الصفحة الأساسية > البديل العالمي > الربيع الأمريكي في بداية موسم البرد
الربيع الأمريكي في بداية موسم البرد
3 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011

تشهد شوارع المدن الأمريكية منذ منتصف سبتمبر 2011 حركة احتجاجية واسعة بدأت تتجذر مع مرور الوقت والتحاق فئات أخرى بالمحتجين الذين احتلوا وسط عدة مدن وأقاموا داخلها مخيمات اعتصام دائمة رغم عنف تدخل قوات الشرطة والتعتيم الإعلامي الذي واجهت به أوساط الإعلام المرتبطة بأوساط المال هذه الاحتجاجات ورغم موجة البرد التي بدأت تضرب الساحل الشرقي مهد التحركات. كما بدأت هذه الاحتجاجات تنتشر إلى مدن أخرى في الدول الرأسمالية وتجد تعاطفا واسعا خاصة من أوساط الشباب في مختلف أنحاء العالم فهل هي مقدمة لانتفاضة عالمية ضد الفقر والجوع اللذين أفرزهما النظام الرأسمالي؟

احتجاجات مناهضة للرأسمالية ولخطط الحكومة

إن اختيار المنظمين للاحتجاجات شارع وول ستريت لانطلاق احتجاجاتهم لا يخلو من دلالة تكسب هذه الاحتجاجات صبغتها المناهضة للرأسمالية فهذا الشارع هو شارع المال والبورصة في مدينة نيويورك وهو بذلك رمز النظام الرأسمالي الأمريكي وسوق المضاربات التي تتلاعب بمصير الاقتصاد العالمي إنه «كازينو قمار عالمي» على حسب تعبير الكاتبة الأمريكية سوزان جورج في أحدث مؤلفاتها، وهو كذلك رمز لتركز الثروة الأمريكية والعالمية بين أيدي قلة من أصحاب البنوك والشركات الكبرى، إنه قلب النظام الرأسمالي الأمريكي والعالمي ففيه أدت المضاربات المالية سنة 1929 إلى أكبر أزمة اقتصادية عالمية ومنه أيضا اندلعت أزمة الرهون العقارية سنة 2008 التي مازال العالم وخاصة فقراؤه يعانون من آثارها المدمرة. إنه قلب «نظام رأسمالي يشتغل على منوال آلة الحصاد» من حيث توليد الثروة والإقصاء المصاحب له.

فالولايات المتحدة هي القوة الاقتصادية العالمية الأولى التي يتجاوز نصيبها من الثروة العالمية 25% ويفوق نصيب الفرد من الناتج الوطني فيها 40.000 دولار لكن في ظل تفاوت شديد وإقصاء لنسبة عريضة ومتزايدة عبرت عنه إحدى الملصقات التي رفعها المحتجون والتي لخصوا فيها مجمل مساوئ هذا النظام فالولايات المتحدة تعد 46 مليون شخص تحت خط الفقر من بينهم 16.5 مليون طفل ويجبر 44 مليون أمريكي على العيش على قسائم الطعام المجانية التي توفرها الجمعيات الخيرية ولا يحظى 50 مليون أمريكي بأي تأمين صحي في بلد الصحة والتعليم سلعة تجارية وفي المقابل يراكم 1% أي ما يقارب 3 ملايين شخص حوالي 40% من مجمل الثروة الأمريكية.

مجمل هذه الأرقام تلخص واقع اللامساواة الذي يعد سمة هيكلية للنظام الرأسمالي والذي مثل السبب الحقيقي لهذه الاحتجاجات مما يفسر الاتساع المستمر لقاعدتها الاجتماعية بعد أن انضم إليها نشطاء من النقابات كنقابة عمال النقل ونقابة الممرضين واتحاد المعلمين ومئات من أرباب الأسر الذين فقدوا منازلهم بعد عجزهم عن تسديد القروض العقارية. كما يفسر ما رفعوه من لافتات كتب على إحداها « ماركس كان على حق» في إشارة إلى نقد الماركسية للنظام الرأسمالي.

مطالب اجتماعية

وتتمحور جملة مطالب المحتجين وهي إلى الآن مطالب اجتماعية في ما صرح به أحد المحتجين في ولاية فلوريدا لوكالة الصحافة الفرنسية: «نحن هنا للمطالبة بالحق في أن يكون لنا مأوى وشغل وإمكانية تلقي العلاج مجانا» .

كما ينتقد المحتجون خطط الحكومة في معالجة الأزمة ويعتبرونها منحازة إلى أوساط المال فحكومة أوباما رصدت مئات المليارات لمساعدة البنوك الكبرى من آثار أزمة الرّهون العقارية بينما تسلك سياسة تقشفية صارمة تحمل تبعات الأزمة للفقراء وللطبقة الوسطى والحال أن حسب بعض المختصين فإن البلاد في حاجة إلى «نيوديل جديد» كناية على سياسة معالجة الأزمة التي انتهجتها الإدارة الأمريكية بقيادة روزفيلت سنة 1933 لمجابهة مشكلات شبيهة بالمشكلات الحالية، سياسة تستوجب رصد مئات المليارات لتجديد البنية الأساسية وتحسين ظروف السكن والعيش بالمدن الأمريكية بهدف دفع التشغيل والاستهلاك بما يساعد على تخفيف الأزمة لكن الواقع غير ذلك فأوباما يعتبره المحتجون – وجزء منهم كان من ضمن قاعدته الانتخابية- لا يختلف عن سلفه بوش من حيث الخضوع لإملاءات المؤسسات المالية. ففي تقرير لصحيفة نيويورك تايمز ليوم السبت 29 أكتوبر 2011» يشرف بنفسه على عمليات إنقاذ البنوك التي ينتقدها المتظاهرون» وفي المقابل فرضت حكومته ضرائب جديدة على الاستهلاك عوضا عن فرض رسوم إضافية على أصحاب الثروات .

الحرية مجرد تمثال في الولايات المتحدة

للولايات المتحدة تاريخ في قمع الاحتجاجات الاجتماعية رغم انتصاب تمثال الحرية في قلب أهم عواصمها فلا ننسى قمع عمال وعاملات شيكاغو في القرن التاسع عشر في ما أصبح يعرف لاحقا بعيد 1 ماي للعمال. وملاحقة النقابيين والناشطين السياسيين بعد الحرب العالمية الثانية إبان موجة المكارتية المعادية للشيوعية والتي طالت حتى بعض الفنانين مثل شارلي شابلن الذي اضطر إلى ترك الولايات المتحدة. وقمع الشرطة لاحتجاجات مناهضي العولمة والحرب مثلما حدث في مواجهة المتظاهرين في مدينة سياتل سنة 1999 المحتجين على سياسة منظمة التجارة العالمية التي كانت تعقد اجتماعا في تلك المدينة وهو قمع خلف وقتها 50 جريحا ومئات المعتقلين دون نسيان القمع الذي استهدف المحتجين على الحرب الأمريكية على أفغانستان سنة 2001 وعلى العراق سنة 2003 وموجة الاعتقالات في حق المحتجين على سياسات بوش في أوت 2004 أثناء انعقاد أحد مؤتمرات الحزب الجمهوري الحاكم آنذاك.

ولم يختلف الأمر مع الحركة الاحتجاجية الحالية فلقد قامت الشرطة بتدخل عنيف لإزالة المخيمات التي نصبها المحتجون في العديد من المدن واعتقلت أكثر من 1000 من بين المحتجين دون اعتبار الحملات الإعلامية التي روجت لها أوساط المال من «إمكانية سيطرة متطرفين على هذه الحركة وتوجيهها» وفي المقابل فإن وسائل الإعلام تعاملت بتعتيم إعلامي كبير ومقصود مع الاحتجاجات تحت تأثير الأوساط المالية التي تتحكم مباشرة في هذه الوسائل من ذلك أن صحيفة نيويورك تايمز لم تغطي الاحتجاجات ولم تعطيها الاهتمام اللازم إلا منذ حوالي أسبوع بعدما اتخذت الاحتجاجات أبعادا كبيرة لم يعد ممكنا تجاهلها.

البرجوازية خائفة من تجذر الاحتجاجات

لكن من جهة أخرى فإن الخوف من تجذر الاحتجاجات وقرب الانتخابات الأمريكية 2012 ونظرا لأن جزء هاما من المحتجين يحسبون على القاعدة الانتخابية للحزب الديمقراطي فقد برز داخل هذا الحزب تيار يدفع نحو الاستجابة جزئيا لمطالب المحتجين وهو تيار نجح في إقناع الرئيس أوباما بالتعبير عن «استعداده لفرض ضرائب إضافية على أصحاب الثروات التي تتجاوز 1 مليون دولار لتغطية تكاليف توفير الوظائف» .

ختاما يبقى أفق تطور الاحتجاجات رهين كيفية التعامل الحكومي مع المطالب التي يرفعها المتظاهرون وعلى قدرة هؤلاء على توسيع حركتهم ومدى نجاحهم في اجتذاب شرائح جديدة إليها في بلد يتزاوج فيه رأس المال مع امبراطورية الإعلام ولوبيات السياسة.

محمود نعمان



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني