الصفحة الأساسية > البديل النقابي > محاكمة النقابيين... المهزلة
30 سنة بعد الخميس الأسود (2):
محاكمة النقابيين... المهزلة
25 شباط (فبراير) 2008

انتهت حملة التصعيد الحكومي مثلما رأينا في العدد السابق ( انظر صوت الشعب – العدد 260 – جانفي - 2008 : الذكرى 30 للخميس الأسود – الأسباب والدروس ) إلى المصادمة الكبرى يوم الخميس 26 جانفي 1978 تاريخ الإضراب العام الذي أعلنه الاتحاد العام التونسي للشغل بعد أن بلغ التوتر أشده في علاقة المنظمة النقابية بالسلطة وبات من غير الممكن التوصل إلى اتفاق بينهما.

وكانت الأيام التي سبقت الإضراب العام مشحونة هي الأخرى بمواجهات قطاعية وجهوية مثل الإضراب العام في قطاع الفلاحة والإضراب العام الجهوي بصفاقس يوم 25 جانفي 1978 احتجاجا على اعتقال الكاتب العام للاتحاد الجهوي عبد الرزاق غربال قبل يوم من ذلك.

وبطبيعة الحال امتدت حملة الإعتقالات لتشمل يوم 26 جانفي والأيام الموالية له القيادة النقابية أي كافة أعضاء المكتب التنفيذي باستثناء خليفة عبيد الذي كان في مصحة للتداوي والتيجاني عبيد الذي انقلب على القيادة وقاد عملية التنصيب بعد أن أنكر، وتنكر، واستنكر قرار الإضراب العام.، وكذلك عددا هاما من أعضاء الهيئة الإدارية الوطنية وكتابا عامين للاتحادات الجهوية والمحلية ومسؤولين من نقابات جهوية وأساسية ومناضلين نقابيين وعمال ناشطين وعددا كبيرا ممن ألقي عليهم القبض في الشارع أثناء المظاهرات والمواجهات التي شهدتها بعض دور الاتحاد.

الغالبية الساحقة من النقابيين تم اعتقالهم بدور الاتحاد والبعض منهم دوهم بمقر السكنى أو في مقر العمل وجرت الاعتقالات والمداهمات على امتداد أيام قبل الإضراب وخلاله وبعده العام وبطبيعة الحال أودع الجميع السجن قبل أن يمروا من مخافر وسراديب وزارة الداخلية ومحلات "أمن الدولة" حيث مورست عليهم شتى أشكال التعذيب والتنكيل بإشراف العسكري الذي نودي عليه قبل حوالي الشهر ليرأس إدارة الأمن الوطني ويقود الهجوم على الحركة النقابية، الكولونيل زين العابدين بن علي. ومن الذين تعرضوا للتعذيب بشكل خاص، إلى جانب الشهيد حسين الكوكي (الكاتب العام للفرع الجامعي للبنوك – سوسة) الذي توفي بالسجن متأثرا بمخلفات التعذيب و سعيد قاقي (المعاش والسياحة – تونس) الذي توفي بمنزله بعد معاناة ومعالجة لمدة طويلة جراء آثار التعذيب وإسماعيل السحباني الكاتب العام لجامعة المعادن آنذاك والحبيب بن عاشور الكاتب العام للاتحاد الجهوي بسوسة ومحمد شقرون الكاتب العام لنقابة المسابك المتجمعة وعبد السلام جراد الكاتب العام لجامعة النقل ومسعود كليلة (جامعة السكك الحديدية) وصالح برور (الكاتب الخاص للأمين العام آنذاك) وبلقاسم الخرشي (عضو جامعة المعادن – بن عروس ) وعبد المجيد الصحراوي (المعادن – سوسة) وغيرهم كثير.

ثم انتصبت المحاكم لمقاضاة أكثر من ألفي مواطن (حسب ما جاء على لسان الدفاع أثناء محاكمة سوسة مثلا) بـ"التآمر على أمن الدولة" و"التخطيط والعمل على قلب نظام الحكم" و "تحريض السكان على التسلح ضد بعضهم البعض" و"الحث على التجمهر المسلح في الطريق العام" و "مسك مستودعات من الذخيرة والأسلحة وتوزيعها" و"حمل السلاح بدون رخصة" و"الإخلال بالنظام العام" و "الإضرار بملك الغير" و "الاعتداء على موظف أثناء أداء وظيفته" وغيرها من التهم. وقد شملت هذه المحاكمات إلى جانب القيادات النقابية من مختلف المستويات والجهات والقطاعات، أفراد عائلاتهم وعددا كبيرا – ما يزال حتى الآن غير معروف – ممن أوقفوا أثناء وبعد المظاهرات والمسيرات من شبان وطلبة وتلامذة وعمال وعاطلين وقد حوكم العديد من هؤلاء دون علم من أهاليهم ومن الرأي العام ومن وسائل الإعلام وألحِقت بهم أحكام قاسية.

وتبقى أشهر المحاكمات تلك التي انتصبت ضد نقابيي سوسة ابتداء من جويلية 1978 وقضية القيادة النقابية التي نظرت فيها محكمة أمن الدولة الاستثنائية ابتداء من يوم 14 سبتمبر 1978.

محاكمة نقابيي سوسة

شملت هذه القضية 124 نقابيا حفظت القضية في شأن 27 منهم ومن ضمنهم الشهيد حسين الكوكي الذي لفظ أنفاسه الأخيرة عند نقله من مخافر الشرطة إلى مستشفى المكان. وكان 42 في حالة إيقاف منذ يوم 26 جانفي 78، ومنهم من أوقف وأطلق سراحه ثم اعتقل من جديد. وق حُوكم جميعهم حسب ما ورد في قــرار ختم البحث الذي جاء في أكثر من 50 صفحة واستغرقت قراءته يوم المحاكمة أكثر من ساعتين من اجل تهم بعضها عقوبتــه الإعدام والأشغال الشاقة وهي موجهة خاصة إلى أعضاء الاتحاد الجهوي وبالأخص لكاتبه العام آنذاك الحبيب بن عاشور ومنصف قمر وعبد المجيد الصحراوي ومحمد بلعجوزة [1] . وكان "الحزب الدستوري" قد أصدر قبيل انطلاق المحاكمات "الكتاب الأزرق" الذي شكل، كما بين ذلك لسان الدفاع المرجع الذي اعتمد في صياغة التهم وسرد الأحداث وتحديد المسؤوليات فيها.

غير أن المحالين على المحكمة نجحوا، بمعية لسان الدفاع، في تحويل المحاكمة إلى منبر لطرح قضايا سياسية عامة وملفات كبيرة مثل التعذيب الذي مورس على الموقوفين وتلفيق التهم والادعاءات حول المحجوز والإخلال بالإجراءات القانونية المعمول بها ومن وراء ذلك استقلالية القضاء.

لقد تحولت هذه المحاكمة إلى منبر للدفاع عن الاتحاد وعن حقه في السعي إلى فرض استقلاليته وللتنويه بدوره التاريخي في النضال الوطني والاجتماعي وفي "بناء الدولة التونسية"، كما أنها تحولت أيضا إلى محاكمة للنظام نفسه وخاصة للشق المتصلب المهيمن على الدولة والحزب بقيادة نويرة-الصياح وفرحات.

وعلاوة على المطالبة بالإفراج عن المحاكمين نادى لسان الدفاع، بناء على شهادات موثقة وأدلة دامغة بمحاكمة الذين مارسوا التعذيب وكذلك أعوان الميلشيات الذين جيء ببعضهم لملء قاعة المحكمة ومنع العائلات من الحضور. كما أبرز الدفاع الطابع السياسي للمحاكمة وخاصة نوايا تصفية الحسابات وفند التهم الموجهة إلى الموقوفين وفضح أكذوبة " مخازن السلاح " و" إثارة الحرب الأهلية " الخ... ذلك ما أجبر الحكومة في خطوة أولى على إصدار توضيحات للرد على ما راج لدى الرأي العام حول تعذيب النقابيين (انظر بيان وكالة تونس إفريقيا لأنباء [2]) ثم وفي خطوة ثانية على إعلان محكمة الجنايات بسوسة يوم 15 أوت 1978 تخليها عن النظر في قضية النقابيين المنشورة لديها والتي عقدت بشأنها أكثر من جلسة ليتبين لها أخيرا أنها ليست ذات اختصاص إذ أعلن رئيسها القاضي يوسف بن يوسف مساء يوم الثلاثاء 15 أوت 1978 أنه بالنظر إلى التهم الموجهة وهي: "النيل من أمن الدولة الداخلي وبث البلبلة والحث على التسلح... وعلى هذا الأساس فإن طبيعة القضية برمتها ليست من اختصاص محاكم الحق العام وهي بالتالــي خارجة عن أنظار الدائرة الجنائية طبقا لقانون 1968 المحدث لمحكمة أمن الدولة" لذلك "وقع إبقاء المتهمين على ذمة النيابة العمومية وتخلت محكمة الجنايات عن النظر في القضية لفائدة المحكمة المختصة أي محكمة أمن الدولة.." وهكذا التحق نقابيو سوسة ببقية النقابيين ليحالوا على محكمة أمن الدولة.

ولم تكن هذه السابقة لتروق الوزير الأول الهادي نويرة الذي صرح إثر ذلك في اجتماع بلجنة التنسيق الحزبي بتونس وفي محاولة منه للتأثير في قرار محكمة التعقيب التي نشر لديها مطلب النيابة العمومية لنقض قرار التخلي الذي أعلنته محكمة سوسة، صرح قائلا :"إننا غير راضين بهذا التأويل ومصممون على التمسك برأينا في أن القضية هي من أنظار محاكم الحق العام ومن حقنا كحكومة مسؤولة أن نعقب قرار محكمة سوسة لدى محكمة النقض والإبرام ونطالبها وهي أكبر محكمة بأن تحكم بما يقتضيه القانون..."وقد أيدت محكمة التعقيب آنذاك قرار محكمة سوسة في اعتبارها "غير ذات اختصاص".

ومهما اختلف الملاحظون آنذاك في تفسير قرار المحكمة هذا، فإنه بلا شك كان يعكس في جانب كبير منه الارتباك الذي طرأ على هيئة المحكمة أمام الضغوط المسلطة عليها من قبل الرأي العام والنقابيين الموقوفين ومن العائلات وكذلك نتيجة الطابع المهزلي للتهم و"القرائن" المعتمدة ضدهم. كما يعكس بداية تصدع صف الفريق الحاكم والمصاعب التي كان يعانيها من أجل تمرير قضية سياسية بامتياز على أنها مجرد قضية حق عام.

محاكمة القيادة النقابية:

انطلقت محاكمة القيادة النقابية من قبل محكمة أمن الدولة يوم الخميس 14 سبتمبر 1978 بثكنة بوشوشة بتونس العاصمة وقد تعلقت القضية بـ 34 نقابيا، 4 منهم في حالة سراح والبقية رهن الإيقاف منهم 11 عضوا بالمكتب التنفيذي الوطني للاتحاد و16 عضوا بالهيئة الإدارية الوطنية وكانت أولى مفاجآت هذه المحاكمة غياب الرئيس الأصلي لهذه المحكمة الاستثنائية القاضي محمد الصالح العياري وتعويضه بالقاضي محمد الطاهر بولعابة الفاطمي الذي استشعر منذ البداية صعوبة العمل بالنظر للهتافات التي انطلقت منذ دخول المتهمين قاعة المحكمة [3] وبالنظر لإلحاح لسان الدفاع على سحب أعوان البوليس وكذلك للاحترازات المرفوعة ضد وجود عنصرين ممثلين عن مجلس النواب ضمن طاقم المحكمة هما النائبان حسين المغربي ومصطفى عياد باعتبار أن هذين الممثلين هما من "حزب الدستور" الـذي هو طرف أساسي في النزاع. [4]

وقد أكد رئيس المحكمة منذ البداية اعتزامه تطبيق أحكام القانون المحدث لهذه المحكمة وخاصة الفصل 17 الذي يخول لرئيس المحكمة اتخاذ قرار التوبيخ والتجميد ومؤاخذة وإحالة المحامين بنفس الجلسة في حال حصول "إخلال" أو "تجاوز" لذلك دعا المحامين، وكان عددهم يزيد عن 75 محاميا، لـ"عدم الإطناب الممل أو الإيجاز المخل ".

وقد قضى رئيس المحكمة بالفعل وفوريا خلال آخر جلسة بتاريخ الاثنين 2 أكتوبر 1978 بشطب الأستاذ محمد بللونة لمدة عامين وتوجيه توبيخ للأستاذ نور الدين البودالي.

ورغم كل المحاولات من أجل تأجيل النظر في القضية لتمكين لسان الدفاع من الاطلاع على الأبحاث التي جاءت في ما يزيد عن 5 ألاف صفحة فإن هيئة المحكمة أصرت على الشروع في أشغالها وتمت تلاوة قرار ختم البحث الذي استغرق ساعات طويلة، لذلك اضطر المحامون إلى الانسحاب فقررت المحكمة تسخير 18 محاميا بدلا عنهم بعضهم جديد بالمهنة وليست لهم جميعا أية دراية بالملف ناهيك أن ثلاثة منهم انسحبوا في الأخير.

ذلك ما جعل البعض يطلق على هذه المحاكمة اسم "محاكمة الصمت" لأن لسان الدفاع المكلف كان انسحب والمتهمون رفضوا الإجابة على أسئلة المحكمة في غياب محامييهم، كما رفضوا المحامين المسخرين الذين كانت مرافعات بعضهم إدانة أكثر منها دفاعا. [5].

وكان رئيس المحكمة رغم حضور العديد من الملاحظين الأجانب يتقدمهم "أوتو كريستن" الأمين العام للسيزل ونائبه "وارفين بروان" ممثل النقابات الأمريكية في أوروبا وعديد الصحافيين، وفي حضور العائلات وذوي المتهمين، رفض مطلب الحبيب عاشور وبعض أعضاء المكتب التنفيذي بإحضار بعض الشهود وخاصة أحمد المستيري والحسيب بن عمار والباجي قائد السبسي باعتبارهم كانوا قاموا قبل 26 جانفي بوساطة بين الحكومة والاتحاد لم تجدِ نفعا، واكتفى رئيس المحكمة بتسلم شهادة مكتوبة منهم بلغوها له عبر المحامين.

كان كل شيء معدا لكي يقع الانتهاء من هذه المهزلة على وجه السرعة، بل أقصى السرعة، لذلك وفي الجلسة الثالثة بتاريخ الاثنين 2 أكتوبر اختـَلـَت هيئة المحكمة لمدة 13 ساعة لتعلن على الساعة الواحدة صباحا من يوم الثلاثاء 3 أكتوبر 1978 الأحكام المقررة ضد القيادة النقابية ليسدل الستار على هذه الفضيحة القضائية.

كان من المنتظر، في ضوء التهم الموجهة إلى المتهمين والموقوفين منهم بالخصوص والحبيب عاشور الأمين العام للاتحاد وعبد الرزاق غربال الكاتب العام للاتحاد الجهوي بصفاقس وعدد من أعضاء الهيئة الإدارية، وحسب المواد القانونية المحالين بمقتضاها على المحكمة، وخاصة الفصل 72 و74 من القانون الجزائي، أن تصدر ضدهم أحكام بالإعدام. لكن وفي تراجع سريع وغير مفهوم مقارنة بحملات الدعاية الرسمية والشحن السياسي في جميع منابر الإعلام والدعاية في البلاد أصدرت المحكمة قرارها الآتي :

-  10 سنوات أشغالا شاقة لكل من الحبيب عاشور وعبد الرزاق غربال
-  8 سنوات أشغال شاقة لكل من حسن حمودية والصادق بسباس وخير الدين الصالحي أعضاء المكتب التنفيذي
-  6 سنوات أشغال شاقة لكل من الحسين بن قدور والطيب البكوش ومصطفى الغربي أعضاء بالمكتب التنفيذي وصالح برور الكاتب العام للنقابة العامة لديوان التشغيل
-  5 سنوات أشغال شاقة لكل من محمد عزالدين وعبد الحميد بلعيد (أعضاء المكتب التنفيذي) واسماعيل السحباني الكاتب العام لجامعة المعادن ومحمد شقرون الكاتب العام لنقابة المسابك المتجمعة ومحمد الناجي الشعري الكاتب العام لنقابة الاذاعة والتلفزة وعبد الرزاق أيوب عضو المكتب التنفيذي المكلف بجهة تونس وكاتبها العام
-  6 أشهر مع تأجيل التنفيذ لكل من عبد العزيز بوراوي (عضو المكتب التنفيذي) وعبد السلام جراد (الكاتب العم لجامعة النقل) وسعيد الحداد (الكاتب العام لجامعة الستاغ) وعلالة العامري (الكاتب العام لجامعة النفط والكيمياء) ونورالدين البحري (الكاتب العام للجامعة القومية للتعليم) وأحمد الكحلاوي (الكاتب العام لنقابة لتعليم التقني والمهني) ومحمد الصالح الخريجي (الكاتب العام لنقابة أساتذة التعليم الثانوي) والحاج محمد الدامي (الكاتب العام لجامعة التجهيز والاشغال العامة) وسعيد قاقي، الكاتب العام لجامعة المعاش والسياحة (غيابيا بسبب وجوده بالمستشفى).

عدم سماع الدعوى لكل من الصادق العلوش (عضو المكتب التنفيذي) ومسعود كليلة (الكاتب العام لجامعة السكك) والبشير المبروك (الكاتب العام لجامعة البناء) ومحمد الشلي (الكاتب العام نقابة ديوان المواني) وحسين بن رحومة (الكاتب العام نقابة موظفي وزارة التربية) وعزوز الذوادي (الكاتب العام نقــــابة عملة التربية القومية).

وللإشارة فإن عائلات الموقوفين سواء من تونس أو من سوسة لقوا مضايقات كثيرة سواء في ظروف الحياة اليومية أو عند الحضور بالمحكمة ووصلت هذه المضايقات حد إحالة البعض على المحكمة بتهم ملفقة (التجمهر والتشويش في الطريق العام...). ففي تونس مثلا أحيل يوم السبت 30 سبتمبر 14 شخصا من أقارب الموقوفين وحكم على 13 منهم بسنة سجن وواحد بسنة ونصف لأنهم احتجوا على منعهم من حضور جلسة محكمة امن الدولة ببوشوشة في حين سمح لعناصر من الحزب الحاكم باحتلال قاعة الجلسة منذ الصباح الباكر. وقد ألقي القبض على أفراد العائلات يوم الخميس 28 سبتمبر 1978 وحوكموا بعد يومين فقط.

وكما سبق أن أشرنا إلى ذلك فإن المحاكمات طالت أيضا نقابيين من القصرين وصفاقس وباجة ومن عدة جهات أخرى بعضها مرّ طي التعتيم خاصة عندما كان الأمر يتعلق بشبان عاطلين أو طلبة أو عمال متهمين بالتظاهر والتشويش وما إلى ذلك من التهم.

لقد أثارت كل هذه المحاكمات ردود أفعال متنوعة، سياسية ونقابية [6] واجتماعية ودبلوماسية [7] نشأت ضمنها حركة تضامن كبيرة وواسعة داخل البلاد حيث بعثت، من بين ما بعثت "تنسيقية نقابية" لـ"الهياكل الشرعية"، وخارجها في صلب المنظمات النقابية العربية والدولية أو في أطر ظهرت خصيصا لمساندة " قضية الاتحاد العام التونسي للشغل " مثل لجنة المساندة التي بعثها عدد من المعارضين والطلبة والنشطاء التونسيين بباريس [8]. وشملت الحركة التضامنية السجناء السياسيين اليساريين (منظمة آفاق، العامل التونسي) القابعين بالسجن منذ سنوات. فأضربوا عن الطعام يوم 26 جانفي 1978 تضامنا مع الاتحاد العام التونسي للشغل، وعبروا في أكثر من مناسبة أخرى، عن طريق الكتابة أو إضرابات الجوع عن شجبهم للقمع المسلط على العمال وحركتهم النقابية.

لقد تضافرت جهود شتى وعوامل متنوعة ومختلفة أدت كلها إلى تضييق الخناق على النظام التونسي الذي بات سجين "ورطة" المنظمة النقابية، الاتحاد العام التونسي للشغل.
وازدادت مصاعب نظام الحكم أكثر بفشل الانقلاب الذي دبره بالاعتماد على التيجاني عبيد وقلة من الانتهازيين الذي ظلوا في عزلة تامة عن الحركة النقابية وعن جماهير العمال الذين اشتدت نقمتهم تماما كما كان حال عامة الشعب بسبب تفاقم مظاهر القمع السياسي إلى جانب تدهور ظروف المعيشة والحياة ككل واحتداد الفوارق الطبقية وبين الجهات، ذلك أن الرجعية الدستورية استغلت تكسير المركزية النقابية لتطلق أيدي الأعراف ورؤساء المؤسسات.

وفي كلمة تعمقت الأزمة العامة للنظام فجاءت أحداث قفصة يوم 27 جانفي 1980 ، لتعلن انتهاء مرحلة كاملة وسقوط رموزها (نويرة، عبد الله فرحات، الخ....) وانطلاق مرحلة جديدة، مرحلة مزالي، تحت عنوان "التفتح" التي تم تدبير حل "المصالحة النقابية" كواحد من مفاتيح تمرير "التغيير" حتى تستمر هيمنة البرجوازية العميلة ونظامها البورقيبي وحزبه وكأن شيئا لم يكن.

(يتبع)

هوامش

[1اتهم محمد بلعجوزة بتصنيع مدفع وتضمنت التهم الموجهة للموقوفين تهمة إعداد "مخزن للأسلحة" لقلب نظام الحكم منها مثلا مفتاح براغي (tourne vis) صغير أصفر. أما مدفع بلعجوزة فلا يعدو كونه خشبة شدّ لها قضيب حديدي.

[2أصدرت الصحف التونسية يوم الثلاثاء 22 أوت 78 تقريرا لوكالة تونس إفريقيا للأنباء (وات) حاولت فيه الرد على ما اتهمت به الحكومة والبوليس من ممارسة التعذيب في حق الموقوفين وما أتته من تجاوزات بخصوص محاكمة النقابيين ومن جملة ما جاء فيه، أنه استنادا إلى "الجهات المختصة" فإن التعذيب "لم يكن إلا أكاذيب ومزاعم نسجها خيال المتهمين ولسان الدفاع ..." كما جاء فيه أيضا أن "المرحوم حسين الكوكي توفي فجأة ولم يعلم أي كان مسبقا بأنه مصاب أو شعر بألم ..." في حين أن تقرير حاكم التحقيق يشهد بعكس ذلك إذ يقول:" وبمحضرنا تولى ثلاثتهم (الأطباء) تشريح جثة الهالك حسين المذكور بعد أن شاهدنا بها ثقب بجانب الثدي الأيمن وأخرى بذراعه الأيسر جعلتا لحقن الدواء منهما له في قيام حياته كما شاهدنا آثار زرقة بسطح الجلد على الظهر والكتفين ...".

[3منذ دخول قاعة الجلسة كان الموقوفون يهتفون بشعارات كثيرة منها بالخصوص " كوني حرة يا عدالة " وينشدون نشيد الثورة: حماة الحمى...

[4كان حسين المغربي ترأس قبل ذلك في نطاق مسؤولياته الحزبية "اجتماعا عماليا" بشركة " بانورويا " بجبل جلود صرح فيه بالقول "إن الانحراف الأخير في قيادة الاتحاد العم التونسي للشغل كان يستهدف القضاء على هذه الدولة بعد أن تسربت عناصر شيوعية في صلب المنظمة النقابية" مما يعني أن موقفه من القضية ليس محايدا ولا يمكن أن يكون موضوعيا ليقبل به ضمن طاقم المحكمة.

[5في محاكمة نقابيي سوسة مثلا ندد المحامي عبد السلام بوكر في مرافعته بالاضراب العام واعتبره "جريمة في حق البلاد والشعب" وصب جام غضبه على جريدة "الشعب" لتحريضها على "التطاحن" حسب زعمه. وللدفاع عن منوبيه وصفهم "بالجهلة والأميين" الأمر الذي جعلهم يطالبون بمنعه من الدفاع عليهم وهو ما استجابت له المحكمة وتم إسكاته.

[6أصبحت القيادة المنصبة على رأس الاتحاد في حالة عزلة داخليا إذ عبرت كل النقابات تقريبا بصورة تلقائية عــن رفض التنصيب قبل أن يقع تنظيم المقاومة للدفاع عن الشرعية. وازدادت هذه العزلة أكثر حينما أعلن في شهر سبتمبر 1978 عضوان من المكتب التنفيذي المنصب عن استقالتهما هما خير الدين بوصلاح ومحسن الدريدي وعدد من النقابيين من مختلف الجهات ( المتلوي، قرقنة...) والقطاعات (البناء...) فيما تمسكت هياكل كثيرة بالعمل خارج القيادة المنصبة.

[7استدعى وزير خارجية بلجيكا يوم 4 أكتوبر 78 سفير تونس ببروكسيل ليعبر له عن " انشغال حكومته " إزاء محاكمة القيادة النقابية في تونس

[8تشكل في باريس " تجمع 26 جانفي " تولى تنظيم الدعاية ضد سياسة النظام تجاه الاتحاد العام التونسي للشغل وحشد الدعم في فرنسا وفي عموم أوروبا للشرعيين والمحاكمين والمطرودين ونظم أعمالا احتجاجية كثيرة منها المظاهرات أمام سفارات تونس بأوروبا وخاصة بباريس.



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني