الصفحة الأساسية > كتب ومنشورات > حزب العمال الشيوعي التونسي: موقف ثابت ومتماسك من انقلاب 7 نوفمبر 1987 > رسالة من الناطق الرسمي باسم حزب العمال الرفيق حمه الهمامي إلى عدة شخصيات ديمقراطية (...)
الفهرس
حزب العمال الشيوعي التونسي: موقف ثابت ومتماسك من انقلاب 7 نوفمبر 1987
رسالة من الناطق الرسمي باسم حزب العمال الرفيق حمه الهمامي إلى عدة شخصيات ديمقراطية وتقدمية

باريس في 18 ديسمبر 1987

حضرة السيد(ة) المحترم(ة)

تحية وبعد،

فإنني أبعث إليكم هذه الرسالة لإعلامكم بأنني وجهت بتاريخ 15 ديسمبر الجاري مكتوبا إلى وزير الداخلية (أنظر الهامش) أطالبه فيه بتشريع "حزب العمال الشيوعي التونسي" وذلك استنادا إلى الفصل الثامن من الدستور الذي يضمن حرية التنظم لكافة المواطنين. وإنني إذ أحيطكم علما بهذا الأمر فلاعتقادنا أنه لا يهمنا نحن فقط أعضاء "حزب العمال الشيوعي التونسي" وإنما يهم جميع الديمقراطيين والمناضلين من أجل الحرية، خاصة أن حزبنا ظل منذ تأسيسه في ديسمبر 1985 محظورا بمقتضى قانون الجمعيات الذي أصبح طابعه التعسفي والمنافي للدستور غير خاف على أحد فضلا عن تعدد ضحاياه منذ صدوره سنة 1959. وقد اضطررت إلى توجيه مكتوب إلى وزير الداخلية من مقر إقامتي بالهجرة للأسباب التي قد تكونون على علم بها. فمنذ شهر جويلية المنصرم صدر ضدي حكم بـ18 شهرا سجنا من طرف محكمة قابس بتهمة ثلب رئيس الدولة والحث على الاعتداء على أمن الدولة الداخلي والاحتفاظ بجمعية غير مرخص فيها. والغريب في الأمر أن هذا الحكم صدر ضدي وأنا متغيب وقتها عن البلاد منذ حوالي سنة. كما أن ملف القضية خال من كل ما من شأنه أن يجعل المحكمة تتصرف بهذا الشكل. فقد أضيف اسمي اعتباطيا إلى قائمة "المتهمين" من قبل النيابة العمومية. ولا شك أنكم تدركون أنه ما لم تتوفر ضمانات حقيقية ورسمية للمغتربين السياسيين كي يعودوا إلى وطنهم، تونس، فإن كل من هو في وضعيتي لا يمكنه أن يجازف بحريته وبحرمته الجسدية.

حضرة السيد(ة) المحترم(ة)

إن مطالبة مناضلي "حزب العمال الشيوعي التونسي" بحقهم في التواجد القانوني والعلني أمر لا يقتضيه احترام المبادئ الديمقراطية فحسب ولكن تحتمه أيضا التضحيات التي قدمتها القوى الديمقراطية ومن بينها حزبنا، في النضال ضد الديكتاتورية والقهر ومن أجل إقرار الحرية السياسية في وطننا العزيز. إن حزبنا رغم حداثته، أسهم بصورة نشيطة وحازمة في هذا النضال وقد دفع ثمنا لذلك العشرات من المعتقلين، الذين ما زال معظمهم قابعا في السجن، والملاحقين فضلا عن استشهاد أحد مناضليه تحت التعذيب وهو الرفيق نبييل البركاتي، النقابي بقعفور.

ولقد أكد حزبنا في مكتوبه إلى وزير الداخلية على حقه في التواجد القانوني دون تقييد ذلك بأي شرط فكري أو سياسي أو بإجراءات تفرغ ممارسة هذا الحق من محتواه. ومعنى هذا أننا نطالب بتشريع حزبنا دون التخلي ولو قيد أنملة عن أفكارنا وبرنامجنا وقوانينا الأساسية التي نعتبر أنها لا يمكن أن تكون موضوع بيع وشراء مقابل الاعتراف بنا. ونحن إذ نشدد على هذه المسألة فلاعتقادنا أن حرية التنظم حق غير قابل للمساومة وأن التمتع به لا ينبغي أن يخضع لتأشيرة من الحزب الحاكم، بل لا بد أن تتمتع به جميع الأحزاب والجمعيات بدون استثناء لتتمكن من التعبير علنيا وأمام العموم وبكل الوسائل المتاحة (الصحافة والاجتماعات إلخ..) عن آرائها وعن الحلول التي تراها ضرورية لتجاوز الأزمة العميقة التي تنخر مجتمعنا والتي تعود مسؤوليتها كاملة إلى الحزب الحاكم الذي احتكر الحياة السياسية لمدة ثلاثين سنة ونيف وخنق كل نفس ديمقراطي بالبلاد. ولسد الباب أمام جميع أشكال الإقصاء والتضييق على الحريات يرى حزبنا أن المرجع الوحيد في هذا الباب ينبغي أن يكون الفصل الثامن من الدستور وأن تقتصر الإجراءات على مجرد إعلام يقدم إلى السلطات، ومن الأفضل أن تكون في هذه الحال السلطة القضائية وليس جهازا تابعا للسلطة التنفيذية.

حضرة السيد(ة) المحترم(ة)

يعتبر حزبنا أنه من الخطإ الاعتقاد بأن الدكتاتورية قد انتهت وأن عهدا جديدا قوامه الحرية والديمقراطية حل محلها بمجرد التغيير الحاصل على رأس السلطة يوم 7 نوفمبر. فلا ينبغي نسيان أن الدكتاتورية البورقيبية ارتكزت على جملة من المؤسسات وترسانة من القوانين وعلى ممارسات و"أعراف وتقاليد" كيفت الحياة السياسية والإدارية والفكرية والمدنية ببلادنا. لذلك فإن إزاحة بورقيبة تصبـح لا معنى لها إذا لم تقترن بكنس جميع هذه المؤسسات والقوانين وإذا لم يتم القضاء على تلك الممارسات و"الأعراف والتقاليد" ولم يرس نظام يتمتع في ظله الشعب بحريته وحقوقه.

إن تأكيدنا على هذه المسألة نابع من اعتبارنا أن ما حصل إلى حد الآن على مستوى الساحة لم يتعد الترميم الجزئي ولا يزال التواصل هو الذي يمثل جوهر "العهد الجديد". وليس هذا الحكم اعتباطيا وإنما مستخلص من الواقع. فقد قابلت السلطة مطلب العفو التشريعي العام بعفو رئاسي جزئي وانتقائي وتحوير الدستور تحويرا جوهريا بما يضمن للشعب حريته وحقوقه، بالاكتفاء بمراجعة الفصول المتعلقة بالرئاسة مدى الحياة والخلافة، وحل المؤسسات غير الممثلة كالبرلمان ومجالس البلديات وإجراء انتخابات سابقة لأوانها، حرة وديمقراطية بإبقاء دار لقمان على حالها لمدة أربع سنوات أخرى، وإنشاء مجلس دستوري تكون قراراته إلزامية، بمجلس معين بأمر وذي صبغة استشارية لا غير، وإلغاء جميع القوانين التعسفية، بالوعد بإدخال تحويرات جزئية على بعضها، وحل النقابات المنصبة بقوة الميليشيا والبوليس وإرجاع دور الاتحاد العام إلى الهياكل الشرعية المنبثقة عن المؤتمر 16، بالتأكيد على شرعية المنقلبين والسعي إلى جر القيادة السابقة إلى مصالحة يغيب فيها العمال والقواعد النقابية وتداس فيها مرة أخرى استقلالية المركزية النقابية. كما قابلت مطلب إلغاء أجهزة الرقابة الثقافية والقوانين التي بموجبها يغتصب الفكر الحر، برفع الحظر على بعض الآثار الأدبية. وفضلا عن كل هذا لا يزال البوليس مرابطا بالجامعة والإيقافات في صفوف المعارضين متواصلة. أما على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي فإن الإجراءات المتخذة جاءت لتدعم نفس النهج الليبرالي السابق.

هذا ما حدث إجمالا. وانطلاقا من ذلك يعتبر حزبنا أن النضال الذي خاضه شعبنا والقوى الديمقراطية منم أجل الحرية السياسية وقدم خلاله تضحيات جسيمة، مهدد اليوم بالإجهاض عن طريق أنصاف إجراءات ذات صبغة احتوائية وقائمة على الإقصاء، لا تنم عن رغبة حقيقية في التغيير الديمقراطي بقدر ما تن عن رغبة في إعادة "ترتيب البيت" الدستوري المتداعي وخلق التفاف جديد حول نظام الحكم دون المساس بجوهر الأسس التي قامت عليها الدكتاتورية البورقيبية.

إن حزبنا يعتقد جازم الاعتقاد أن مصلحة شعبنا تكمن في كنس جميع هذه الأسس. وبقدر ما يكون هذا الكنس عميقا وجذريا، تكون فائدته أهم للشعب التونسي. فطالما أن المؤسسات والقوانين التي حكمت بها الدكتاتورية شعبنا قائمة، فإنها تظل سيفا مسلطا عليه. ونحن إذ نشدد على هذا فليس ذلك من باب "التطرف" أو "اللاواقعية" كما يتهمنا بذلك البعض وإنما لاعتقادنا أن شعبنا الذي ناضل طويلا من أجل حرية حقيقية، لا ينبغي أن يذهب نضاله سدى وأن يغلط مرة أخرى. ومن هذه الزاوية فإن كنس جميع تلك المؤسسات والقوانين وإقرار الحرية السياسية للشعب دون قيد أو شرط يمثل اليوم الأرضية الدنيا لكل تغيير ديمقراطي.

حضرة السيد(ة) المحترم(ة)

يعتبر حزبنا أن الحرية السياسية ليست هدفا في حد ذاتها ولكنها أداة بيد الشعب للدفاع عن مصالحه والنضال من أجل تعبيد الطريق لتحقيق مطامحه المشروعة. لقد حرمت الدكتاتورية البورقيبية الشعب من حريته لكي تفرض عليه اختيارات اقتصادية واجتماعية منافية لمصالحه وسياسة خارجية مذلة له وطنيا وقوميا ولكي تحرمه من مراقبة حكامه ومحاسبة المرتشين واللصوص والمهربين العابثين بأمواله وخيراته. وهذا عامل آخر يؤكد ضرورة تمتع الشعب بالحرية السياسية دون قيد أو شرط.

غير أن هنالك من الناس من يزعم أنه لا بد من تقييد الحرية السياسية حتى تكون "مسؤولة" و"واعية" ولا تؤول إلى "الفوضى". إن هذه الحجج هي نفسها التي اعتمدتها الدكتاتورية البورقيبية، شأنها شأن جميع الدكتاتوريات الأخرى، لسلب الشعب حريته واحتكار الحياة السياسية. فالحرية لا تكون "مسؤولة" و"واعية" في نظر الدكتاتورية، إلا إذا بقيت في الحدود التي ترسمها إليها، ومثل هذه الحرية إنما هي حرية شكلية إذ لا فائدة للشعب منها باعتبار أنها لا تمنحه حق رفض ما يتناقض ومصالحه والتعبير عن طموحاته وعن النمط المجتمعي الذي يريده.

وهنالك من الناس من يقول اليوم أنه لا بد من حماية الديمقراطية من أعدائها ويقبل تقييد ممارستها بشروط تبدو له كفيلة بتحقيق ذلك. ونحن نعتبر أن هذا الخطأ جسيم إذ ليس ثمة في الوقت الراهن ما يضر بالديمقراطية ويخدم أعداءها أكثر من تقييدها والتضييق عليها لأن هؤلاء هم الذين في حاجة اليوم إلى هذا التقييد حتى لا تطول يد الشعب مصالحهم. وبالمقابل ليس ثمة ما يخدم الديمقراطية ويحميها من أعدائها أكثر من توسيعها لأن ذلك وحده هو الكفيل بإطلاق لسان الشعب وتحرير طاقاته وتضييق الخناق على الدكتاتورية. وبعبارة أخرى فإن الخطر اليوم ليس متأتيا من إطلاق الحريات، فهي لا تزال مفقودة في الأساس، وإنما من التضييق عليها بحكم ترسانة القوانين والمؤسسات التي تخنقها والتي ما زال معظمها قائما. وعندما تتوفر الحرية السياسية للشعب ويتمكن من ممارسة سيادته عبر الاختيار الحر لممثليه ومراقبة حكامه ومحاسبتهم، وقتها يكون بإمكان الشعب وجميع المؤسسات الديمقراطية أن تتخذ الإجراءات وتسن القوانين لسد الباب أمام الدكتاتورية مهما كان الغلاف الذي تتغلف به "أرضا" أو "سماويا". أما الذي يحرم الشعب من حريته أو يسعى إلى التضييق عليها فليس هو المؤهل للحديث عن حماية الحرية من أعدائها أو تقرير من هو حري بالتمتع بها.

حضرة السيد(ة) المحترم(ة)

إن حزبنا على وعي تام بأن الحرية تفتك ولا تهدى على طبق من ذهب. لذلك فنحن نعتبر التنازلات أو الإصلاحات التي يقوم بها نظام الحكم وثيقة الارتباط بموازين القوى ببينه وبين الشعب والقوى الديمقراطية. وانطلاقا من هذا المبدإ يرى حزبنا أن محدودية الإجراءات المتخذة في بلادنا إلى حد الآن ناتجة عن كون المبادرة، لم تكن بيد الشعب لأسباب يطول شرحها هنا وإنما بيد السلطة، بيد هذه الكتلة أو تلك من كتلها التي عرفت كيف تتكيف مع الظروف وتقلب الأوضاع لفائدتها ولو إلى حين. ومن هذه الزاوية يعتبر حزبنا أن كسب معركة الديمقراطية يتطلب من جميع القوى الديمقراطية بمختلف حساسياتها ألا تنساق وراء الوعود وأن تتحول فعليا إلى قوة معبئة ومنظمة لأوسع الجماهير حول المطالب الديمقراطية الدنيا في الظرف الراهن والتي تتمثل في إصدار عفو تشريعي عام وإلغاء جميع القوانين التعسفية وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية وبلدية سابقة لأوانها، حرة وديمقراطية وتحوير الدستور بما يضمن الحرية السياسية للشعب وإرجاع الاتحاد العام التونسي للشغل لأصحابه الشرعيين وتمكين الطلبة من إعادة بناء منظمتهم النقابية –الاتحاد العام لطلبة تونس- وإلغاء عقوبة الإعدام وتحرير الحياة العامة من القمع والقهر والتسلط.

حضرة السيد(ة) المحترم(ة)

هذه بعض الأفكار التي يريد حزبنا، بمناسبة مدكم بنص المكتوب الموجه إلى وزير الداخلية، التعبير عنها ورجائي أن تتقبلوها برحابة صدر. واسمحوا لي في النهاية أن أهتف معكم ومع رفاقي وكل أبناء شعبي: تسقط الدكتاتورية ! عاشت الديمقراطية !

والســــــــــلام

الإمضاء

حمه الهمامي


الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني