الصفحة الأساسية > البديل الوطني > قطاع النسيج هو سبب الكارثة البيئية
تحركات شعبية بقصيبة المديوني ضد التلوث:
قطاع النسيج هو سبب الكارثة البيئية
7 تموز (يوليو) 2006

عاشت "قصيبة المديوني" (ولاية المنستير) في المدة الأخيرة تحركات احتجاجية عديدة قام بها الأهالي بسبب المخاطر البيئية المحدقة بهم وبمدينتهم. وقد ارتبط انطلاق هذه التحركات بالحالة التي أصبح عليها البحر الممتد من المنستير إلى خنيس وقصيبة المديوني ولمطة وصيادة. وهذا البحر الخالي من الأمواج (ميت) يحوي محطتي تطهير بكل من خنيس ولمطة تلفظان النفايات والفضلات الصناعية السامة على طول الشريط الساحلي الذي تحول لونه إلى أحمر وبدأ يلفظ الأسماك الميتة وتنبعث منه الروائح الكريهة التي تسبب الاختناق والأمراض لأهالي المنطقة وخاصة الصيادين الذين يعيشون في البحر كامل اليوم بحثا عن لقمة العيش.

ولسائل أن يسأل عن الأسباب الرئيسية لهذا التلوث؟ هل هو حالة مرتبطة بطبيعة هذا الشريط البحري أم هو بفعل فاعل؟ وما علاقة هذه الكارثة بالمؤسسات الصناعية في قطاع النسيج؟

شريط الأحداث:

يوم الأحد 28 ماي 2006 ورغم الحضور الأمني المكثف قام قرابة 150 مواطنا بتجمع أمام مقر البلدية بقصيبة المديوني وقد كمموا أفواههم وأنوفهم بأقنعة وقائية محتجين على التلوث والروائح الكريهة التي طالت كافة المساكن ونغصت على السكان عيشهم. وقد كان للمواطنين المتجمعين لقاء مع رئيس البلدية الذي عجز عن إقناعهم. ومن الملاحظ أن قوات البوليس منعت مناضلي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وغيرهم من مناضلات ومناضلي الجهة من الالتحاق بالتجمع الذي تحول إلى مسيرة.

يوم الجمعة 2 جوان: عاشت قصيبة المديوني في هذا اليوم حصارا أمنيا كاملا وفرضت "الإقامة الجبرية" غير المعلنة على المناضلين الحقوقييــن والسياسيين في مقرات عملهم أو في منازلهم. كما تمركزت دوريات البوليس والحرس وفرق التدخل على طول الشريط الساحلي الملوث، من المنستيـر، إلى خنيس وقصيبة المديوني. وظل الأعوان يتثبتون في هويات المسافرين في السيارات الخاصة وسيارات الأجرة بأنواعها ويرهبونهم. كانت حالة طوارئ حقيقية عاشتها قصيبة المديوني ومحيطها لمنع المسيرة المزمع القيام بها مساء يوم 2 جوان 2006 للقاء رئيس البلدية.

ورغم الإرهاب الذي مورس على المواطنين فإنهم حاولوا القيام بمسيرة لكن البوليس فرقهم واعدا بأن السلط الجهوية ستعقد اجتماعا يوم السبت 3 جوان 2006 لـ"شرح الموضوع". وعلقت اللافتات في كامل المدينة للإعلام بالاجتماع المشفوع بندوة بعنوان:" الشريط الساحلي: الواقع والآفاق".

يوم السبت 3 جوان: انعقد الاجتماع بدار الثقافة بقصيبة المديوني. وقد دام حوالي 5 ساعات بإشراف والي المنستير وحضره الأهالي بكثافة. وقدم خلال هذا الاجتماع بعض المحاضرين "المختصين" الذين استنجد بهم الوالي مداخلات "علمية" حاولوا من خلالها إيهام الحضور بأن الكارثة البيئية التي تعيشها المدينة لا تعدو أن تكون حالة "طبيعية" ناتجة عن ارتفاع الحرارة وغياب المد والجزر بالشريط إلخ..

لكن هذه التفسيرات لم تقنع المواطنين الذين تفطنوا إلى أن السلطات تحاول امتصاص غضبهم، ففرضوا الحق في الكلمة مما أجبر الوالي على إعطائه إلى 37 مواطنا. وقد تميزت تدخلاتهم بالجرأة والصراحة خصوصا وأن أغلبهم لا ينتمون إلى الحزب الحاكم فعبروا عن عدم اقتناعهم بما قاله المحاضرون. ولم يخطر ببال المسؤولين المشرفين على الاجتماع أن يواجهوا حضورا بمثل هذا الوعي والدراية بحقائق الأمور فأصابهم الارتباك خصوصا عندما حاصرهم بعض المتدخلين بالسؤال: الحـوت ناكلوه وإلا لا؟! الماء فيه خطر على الصيادين أم لا؟!

أمام هذه الأسئلة الواضحة اضطر المشرفون على الاجتماع إلى الاعتراف بأنهم لا يملكون الأجوبة وأن الأفضل انتظار نتائج التحاليل المخبرية للمياه والغازات والتربة. وهكذا ذهبت الحلـــول السطحية (ردم البحر بالأتربة، رفع الفضلات من الشاطئ...) التي حاولت السلطات الجهوية أن تمتص بها غضب المحتجين أدراج الرياح، وظلت الأسئلة حول حقيقة الوضع البيئي بالمدينة وكيفية إيجاد الحلول الجذرية قائمة.

أسباب التلوث

إن أسباب الكارثة واضحة مهما تكتمت السلطة عليها لإخفاء مسؤوليتها ومسؤولية أصحاب مؤسسات النسيج والتنبيل (الغسل والصبغ والطباعة ومحو الغسل) فيها. ولنا في الدراسة التي أجريت سنة 1997 بإشراف الجمعية التونسية لحماية البيئة وتمويل من منظمات كندية غير حكومية مختصة في الميدان الدليل على أن السبب الرئيسي للتلوث يكمن في ما تقوم به صناعة النسيج من إلقاء بفضلات كيميائية سامة تلوث المياه ومواد سابحة مثل الألياف والشحوم وهي مواد عامة ما تكون ساخنة وذات رائحة كريهة وملوثة بمواد التلوين. وتبين الدراسة أن بعض هذه المواد المستعملة هي مواد سامة وتمتص الأكسيجين من الماء وتمثل بالتالي خطرا حقيقيا على الحياة المائية وعلى جودة المياه. كما أن الإفرازات الغازية والضجيج والروائح الكريهة وظروف العمل غير الملائمة هي من المشاكل البيئية الناجمة عن صناعة النسيج.

أصحاب رأس المال غير مستعدين

إن المشكل كل المشكل يتمثل في أن الصناعيين غير مستعدين لتوظيف الأموال للتنقيص من التلوث على عين المكان بإقامة محطات تطهير بكل مؤسسة. وهذا مرتبط بطبيعة قطاع النسيج ذاته. فهو أولا: قطاع مكون من مؤسسات صغرى ومتوسطة ومستغنى عنها في البلدان الرأسمالية المتطورة. وثانيا: هو قطاع سعى أصحابه إلى تحقيق الربح الأقصى دون احترام للإنسان والبيئة.

ومن الملاحظ أن المؤسسات الصناعية بقطاع النسيج بالبلدان الأوروبية وفي الولايــات المتحدة الأمريكية تسعى تحت ضغط الرأي العام وخصوصا حماة البيئة، إلى حل مشكلات التلوث عبر مقاربة مندمجة ومتسعة وذلك بتغيير نوعية الآلات المستعملة دون المس بنوعية المواد المنتجة. إن هذه العقلية المتطورة في مجال احترام الصناعة الحديثة للمحيط والبيئة أصبحت تعرف بـ"الإنتاج الأكثر نظافة".

إن الدراسة المذكورة التي تمسح أكثر من 1000 صفحة هي من الدراسات الدقيقة والمفصلة التي دقت ناقوس الخطر منذ عام 1997 وطالبت بالإيقاف الفوري لرمي النفايات الصناعية للحفاظ على البيئة ونبهت للكارثة المحدقة منذ ذلك الوقت. وعوض أن تمارس السلطات الرقابة الصارمة وتفرض على الصناعيين احترام الاتفاقيات الدولية في مجال حماية البيئة، فإنها غضت الطرف عن التجاوزات العديدة التي يرتكبونها علما وأن عدد المؤسسات وخاصة في المجالات الأكثر تلوينا قد زاد على طول الشريط الساحلي بجهة المنستير التي أصبحت تمثل منطقة مهددة إلى جانب بن عروس وقابس. والأنكى من ذلك هو أن إمكانية درء الخطر في مثل الظروف الحالية أصبح مستبعدا.

وخلاصة القول إن المعطيات المتوفرة في الدراسة المشار إليها تكذّب ادعاءات السلطة بأن ما تشهده منطقة الساحل من مشاكل بيئية هو "حالة طبيعية" وهو ما يجعلها تجرم مرتين: الأولى عند سماحها لأصحاب رأس المال بعدم احترام شروط حماية البيئة وهو ما سبب الكارثة الحالية، والثانية عند محاولة طمسها للحقيقة وعدم اتخاذ الإجراءات اللازمة لتفادي اتساع انعكاسات الكارثة.

القمع ولا شيء غير القمع

أثبتت تحركات أهالي القصيبة أن نظام بن علي يرفض الاستماع إلى صوت المواطنين ويحرمهم من التعبير عن رأيهم في مختلف المجالات حتى أخطرها على حياتهم. وهو ما يفسر حالة الحصار التي فرضت على المدينة لمدة أسبوع. كما يفسر الهمجية التي تصرف بها البوليس السياسي مع مناضلات ومناضلي الحركة الديمقراطية الذين ساندوا تحركات المواطنين. وقد تأكد مرة أخرى خوف نظام بن علي من التحركات الشعبية ومن إمكانية الالتقاء بينها وبين حركة المجتمع المدنــي والسياسي. ومهما يكن من أمر فالقمع لن ينفع نظام الطغيان، عدو الإنسان والطبيعة. والأهم اليوم هو أن يتواصل النضال في القصيبة وأن تتحول الحركة فيها إلى حركة عامة في كامل تونس من أجل حماية الإنسان والطبيعة.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني