الصفحة الأساسية > البديل العالمي > ماذا تعرف عن العَلمانيّة؟ – في التسمية (2)
ماذا تعرف عن العَلمانيّة؟ – في التسمية (2)
30 أيار (مايو) 2006

يتداول المتكلمون في كلامهم اليومي كما يتداول الباحثون المتخصصون في كتاباتهم أكثر من مصطلح لتسمية ما نسميه بالعلمانية. فهم حينا يستخدمون العَلمانية (بفتح العين) وحينا العِلمانية (بكسر العين) وحينا آخر اللائكية من الأصل الفرنسي Laïcité. وإن كانت الصيغة الأولى أقل هذه الصيغ رواجا رغم كونها تبدو الأصح والأنسب مثلما سنبين ذلك لاحقا.

وقد اختلف المترجمون والدارسون في التسمية اختلافهم في المفهوم الدقيق. اختلفوا بين العلمانية (بفتح العين) والعلمانية (بكسر العين) واللائكية وتباينت آرائهم حين أرادوا الاتفاق على تعريف موحد لهذا المتصور، ونحن نسعى إلى عرض مختصر لهذا الجدل الذي دار ويدور حول المسألة عسانا نخرج بما نراه الرأي الأصوب، حتى يقع تجاوز عتبة الموضوع نحو الجوهر الذي هو حقيقة العلمانية ولبها النافع، علما وأن خصومها وأعداءها أسهموا دائما في الإبقاء على التباس مفهومها بل وفي الترويج لمفاهيم هي براء منها، مما يستوجب التصحيح والتوضيح، وإزالة الشُّحن العقدية والذاتية التي تحجب الرؤية الموضوعية وتحُول دون المعرفة، وتهدف إلى التشويه. أول ما نريد الإشارة إليه هو أن هذه المصطلحات نشأت في فضاء الثقافة الغربية، فكانت التسميات الأولى من نصيب أهل المواليد. ومثل هذا المنشأ لا ينفي طبعا الطابع الإنساني عن الأفكار. فالعَلمانية (بفتح العين) يقابلها في اللسان الفرنسي sécularisme والعِلمانية (بكسر العين) scientisme واللائكية Laïcité.

أما العَلمانية (بفتح العين) فتعود إلى أصلٍ هو العَالم (بفتح اللام) الدنيوي، ومنها العلمنة sécularisation من علمن séculariser ذي الجذر اللاتيني بمعنى siècle (قرن) إذن دلالة الزمان الواقعي، والحياة الوضعية. وتتفق العَلمانية (بفتح العين) والعِلمانية (بكسر العين) في الوقوف على أرضية التطور العلمي والترقي الذهني للإنسان، وإذا كانت الأولى مفهوما قديما عريقا على صلة بالمنازع الفلسفية المادية وبمسار السيطرة على الطبيعة واكتشاف قوانينها وتسخيرها لخدمة البشر، فإن الثانية لم تزدها إلا رسوخا بما تحقق للعلوم من فتوح متتالية قلصت سلطان الجهل وأتاحت إحاطة أكبر بظواهر الكون وفهما أعمق للأديان وعقلية أوسع لإدارة شؤون الاجتماع البشري.

وتعود اللائكية إلى الأصل اللاتيني "لايكوس" laikos بمعنى ما هو من مشمولات أنظار الشعب لا أنظار رجال الدين (الإكليروس) وما هو مستقل عن الهيئات الدينية (دولة لائكية، قضاء لائكي، تعليم لائكي... أي منظم وفق قواعد اللائكية وقيمها مع وجوب ملازمة الحياد على الصعيد العقيدي).

وحسب ما انتهى إليه الباحث فتحي القاسمي في أطروحته "العَلمانية وطلائعها في مصر" فإن اللائكية تجسم الجانب العملي والسياسي للعلمانية" وأنها "أصبحت في القرن التاسع عشر تيارا فكريا قويا وموجة ذهنية نشيطة استقطبت الاهتمام وأصبحت لها نواديها ومؤلفوها المدافعون عنها" (ص35).

وتاريخ اللائكية هو تاريخ صراعها ضد الكنيسة من أجل رفع وصايتها على الأرواح والأبدان وفرض احترام حرية المعتقد وحرية الفكر عملا على تكريس ما ورد في إعلان حقوق الإنسان الذي أفرزته حركة النهضة والتنوير وتوجته الثورة الظافرة في فرنسا. واستمر التيار اللائكي هناك يرسخ مبادئ الحرية السياسية والشخصية ويعمل على علمنة السلطة، الأمر الذي لم يكتمل دستوريا إلا في أواسط القرن الماضي، ثم جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان غداة الحرب العالمية الثانية كي يدعم هذا التيار. وكثيرا ما تم الخلط بين العَلمانية واللائكية حتى عند الباحثين وذلك نظرا إلى كون الثانية اتخذت شكل الأولى أحيانا، وبعضهم استخدم "الحيادية" و"التسامح" بدل اللائكية. وبينوا أنها مذهب عقلاني يقول باستقلالية الدولة عن المسلمات الغيبية. ويستخلص القاسمي من التعاريف التي استعرضها ومن المسار التاريخي الذي عرفته اللائكية أن الهدف كان "جعل الإنسان المسؤول الأول والأخير أمام مصيره في الدنيا. وأن التدين أمر لا يهم إلا صاحبه، وثمة قانون يخضع له الجميع منذ ولادة كل فرد، فلا فرق بين متدين وغير متدين..." (ص39) إذن فهي لا تعني الفصل بين الدين والسياسة فحسب وإن كان ذلك هو حجر الزاوية لأن بقية الإجراءات استتباعية متولدة عن الفصل بين الدين والدولة، بين الشأن العقـَدي الذي يُحل فرديا والشأن السياسي الذي يُحتكم فيه إلى المجموعة.

وفي المحصّلة قد يبدو النقاش حول التسمية من قبيل الترف خصوصا والفرق بين تسمية وأخرى لا يتجاوز حركة (فتح العين أو كسرها). واعتقادنا أن الحياة، أي الاستعمال المطرد، بصدد انتخاب التسمية المناسبة صوتيا (سهلة التداول) ودلاليا (حمّالة المعنى المراد) وثقافيا (ذات الأصل في اللسان العربي) وقد تكون "العلمانية" (بكسر العين أو بفتحها) هي الحل، والتجربة كفيلة بفرض الكسر أو الفتح حين يصبح مشروع العلمنة (أو الأليـَكة) مطروحا على جدول الأعمال والأقوال في المجتمع وحين يقع تجاوز حلقات المثقفين المتخصصين علميا أو سياسيا. إن الحراك الفكري والسياسي والاجتماعي هو الذي يفرز مصطلحاته وتسمياته، لا النقاش المجرد والنظر الذهني الصرف. وفي حلقة قادمة سنعود إلى العلمانية من زاوية تاريخية كي نتبع سيرورة الفكرة وهي تنشأ وتنمو وتتطور ويتسع نفوذها، قبل أن نرى علاقتها بالشرق وردها على الحملات التشويهية وتنزيلها في قلب المسألة الديمقراطية.

(يتبــع)



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني