الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > مشية التونسي
انطباعات:
مشية التونسي
(قراءة في الأشكال والمضامين)
تشرين الأول (أكتوبر) 2005

المشية فعل دال، والمشية ذات معنى، والمشية عنوان من عناوين الثقافة، والمشية ترجمة جسدية للأحوال النفسية والاجتماعية والسياسية، وباختصار: المشية موضوع بحث وتأمل وتدبّر، ومادة مسرحية أو روائية، جادة أو هازلة. فليتذكر كلُُّ مشيته أو مشياته، خصوصا إذا كان من المشائين، وليستحضر مشهد المشاة الذين يراهم يوميا، صباح مساء، وليفكر قليلان أليس المشي، في شكله ومضمونه، في طريقته ومحتواه، رهين الحالة الذهنية والمعنوية للماشي وشخصيته ورؤيته للطريق وللناس ولنفسه والحياة عامة، شأنه في ذلك اللبسة والمشطة والشراب والطعام والمنام والكلام.. إلخ حيث تتجلى طبيعة الوعي ودرجة الوعي، وحيث تتجلى النظرة والموقف والفلسفة، لكن الأمر على قدر كبير من الدقة لأنه يحتاج إلى تفكير، تساؤل حول ما يبدو بديهيات، ومسلمات.

عالم الاجتماع، أو الفنان أو الصحفي أو السائح، أو جامع النكت والنوادر، أو الحائر في أمر المخلوقات، وهو يقف أمام الممشى يراقب الماشين ويرصد الظواهر،يعثر على مادة عجيبة حين يعنى بالمشهد التونسي.

وسوف لن نتحدث عن الظواهر الموضوعية الراجعة إلى تفاوت أعمار الماشين أو إلى اختلاف الجنس.. وإنما نريد التركيز على ما هو مشترك بيننا، أو بين جلنا، أو بين الكثير منا.

خذ مثلا نهج شارل ديغول بتونس العاصمة على سبيل العينة، حيث تكثر الحركة التجارية وغير بعيد توجد السوق المركزية وانظر أحوال البشرية "وهي تمشي.. وحولها هذه الأكوان تمشي. ولكن لأية غاية؟" تر أجسادا كالخاوية تسرع الخطى جيئة وذهابا، ووجوها علتها مسحة من اللهفة والحيرة وظهورا في طريق التقوّس.

تقويسة الظهر وتجويفة الصدر هده ظاهرة تميز راهن المشية التونسية، ولا نشك في كونها على صلة بثقل أعباء الحياة وتكاليف العيش في ظل الفوارق الطبقية المجحفة وتدني المقدرة الشرائية

للطبقات الكادحة وعجزها الراهن عن كسر الأغلال وفرض البدائل، وعلى صلة بثقافة الانحناء المتوارثة أبا عن جد، وأما عن جدة، والمنحدرة من عهود العبودية والإقطاع التي ما تزال قيمها فاعلة، والتي تنتعش اليوم في ظل الأزمة العامة، فصرت تسمع لقب "الشيخ" و"الحاج" و"الحاجة" يوزع بين الماشين، وخاصة عند الزحمة، بما يعني ذلك من رغبة مبكرة في الشيخوخة (كان الشيخ لقبا علميا إلى جانب دلالته العمرية) وفي طي الشباب واكتساب هيئة الشيوخ "وهيبتهم ووقارهم" وفي الاقتراب من القبر، ناهيك أن الذي يقضي نحبه ويفارق الحياة يقولون "أحبه الله وارتضاه". إن ثقافة الطاعة (طاعة العبد مولاه) والخضوع والخنوع التي رسختها تلك العهود، وزادها "العهد الجديد" رسوخا، تبدو لنا أصلا من أصول الانحناءة التي تراها على ظهر التونسي وهو يمشي والتي تنم إلى جانب التسليم، عن إحساس دفين بالقهر حال دون استقامة القامة وانتصابها، ودون ارتفاع الهامة، ومحاورة الأفق.

قلما اعترضك تونسي الألفية الجديدة يمشي منتصب القامة، مرفوع الرأس، واثق الخطوة، موزون الخطى، مشرق الجبهة، ولا نشك في كون ذلك راجعا، أساسا، إلى مناخ العبودية الجديدة المسيطر، مناخ الخوف والرعب، وعدم الإحساس بالأمان، المادي والمعنوي. فالذي يفتقد الحماية (حماية القانون والمؤسسات، حماية الحزب والجمعية، وحماية الصحافة والإعلام..) بل ابسط أشكال الحماية (حتى ولو كانت العشيرة والقبيلة) ويشعر بأن جلده عرضة يوميا لما لا يحمد عقباه، وأن قوته وقوت أولاده في خطر دائم وأن الحل عند الله، يتقوس، ويحني ظهره، ويموت قبل الأوان.

التونسي مرتبك في مشيته، كأنه مخذول، خذلته صحته النفسية والمعنوية والمادية، وكثيرا ما يدرك مصادر خذلانه، فيحسبها على "الوقت" و"الزمان" و"القضاء" و"الحظ". والتونسي يجر ساقيه، والمفروض أن تجره ساقاه، وأن تتقدمه قدماه، لو كان يأمل أو يطمح أو يريد أو يأبى، أو يتحفز أو يتوثب أو يتطلع. من ضرب التونسي على ركبتيه؟ من كسر جناحيه؟ فاعل الفعلة النكراء يقول: أنا هنا! خذوني!!" لكن أخلاق العبيد التي تغلغلت تحول حتى الآن دون أن يرفع هذا التونسي رأسه مجددا، وأن يتلافى قدر الأحدب، ويمضي قدما نحو أهدافه. هل ينظر التونسي إذن قدام رجليه خشية حفر "طريق السلامة" أم ينظر حواليه مخافة السطو، ما دام لا يرنو إلى الأفق ولا يتطلع إلى ما وراء الجبل؟ لا تفاجأ إذا قلنا لك أنه ينظر.. وقد لا يرى، أو هكذا بدا لي، وأنا أقف لأتفرج على الغادين والرائحين، إذن هو في غيبوبة، أو في بحران أو في ذهول! لكن، عفوا، لقد غفلت بدوري عن استثناء عيني التونسي، وهو يمشي كما وصفت، إذ يمكن أن يتعطل منه كل شيء ما عدا حاسة النظر، وأن يفقد التركيز ما عدا على شيئين اثنين وأنت تماشيه: مقدمتك أو مؤخرتك إذا كنتَ امرأة، وجيبك ويدك لأن نسبة من الماشين في الشارع إما مهمشون يتحينون الفرصة أو مخبرون يتصيدون.

لو كان التونسيون مواطنين أحرارا وبشرا أسوياء، هل كنت تراهم يمشون تلك المشية وهل كانوا، وخاصة شبانهم، يتركون الرصيف ليتبختروا في قلب الطريق ويعترضوا حركة المرور ويتعرضوا للحوادث؟ لو كان التونسي متوازنا، وكانت البلاد بيده، وكان يتمتع بسائر حقوقه المدنية والسياسية وعنده حس حضاري، هل كان يحني ظهره قبل الأوان وهل كان يمشي مشية الضفدع أو السلحفاة أو الأرنب؟

أبو المحن



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني