الصفحة الأساسية > البديل العالمي > شيء من التاريخ (3)
ماذا تعرف عن العَلمانيّة؟:
شيء من التاريخ (3)
7 تموز (يوليو) 2006

نعود إلى العلمانية، بعد حديث المقدمات والتسميات، كي نقف على مسار نشأة الفكرة ونموها وتطورها واتساع نفوذها، حتى لا يتصور أحد أن العلمانية كانت مجرد شطحة فكرية أو –كما لا يزال خصومها المتزمتون يرددون بين الفينة والأخرى في بعض الفضائيات- مجرد بدعة.

لقد عرفت العلمانية مخاضا طويلا في رحم المجتمعات الغربية التي كانت تعيش حراكها التاريخي المعروف وتستيقظ من سبات القرون الوسطى وتدخل عصر الأنوار والثورات الفكرية والعلمية والاجتماعية والسياسية، وتبحث عن الأسس والقواعد المتينة التي تكفل لها بناء نفسها وإقامة الأنظمة التي يتعايش في ظلها البشر مهما شطت بهم الأجناس والأعراق والأديان والألوان.

لم تعرف المجتمعات قبل ظهور النظام العلماني العلمانية لكنها عرفت –في فترات ازدهارها الحضاري- مظاهر من التحرر الفكري والتسامح الديني والنفوذ العقلي يمكن اعتبارها بمثابة المقدمات التي انتهت في العصر الحديث إلى وعي العلمانية وإقرارها ركنا من أركان النظام الديمقراطي.

والناظر في التاريخ، وتحديدا هناك حيث تبلورت فكرة العلمانية وشهدت نضجها وتقنينها دستوريا وتطبيقها، يقف على دور التطور العلمي والاجتماعي الذي عاشته مجتمعات الثورة الصناعية، في هذه العملية، خلال القرون الثلاثة الماضية، وخاصة منها التاسع عشر وما كان للثورة الفرنسية (1789) والثورات الاجتماعية المتلاحقة، داخل فرنسا وفي المراكز الأروبية الكبرى (انجلترا، ألمانيا، إيطاليا...) التي قادتها البورجوازية ضد النظام الاقطاعي الذي كانت الكنيسة سنده في تعطيله لعجلة التقدم، ويقف أيضا على الدور الذي يعود إلى الصراع داخل الكنيسة نفسها بين الجمود ونزعة التطور، تحت تأثير الكشوف العلمية والثورة الاجتماعية.

ولسنا في حاجة إلى إعادة عرض المحطات الكبرى التي عرفها تاريخ المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة، وسرد قائمة الأعلام الذين أضـاؤوا طريق المعرفة بالقلم والاختراع والاكتشاف منذ أن قال فولتير ما معناه:" لننشغل بخدمة حديقتنا" وما يعنيه ذلك من انصراف إلى العمل والعمل على تسخير الطبيعة والارتقاء بنوعية الحياة، وما معناه:" قد أختلف معك في الرأي لكني مستعد كي أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك" بما يعني ذلك من رفع ليد القوى المتسلطة والمكبلة (الكهنوت، الإقطاع...) عن الإنسان حتى يتسنى له أن يحقق إنسانيته ويتمتع بالمواطنة، ويفتق مواهبه المخبوءة وطاقاته المطموسة، فوق الأرض.

لقد غيرت الثورة الصناعية وبروز قوى وعلاقات الإنتاج الرأسمالية -التقدمية مقارنة بالنمط الإقطاعي- أسلوب الحياة التقليدي وقلصت من نفوذ الجماعة على الفرد وأطلقت النزعة الاستقلالية والإرادة الفردية من عقالها، وأحدثت نقلة في مستوى النظرة والعلاقات، وسلم القيم. ثم جاء المشروع الاشتراكي الذي أعطى نفسا إضافيا لتيار العلمنة وارتقى نظريا وسياسيا بالطرح العلماني حين رسخ حرية المعتقد واعتبر التدين مسألة شخصية لا دخل للدولة فيها، ففصل فصلا واضحا وحاسما بين السياسة والدين ومنع تديينها وتسييسه، وعمل على محاربة الاستغلال والفاقة المادية والمعنوية وسائر الآفات التي من شأنها دفع الناس إلى الإغراق في الماورائيات والانصراف عن إرادة الحياة.

والتحولات الاجتماعية الناهضة على قاعدة الثورة الصناعية إنما هيأت لها ورافقتها حركة فكرية وفتوح علمية ردت سلطان الجهل على أعقابه ومكنت من ترويض الطبيعة والمسك بزمام القوانين التي تحكمها، فضلا عن إدراك القوانين التي تحكم تطور المجتمع البشري، وفي مقدمتها قانون الصراع الطبقي، بعد النقلة النوعية في علم الفلسفة وعلم الاجتماع المحققة على يد الماركسية. وتجسدت العلمانية بتماسك خلال التجربة الاشتراكية الأولى في كافة مجالات الحياة العامة، رغم الغلو البيروقراطي والممارسات القسرية أحيانا، والغريبة عن جوهر الخط العلماني في سياسة الدولة الاشتراكية، وذلك نتيجة الخلط بين الموقف الفلسفي والموقف السياسي من الدين.

وقد راهن العلمانيون على المدرسة في إنجاح المشروع، فنادوا بعلمنة –أو أليكة- التعليم الذي بنوه على شعارات ثلاثة من شأنها أن تفتحه أمام العموم، ألا وهي:

-  مجانية التعليم
-  إلزامية التعليم
-  لائكية التعليم

وشهدت المدرسة الفرنسية تطبيق هذه السياسة التي ما إن وصل الاشتراكيون عن طريق "كومونة باريس" إلى الحكم حتى سارعوا بتكريسها. وكانت العمانية تمثل الاتجاه الرسمي للدولة في ظل الجمهورية الثالثة بفرنسا على امتداد 70 عاما من حياتها (1870-1940) وكانت القوانين الخاصة بعلمنة المدرسة الفرنسية قد بدأت في الصدور منذ أواسط القرن 19. لكن رياح العلمنة كانت تهب منذ القرن 18 وعلى إثر الثورة (1789) خاصة حين تم إعلان حقوق الإنسان الذي كرس إرادة التحرر من الهيمنة الدينية والسياسية، والذي خصص البند الثامن عشر لاعتبار الاعتقاد مسألة شخصية تلقائية لا يفرضها جهاز، فضلا عن تحريم الرق والمساواة في الحقوق وجعل التعليم حقا مجانيا. ثم جاء قانون 1790 الذي ألغى الأوامر الدينية (فيما يتصل بالدولة) ورفض نابليون بونابرت وهو يعتلي عرش فرنسا أن يتولى البابا وضع تاجه. وتم في 1905 صدور القرار القاضي بالفصل بين الكنيسة والدولة، كما تم قطع العلاقات الديبلوماسية مع البابا. إلا أن الكنيسة كانت تسعى بدورها إلى تليين مواقفها والتكيف مع كثير من المفاهيم الحديثة حتى جاء الوقت الذي أقرت فيه بأهمية الديمقراطية الليبرالية وبالمؤسسات الديمقراطية رغم عدم تخليها عن مناهضة التيار العلماني، وظهرت الأحزاب "الديمقراطية المسيحية" وتعززت نزعة التمرد داخل الكنيسة ضد الكهنوت المتحجر.
وفي حلقة قادمة نواصل رصد العوامل التاريخية التي أفضت إلى تثبيت العلمانية ركنا من أركان النظام الديمقراطي الحديث، قبل أن نخلص إلى رصد الفكرة العلمانية عبر إرهاصاتها المبكرة في التراث العربي الإسلامي.

(يتبــع)



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني