقا؟

كانوا يعلمون جيدا أن ذلك ليس من شأنه سوى زيادة وضعهم سوءا.

ألم يحصل أن سألت نفسك:" إن ما أقوم به فظيع، وهؤلاء الأشخاص لم يفعلوا لي أي شيء في نهاية الأمر"؟

نعم. هذا يحصل في غالب الأحيان. ولكن عليك أن تعلم أننا كنا جميعا مقتنعين، في تلك الفترة، بأن هؤلاء الأشخاص مذنبون وأنهم يخدمون أعداءنا وأن الجزائر هي التي جندتهم ضدنا حتى ترى المغرب يشتعل وتراق فيه الدماء،... لم تكن لدينا وسائل أخرى لمنعهم من الإضرار بالأمة. وفوق ذلك فهم جميعا ملعونين من آبائهم وأمهاتهم، لا يطيعون لا "والديهم" ولا الله. لذلك كان يجب معاقبتهم.

حتى لو اقتضى ذلك تعذيبهم بوحشية؟

[يقوم بحركة ازدراء]. دائما تتكلم عن التعذيب! لا تعتقد أن الأمور على هذه الدرجة من البساطة. أحيانا كنا نريد فقط الحصول على معلومات للحيلولة دون حدوث أعمال خطيرة. وعلى كل حال فإن هؤلاء الأشخاص كانوا يستفزوننا. ألف مرة سبوا أمي، وألف مرة عيروني بأنني مأبون! ثم لا تنس أننا كنا نتلقى تعليمات. لم نكن نحن نقرر، بل المسؤولون هم الذين كانوا يعطوننا تعليمات لرج المعتقلين بشيء من الغلظة.

هل تعتقد أن تعذيب امرأة أسهل من تعذيب رجل؟

بالطبع.

لماذا؟ ألأن النساء، أضعف جسديا من الرجال وأكثر هشاشة؟

لست أدري... عندما كان يؤتى بامرأة معتقلة إلى المركز كان ذلك يضايقنا. حتى وإن قدموها بالنسبة إلى البعض فرصة نادرة لربط علاقات جنسية. شخصيا كنت أجد صعوبة للقيام بدور "المازوشي" أمام النساء اللواتي كن يظهرن أنهن لسن أقل شجاعة من الرجال.

ماذا تقصد "بعلاقات جنسية"؟

لم يكن لنا الحق فقط في اغتصاب النساء اللواتي ينزلن بالمركز، بل كنا نشجع على القيام بذلك بعنف. إن الإذلال الجنسي هو أحد الأسلحة الرهيبة لتكسير مقاومة السجين. هذا يصح على النساء كما يصح على الرجال.

هل اغتصبت رجالا؟

أنا لم أفعل ذلك مطلقا. ولكن أتذكر أن أحد الحراس، وقد كان له ذكر ضخم، كان لا يجد أي حرج في اغتصاب المعتقلين بعد تناول لتر من الخمر. هذا الحارس حتى نحن كان يخيفنا! كنا أحيانا نجبر المعتقلين على اغتصاب بعضهم بعضا لتكثيف الضغط عليهم. كان جبر السجين على اغتصاب أعز أصدقائه من الممارسات الشائعة.

ما تقوله لا يمكن تصديقه. كيف يمكن إجبار شخص على اغتصاب صديقه؟

بالتعذيب طبعا... كنا نرغم السجين على اغتصاب مرافقيه في الزنزانة. إما أن يفعل ذلك وإما الكهرباء.

الكهرباء؟

نعم كنا نستعمل الكهرباء ضد السجناء بطرق عدة. كنا أحيانا نطلب من السجين أن ينهض ونقول له بأن حصة التعذيب انتهت وأنه بإمكانه أن يغتسل. وما أن يلمس مفتاح الصنبور (السبالة) حتى نشغل المقبض فيتلقى صعقة كهربائية عنيفة. وفي مرات أخرى كنا نضع أسلاكا حول خصيتي السجين ثم نرسل إليه تفريغات كهربائية ذات شدة متصاعدة. كما كنا نوثق السجين وهو عار تماما ثم نوصل أسلاكا كهربائية بكامل جسمه: فمه، أظافره، جلده، جهازه التناسلي...

العديد من ضحايا التعذيب يروون اليوم أن جلاديهم كانوا يتلذذون بتعذيبهم...

[قام من مكانه، ونظر من النافذة ثم عاد...]: في كل المهن يوجد أشخاص يمثلون قدوة سيئة. فلماذا تريد أن نشذ عن القاعدة؟ شخصيا لست من هذا النوع. ولكن صحيح، كان لنا زملاء لا يتحرجون من التصرف على النحو الذي ذكر، غير أننا لم نكن نتحدث بالمرة في الموضوع. لا أحد كان يقول بالوضوح: "أنا أحب تعذيب هؤلاء الأوغاد وأشعر بالارتياح بعد كل حصة تعذيب". لكنني أتذكر شخصا ساديا، يبدو أنه كان يحب الإيذاء. هذا الشخص (أي العون) ذهب للعمل مع الفرنسيين.

كيف ذهب للعمل مع الفرنسيين؟

خلال السبعينات من القرن العشرين كثرت على وزارة الداخلية الفرنسية عصابات الإجرام المغاربية فاستنجدت بالمغرب وطلبت منه إرسال أعوان. وكان هؤلاء الأعوان هم الذين يستنطقون في بعض المدن، مثل مرسيليا، المنحرفين من أصل مغاربي.

لماذا تنادون أنفسكم جميعا في مراكز التعذيب باسم "الحاج"؟

أولا حتى لا يعثر علينا لاحقا السجناء الذين يطلق سراحهم. وهي أيضا طريقة كي لا تكون لنا صلة بالمعتقلين. إن كتمان الهوية يمثل جزءا من التعذيب. وتجدر الملاحظة أن السجناء أنفسهم لم تكن لهم هوية. كنا نعطيهم أرقاما فقط.

هل سمعت بتناذر ستوكهولم؟

لا.

هي نظرية تقول بأن المعتقلين يطورون علاقة عاطفية مع جلاديهم. هل تعرف حالات من هذا القبيل؟

لم أفهم جيدا ما تريد... ما يمكنني قوله هو أنه رغم ما يبدو في الأمر من جنون، فقد حدث أن نسجت علاقة عاطفية بين سجناء وحراس. إنني استحضر حالة سجين سياسي انتهى إلى إقامة علاقة لواطية مع أحد الحراس. كان الحارس اغتصبه في البداية أكثر من مرة، وفي ما بعد أصبح السجين هو الذي يطلب من الحارس أن يواقعه.

في ما عدا العلاقة الجنسية، ألم يكن يحصل أن تتطور علاقات ودية بين المعذبين وجلاديهم؟

نعم ذلك ما كان يحدث في أغلب الأحيان، خصوصا مع السجناء الذين نعايشهم لمدة طويلة.كان يحصل نوع من التواطؤ بيننا، فكنا نغض الطرف عن أشياء عديدة. في العديد من المرات تظاهرت بتعذيب السجين فأطلب منه أن يصرخ حتى يظن [أعرافي] أنني أعذبه فعلا. إنني أتذكر سجينا رأفت عليه كثيرا لأنه ينحدر من نفس المنطقة التي تنحدر منها والدتي.

هكذا إذن كان يحدث لك أن تشعر بالرأفة على سجين؟

[يغتاظ فجأة] ما بك أتظن أننا وحوش؟ بالطبع يمكن أن يكون لنا إحساس بالرأفة! لكن الفارق الوحيد أنه لا يحق لنا أن ندع أنفسنا عرضة للرأفة. الرأفة تعني بالنسبة إلينا نهاية مهنتنا. بل يمكن أن نعرّض أنفسنا لخطر وجودنا في الجهة الأخرى، مع المعذبين. ثم إن واجبنا يفرض علينا، قبل كل شيء، أن نطيع الأوامر. [يلح] الطاعة، لا غير! ولا نستطيع السماح لأنفسنا بأن نكون عاطفيين، مثل الناس العاديين [صمت طويل..]

ما رأيك في المناخ السياسي لذلك العهد؟

أرى جيدا إلى أين تريد أن تصل. [نظر ثابت ومشدود، تمييز كل كلمة] كنا مجرد خدم أوفياء للأمة. لا نريد أن يسقط المغرب بين أيدي الملحدين الماركسيين، الذين كانوا، مع ذلك، مدعومين من أعدائنا.

لكن، بعد الماركسيين، معظم المساجين السياسيين كانوا إسلاميين، مسلمين على ما يرام، يؤمنون بالله...

[يصوب إصبعه نحو الاستجواب] إذن أنت مغرم بوضع الإصبع على الجرح، هه؟ ليكن! تصور حجم الدوار الذي أصابنا عند المرور من الماركسيين إلى الإسلاميين. بل هناك من انهاروا. أتذكر زميلا غادر المهنة في الثمانينات لأنه لم يعد يتحمل سماع الملتحين الذين يحالون إلينا وهم يذكرون الله مع كل جلدة...

هل توجد حجة ما، تبرر في رأيك، تعذيب كائن بشري؟

أوه... لا. [بعد تفكير] لا أعتقد. لكن من ينكر، اليوم، أن المغرب نجا من الفوضى بفضل تضحيات قوات أمنه؟ وما تسميه أنت تعذيب سمح لبلادنا بتجنب حروب أهلية، وقعت فيها بلاد أخرى. ولولا ذلك لكنا محكومين بكاسترو آخر، أو بدكتاتور من هذا القبيل. صحيح عندنا أناس عانوا الكثير، ولكن المعاناة فتحت بالنسبة إلى الكثيرين، طريق التوبة. هات لي واحدا مازال يعتقد في هراء ماركس ولينين أو ستالين...

كان في مقدورك أن تنام هادئا، لما كنت تشتغل؟

كلا، بل كان ذلك بواسطة جرعات الكحول التي أبتلعها يوميا. لقد كان من الصعب الظفر بالنوم.

أما زلت تشرب كثيرا، حتى اليوم..؟

حين يتعاطى الإنسان بعض المهن، يكون مضطرا إلى أن يشرب. الكحول يمكّن من عدم التفكير كثيرا.

التفكير كان يسبب لك العذاب؟

كان يسبب لي العذاب؟ بل قل اليوم يعذبني حقيقة. أما وقتها فقد كنا نعتقد كلنا أن ممارسة الضغط على السجناء تعني عقابهم على الشر الذي ارتكبوه، بل تعني حتى إعانتهم على العودة إلى الطريق المستقيم. أما الآن فكل ذلك بات غامضا في ذهني. أناس كثيرون يحكمون علينا، وهم لا يعرفوننا. يعتقدون أننا ساديون، وأننا كنا نتلذذ بتعذيب الناس، ولنا محبة في ذلك...

أمازلت تتحدث حول هذا الموضوع مع زملاء الأمس؟

تعرف، أنا متقاعد الآن. الخدمة صارت في عداد الماضي. وبيننا، هو موضوع محرم. وحتى وقتها كانوا يمنعون عنا الحديث في مهنتنا. وتعودنا على ذلك إلى اليوم.

ترددت مدة ثلاثة أشهر قبل أن تقبل مبدأ إجراء هذا الحوار. لماذا؟

فكرت جيدا مدة هذه الأشهر الثلاثة... لا بد أن يفهم الناس أن الأمر ليس بالبساطة التي يتصورونها. الكل ليس أسود أو أبيض. ثم نحن كذلك نعاني.

حسب علماء التحليل النفسي يعاني الجلادون، عموما وبعد فوات الأوان، من نفس الاضطرابات التي يعانيها ضحاياهم: كوابيس، بارانويا، أوجاع دماغ... هل ينطبق عليك ذلك؟

[يتردد] نعم. عندي كوابيس، واضطرابات نوم، أوجاع رأس ملازمة، بل كذلك تهيؤات... عندي إحساس بكوني غريبا، وبأني دائما منبوذ. ولدي خوف يلازمني من أن يعتبروني ممسوسا. وهناك كابوس دائم الإلمام بي، يستولي عليّ، فأرى نفسي عاريا تماما، وبصدد بناء أسس منزلي الجديد على ركام هائل من الجماجم البشرية التي لم تبق إلا عيونها تشع. وبقدر ما أهيل عليها التربة تطفو مجددا. أصرخ وأستيقظ وعرقي يتصبب. في البداية، كنت أظن أن سكناي على مقربة من المركز قد يكون لها دور، ولذا بمجرد حصولي على التقاعد، غادرت مسكن الوظيف الذي كنت أشغله، لكن دون جدوى... مازلت أعيش الكابوس نفسه...

لم تعرض نفسك على طبيب؟

[مثارا] كلا! لست مجنونا! أخاف من أن يأخذوني على أن بي مسا. [يخفض صوته] التجأت إلى فقيه [متطبب تقليدي: هيئة التحرير] قدم لي تفسير كل هذا...

تفسيرا لاضطراباتك؟

لا، بل تفسير أشياء كثيرة... أشياء كثيرة في حياتي. اكتشفت أني كنت في طاعة "جن" [روح شريرة: هيئة التحرير] وأن هذا الجن تملكني وحملني على ارتكاب أفعال لم أقدر عواقبها. لم أكن أتصور الضرر الذي أتسبب فيه. والفقيه أعد لي حرزا لا يفارقني.

ومن وقتها، شعرت بتحسن؟

[يبرم وجهه] تحب الحقيقة؟ لا. بدأت أعتقد أن هذا النوع دجال. وتحصلت على عنوان شيخ، قريب من الدار البيضاء، يمتلك سلطات كبير

تعتقد حقيقة في "الجنون؟" [جمع جن: هيئة التحرير]

أعطني مغربيا واحدا لا يعتقد فيها. إلى جانب اعتقادي فيها أستطيع أن أؤكد لك أنها موجودة. ومعظم الزملاء يتذكرون أنهم سمعوا صياحا في زنزانات ولم تكن مسكونة. وحين نسمع ذلك مرة فإن شعرنا ينتصب على رؤوسنا.

كيف تقضي أيامك اليوم؟ هل عندك شيء تتلهى به؟

[ابتسامة] الكلمات المتقاطعة. أنا أهوى الجرائد اليومية التي تحوي كلمات متقاطعة. ومن حين إلى آخر أقتني بانتظام، عندما تسمح إمكانياتي، ثمن مجلة كاملة بالكلمات المتقاطعة. وأفضلها بالفرنسية حتى وإن لم تكن لي مشاكل مع العربية.

إلى أين وصلت في دراستك؟

[نفخ صدره] إلى السنة الثانية ثانوي. لكن انتبه! الأمر يتعلق بالنظام القديم، وتعرف أن الشهادة الابتدائية وقتها كانت ديبلوما أكثر قيمة من باكالوريا اليوم. كنت أقرأ الفرنسية بصورة مطردة لما اجتزت شهادة الابتدائية. أما اليوم فإن ابني، الذي هو في مستوى الباك، لا يتوصل إلى معرفة المعنى الصحيح لعديد الكلمات، وأنا أعرفه.

عندك إذن امرأة؟

نعم

تحب أطفالك؟

[نظرة كلها لوم] ياله من سؤال! طبعا وأي نعم! هل تعرف، أنت، أحدا لا يحب أطفاله؟

لو كان ابنك من بين الخونة الذين يهددون استقرار الأمة، هل تتفهم أن يقع تعذيبه؟

[صمت... يردّ زفرة]

امرأتك، أطفالك، أقاربك، هل كانوا على علم بما كنت تفعل؟

أطفالي لا يعرفون حقيقة طبيعة عملي لكنهم كانوا متشككين في أمر ما... وعلى كل، حين كان أحد أفراد عائلتي أو محيطي يطرح عليّ سؤالا محرجا كنت أجيب دائما:" نعم أعمل فعلا هناك، لكن أنا يقتصر دوري على تعمير جذاذات الناس الذين يقع إنزالهم. لم أمس أحدا قط، بل ولا أدري ماذا يدور في الزنزانات". وهذه إجابة تدور على ألسنتنا جميعا. كان أساسيا بالنسبة إلينا الحفاظ على السر، والحيلولة دون تسرب الشك حول أنشطتنا إلى داخل عائلاتنا. صحيح أنا صارم جدا مع امرأتي وأطفالي. لكن ألا يقول المثل إن "العصا تخرج من الجنة"؟ ومن دون ذلك كيف تريد أن يحترم أطفال أباهم؟

مهنتك هل حملت لك النجاح الاجتماعـــي، ومكاسب مادية؟

[يضرب على الطاولة] تتكلم! لهم التشريفات و الضيعات والحسابات البنكية ولنا نحن أمراض الكبر ومعاش الفاقة والخوف الساكن بطوننا!

من يكونوا هؤلاء الـ"لهم"؟

تعرفهم أكثر مني، أولائك الذين كانوا يتحكمون في الخيوط ويقولون لنا: قم بإنزال فلان، ضع التيار الكهربائي لهذا وضع ذاك في وضع الهيلو... هم كانوا قليلا ما يظهرون. واليوم بعضهم فتح مطاعم والبعض يسوق مرسيدس والآخر يعيد حياته مع حساب بنكي مريح... لكن هؤلاء أعراف.

يحس المرء بالخوف في نظراتك. من أي شيء أنت خائف؟

[يدفع نحو حلقه بكأسه الطافحة] أنا لست خائفا. صحيح تشنجت لأنك لست الوحيد الذي يتصور أن غني. الناس كلهم يعتقدون أننا نمشي على الذهب، وأننا ملأنا جيوبنا بالمال من استغلال الضحايا. لو كانوا يعلمون..!

اليوم تقول هيئة العدالة والمصالحة أنها أقفلت ملف سنوات الجمر. لكن منظمات غير حكومية مثل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان تواصل المطالبة بتحركات عدلية ضد الجلادين. ألا يخيفك ذلك؟

بطبيعة الحال، ما دمت غير مطمأن... طيب هذا العمل الذي تم. وطيب التعويض لمساجين سابقين. هناك قطعا العديد منهم كانوا أبرياء، ولم يرتكبوا ما اتهموا بارتكابه. ولكن في اعتقادي ينبغي التوقف عند هذا الحد. ينبغي طي الصفحة، والتوجه نحو شيء آخر. ثم أقسم لك أننا نحن لم نكن إلا مطيعين للأوامر، وماذا يمكن أن تفعل عدا ذلك وقتها؟ فإذا رفضنا إنزال أحد فإنه يقع إنزالنا مكانه!

وقع هذا؟

[يغمض عينيه ويحرك رأسه بحدة] لا، لا أريد أن أتحدث في الموضوع.

ألا ترى أن من يرغب في السلم مع أناس كانوا ضحايا يجب أن يطلب منهم الصفح؟

اسمعني، لن تجد أحدا منا فكر في طلب الصفح. ولكن من من؟ هناك أشخاص لم نرهم بعد ذلك قط... وآخرون قضوا نحبهم... ثم إن الصفح حركة شخصية في العمق. ولا يوجد تماثل بين حالة وأخرى. ودون شك هو فضيلة بالنسبة إلى من يصفح لكنه لن يكون كذلك بالنسبة إلى المصفوح عنه. إذن ما الجدوى؟



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني