الصفحة الأساسية > البديل العربي > رحل "الحكيم" وفي نفسه شيء من الحصار ومن الوحدة الوطنية
رحل "الحكيم" وفي نفسه شيء من الحصار ومن الوحدة الوطنية
25 شباط (فبراير) 2008

الذين كانوا بجانب جورج حبش وهو في اللحظات الأخيرة قبل وفاته يقولون بأنه كان دائم السؤال عن حصار غزة، وما إذا كانت المعابر ما تزال مغلقة؟ كما أنه كان شديد الانشغال بما آلت إليه الأوضاع الفلسطينية بعد تفجر الصراع الداخلي بين "فتح" و"حماس".

رحل الدكتور جورج حبش عن سنّ تناهز 83 عاما بعد صراع مرير مع المرض. وبعد رحيله نشطت وسائل الإعلام الغربية المرتبطة بالامبريالية والصهيونية لتقديمه في صورة "الإرهابي" مذكّرة العالم بأنه هو الذي أسس "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" بعد نكسة 67 مع عدد من رفاق دربه (من بينهم الشهيد أبو علي مصطفى)، والتي ظل أمينا عاما لها حتى سنة 2000 حين أجبره المرض على التنحي، وأنه هو الذي أشرف على عمليات خطف الطائرات وتفجيرها في مطار الثورة الأردني عام 1970، وأنه هو الذي أمر بإطلاق النار على 27 إسرائيليا في مطار اللد عام 1972، وأنه كان من أكثر القادة الفلسطينيين تصلبا في مواجهته للكيان الصهيوني، حتى أن قولته المشهورة ما تزال تجد لها صدى إلى اليوم: "لا يمكن التفاوض مع إسرائيل إلا عبر فوهة البندقية". لكن وسائل الإعلام هذه لا تتساءل عن الأسباب الذي يمكن أن تحوّل طبيب أطفال ينتمي إلى عائلة غنية إلى زعيم لأشد التنظيمات الفلسطينية نضالية وتجذرا؟ كان بإمكان حبش أن يحيا حياة مختلفة وسط أسرته الميسورة التي مكنته من دراسة الطب في الجامعة الأمريكية ببيروت، بل كان بإمكانه أيضا ترك الشعب الفلسطيني والعيش في أي بلد آخر يختاره.

لكن عصابات الهاغانا الصهيونية هي التي جعلته يختار طريق النضال والالتصاق بهموم شعبه بعيدا عن إغراءات الحياة. لقد هاجمت هذه العصابات قريته (قرية اللد) التي ولد بها سنة 1926، وشردت عائلته وقتلت أخته فاضطر إلى دفنها سرا في حديقة منزله. وفي سنة 1948 عاش النكبة عن قرب وهرب مع من هربوا من عصابات الهاغانا التي كانت تلاحقهم. لقد شبّ على صور النساء والعجائز والأطفال وهم يسقطون تعبا تحت الشمس الحارقة متوجهين مشيا على الأقدام إلى رام الله، وبعضهم لقي حتفه. ترك وراءه قريته دون أن ينسى أخذ حفنة تراب من قبر أخته. وما تزال هذه الحفنة موجودة إلى اليوم في مكتبه. كما أن وسائل الإعلام هذه لا تعير اهتماما للشهادات التي يقدمها المقربون منه والتي تؤكد أن حبش، الثوري العنيد، كان يمتاز بشخصية مرهفة الحسّ، هادئة، مع شيء من الحزن الذي له ما يبرره. يقول المقربون منه إنه لا يبدأأي حديث معك إلا بعد أن يسأل عن أحوالك وأحوال عائلتك، ليمتد السؤال بعد ذلك إلى المنفيين والأسرى وزوجات وأبناء الشهداء... لقد نشأ في أسرة غنية لكنه مات "فقيرا" دون أن يخلف لا رصيدا في البنك ولا عقارات... حتى أنه قال بعد أن جاوز الثمانين:" صدقوني إني لا أعرف كيف يكتب أو يصرف الشيك المصرفي". لكنه خلّف رصيدا نضاليا حافلا بالبطولات والإنجازات وصارت مواقفه وكتاباته مرجعا للجيل الحالي من المناضلين، حتى أصبح يلقـّب بـ"ضمير القضية الفلسطينية" التي لم يتزعزع عن ثوابتها.

انجذب في بداياته السياسية إلى الفكر القومي الذي كان سائدا في الخمسينات، ثم سرعان ما بدأ يأخذ منحى يساريا، ليعلن صراحة معرّفا نفسه:" أنا ماركسي، يساري الثقافة، والتراث الإسلامي جزء أصيل من بنيتي الفكرية والنفسية، معنيّ بالإسلام بقدر أية حركة سياسية إسلامية، كما أن القومية العربية مكوّن أصيل من مكوناتي... أنا منسجم مع قوميتي العربية ومسيحيتي وثقافتي الإسلامية وماركسيتي التقدمية".

كان من أشد المعارضين لكل الاتفاقات الاستسلامية التي أبرمتها السلطة الفلسطينية والأنظمة العربية، واصفا إياها بأنها "مجرد كاريكاتير لدولة ومجموعة تنازلات لا أكثر". لكنه بالمقابل كان شديد الحرص على الوحدة الوطنية التي كان يضعها فوق كل اعتبار، فلم ينزلق نحو المواقف الطفولية التي من شأنها معاداة من يخالفونه الرأي في التنظيمات الفلسطينية الأخرى، وعمل على حقن الدم الفلسطيني وعدم الانزلاق نحو صراع داخلي لن يستفيد منه سوى المحتل. وعندما استفحل الصراع المسلح بين "فتح" و"حماس" كان من أشد المنبهين إلى خطورته والداعين إلى الحفاظ على الوحدة الوطنية.

ولا ننسى ونحن ننعى الفقيد ما كان له من تأثير في تكوين اليساريين التونسيين في السبعينات والثمانينات، فنحن إذ ننعاه اليوم إنما ننعى واحدا منا، من عائلتنا اليسارية والتقدمية. فوداعا يا جورج... عهدا لن نتخلى عن المشعل.

حافظ



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني