الصفحة الأساسية > البديل الثقافي > رسالة الفاضل الجعايبي إلى وزير الثقافة
رسالة الفاضل الجعايبي إلى وزير الثقافة
18 تشرين الأول (أكتوبر) 2006

تونس في 21 أوت 2006

إلى معالي السيد محمد العزيز ابن عاشور

وزير الثقافة والمحافظة على التراث، بعد التحية

يشرفني معالي الوزير مكاتبتكم مجدداً لإبلاغكم مدى تأثرنا العميق أنا والمجموعة التي سهرت على إنجاز مسرحية "خمسون" المكتوب الذي بعثت لنا به إدارة الفنون الركحية بتاريخ 15 تموز الجاري بعد مماطلة دامت شهرا ونصف شهر (رغم أمد الأسبوع الذي ينص عليه الأمر المتعلق ببعث لجنة التوجيه المسرحي) طالبة منا حذف عشرات الأسماء والتواريخ والتعابير فالفقرات المختلفة فالصفحات الكاملة ضاربة عرض الحائط أدنى مستويات الحق في التعبير الفني الحر والفكر المستقل في بلادنا والاختلاف في الرأي التي وصلنا إليها في ممارسة مواطنتنا ومباشرة فننا عبر السنين.

أنتم تعلمون يا معالي الوزير أننا مضينا نمارس بلا انقطاع منذ أكثر من ثلاثة عقود مسرحا شفافاً صريحا "نخبويا للجميع" ما انفك يطوّر خطابا وجماليات تسعى للارتقاء بالفكر والذوق العامين أيما ارتقاء حتى أصبح لنا رصيد كبير واعتبار حقيقي فاعتراف وطني ودولي كبيران.

اليوم وقد تقدمنا في خطابنا وجمالياتنا وتقنياتنا بفضل ما حضينا به من إحاطة واعتراف داخل الحدود وخارجها نواجه باحتقار وقساوة واعتباطية لم يسبق أن عوملنا بها أبداً من قبل إذ كل أعمالنا منذ السبعينيات إلى مسرحية "جنون" لم يسبق أن حذف منها ولو حرفا واحدا رغم حدة طروحاتها وقساوة محتوياتها وصلابة لغاتها ولهجاتها. فلجنة "التوجيه" اليوم نسيت أو تناست أننا أناس واعون ومسؤولون عما نقول، مدافعون عن مبادئ كرّسنا حياتنا كلها في خدمتها دون تردد ولا تراجع، مستقلون عن كل التيارات، ممارسون حقنا الشرعي في التعبير، محترمون لقوانين البلاد وللعباد، رافضون للتهميش والإقصاء بكل أنواعه.

لكن لجنة «التوجيه» رأت اليوم أن لها الصلاحية الكاملة لتوجيه أناس مثلنا وهديهم إلى «الطريق المستقيم» ونهيهم عن مزالق النقد وربما التصدي لمتاهات الصيد في الماء العكر، فوجوب حثهم على تدارك ما قد يخل بالذوق العام والسياسة الرسمية والأخلاق الحميدة وبالدين وضرورة احترام الآخر الخ... الخ... مع عدة اعتبارات أخرى تراءى لها مطالبتنا بتركها وكأننا مراهقون مغرورون غير راشدين. ونسيت هذه اللجنة أو تناست أن العمل المسرحي مهما كان اقترابه من الواقع هو ليس نقلا خاما ولا علاقة له بالعمل الوثائقي بل هو ضرب من ضروب تكريس الخيال الشعري عند الفنان الناظر الثاقب المتربص الواعي بمجتمعه الشاهد على عصره مثبتا نظرة حادة خالصة مخلصة لا يجوز البتة الشك ولا التشكيك فيها ولا في مواطنته أو في حبّه لبلده والذود عنه بطروحات وتحاليل ومقاييس ربما تختلف عن طروحات ومقاييس أخرى إذ أن الحقيقة والبحث عنها ليسا حكرا على أحد.

اليوم يا معالي الوزير وفي تناقض تام مع ما أذن المسؤول الأول في تونس من زمان بتعزيزه والدفاع عنه تطالبنا اللجنة المتعهدة بتوجيه أفكارنا وحرية تعبيرنا.

أولاً: بحذف كل الأسماء العلم الواردة في نصنا وحتى الألقاب المشبوه فيها (؟) كاسم "وسيلة" مثلا ولا ندري لماذا هذا اللقب مشبوه فيه (وكأننا وصلنا إلى حد التفاهة والسذاجة حتى نسقط في الإسقاطات البدائية الرخيصة ونصفي حسابات لا أساس ولا معنى لها ولا هدف وراءها) والحال أن كل مسرحياتنا وأفلامنا لشخصياتها أسماء وألقاب وصفات اجتماعية وعناوين وأفكار وهواجس تقام عليها وهي مسؤولة عنها إذا صح التعبير لان لها هوية وتاريخا وذاكرة تتصف بها وتحاسب عليها جميعا.

فإذا كان في منح شخصياتنا الخيالية أسماء تذكر بأسماء شخصيات معروفة أو غير معروفة فذلك كما يدرج في مدخل كل الأعمال الخيالية هي من محض الصدف ولا علاقة لها بالواقع. وإذا أثبتت هذه الأسماء والألقاب نيّة مبيتة من طرف منتجي العمل الفني لسلب أو المس من سمعة أو كرامة أي كان فعلى المعني بالأمر متابعة الفنانين الآثمين قضائيا كما ينص على ذلك القانون.

ثانياً: مضت يا معالي الوزير لجنة توجيهنا هذه المجتهدة في توعيتنا بالصالح والطالح بالممكن واللا ممكن بالمسموح به وبالممنوع مطالبة إيانا حذف كل التواريخ الواردة في سردنا وفي كل أحداث مسرحيتنا مارة من تواريخ ولادة أشخاص خيالية إلى تواريخ متعلقة باحتفالات وطنية أو أحداث داخلية أو حتى عالمية والحال أن مسرحية "خمسون" كما يشير لذلك عنوانها هي متحدثة عن خمسين عاما مرت على تاريخ تونس المعاصر وبالتالي فإن للتواريخ والأحداث والأماكن دور هام للتوعية أو للتذكير لكي لا يخال أن ما يجري معلق لا مكان ولا زمان له.

هذا ما طلب منّا معالي الوزير ونحن نمارس بلا هوادة منذ أكثر من ثلاثين عاما مسرحا ما انفك يعرّف بنفسه كمسرح "الآن وهنا" مسرح متعلق بالحداثة والمعاصرة كل تعلق منبثق عن الواقــعولكنه متجاوز له في ضرب من ضروب التأمل الشعري والبحث الفني المخبري والسرد الخيالي. فأعمالنا السابقة كلها مؤرخة بتواريخ تثبت أن الأحداث جرت في السنين التي نطرح فيها قضايانا ونمعن بحوثنا. الإسقاطات ليست من اختياراتنا ولا من قناعاتنا. فهل أدركت لجنة توجيهنا أن هذا يسمى تراجعا وانزلاقا إلى الرفض والقمع!

ثالثاً: لجنة التوجيه طالبت بحذف عشرات التعابير والألفاظ التي بدت لها نابية أو مخلة بالذوق العام والحال أن المسرح الذي نمارسه مدجج بها منذ السبعينيات لأنها تحكي على وعي وحسّ وشاعرية وقابلية للتفاعل مع الواقع الشيء الذي جعل جل نصوصنا تدرس في الجامعات التونسية كـ"غسالة النوادر" و"التحقيق" و"فاميليا" و"جنون" وغيرها...

رابعاً: على مستوى اخطر من كل هذا إذ هو يمس بحقنا في التعبير الحر وحقنا في اختلاف الرأي والطرح دون وصاية ولا رقابة هذا الحق الذي طالما اثبت الخطاب الرسمي لتونس المستقلة منذ البداية وفي أعلى مستوى ضرورة وجوده لدى المفكر والفنان دفاعا على "ثقافة الامتياز" وعدم تهميش المثقف مرددا شعار "لا لتهميش الثقافة ولا لثقافة التهميش".

لقد صعقنا يا معالي الوزير بمجازفات لجنة توجيهنا رغم تجربتنا الطويلة وممارستنا العريقة المسموح بهما مسرحا وسينما وبتطاولها على الخطاب الرسمي وتناقضها معه والسقوط في تجاوزات تخل بنظام ينادي يوميا بحق التعددية الفكرية وممارسة الديموقراطية الواعية المسؤولة.

لجنة توجيهنا رأت اليوم انه من الضروري إقصاء فكرنا المخالف ونظرتنا المستقلة. وكأن مواجهة زحف الفكر الإسلامي المتطرف الذي نتناوله جوهريا وأساسا في مسرحية "خمسون" ليس من القواسم المشتركة بين الجميع حكومة ومفكرين صادقين وفنانين مؤمنين. وكأن هذا ينفي واجبنا ككل الأطراف في بلدنا للذود عن وطننا خوفا من انزلاقه في مهالك التطرف الديني والوحشية الاجتماعية وقانون الغاب وتغييب كل المقاييس الحضارية ونسيان الذاكرة فتلاشيها فلما يقول المحقق في مسرحيتنا مثلا: "آش نية علاقة إسلام الطاهر بن عاشور بإسلام مصعب الزرقاوي"؟ "آش نية علاقة إسلام مفتي جامع الأزهر بإسلام أسامة بن لادن"؟ فهل من المعقول أن تقرر لجنة توجيهنا حذف هذا النص؟ كما حرمنا يا معالي الوزير من الاستشهادات القرآنية في كل الحالات وكأن القرآن حكر على أحد دون غيره. فبينما للسياسي الصلاحية الكاملة بالاستشهاد به في خطبه ومنابره وللإعلامي الحق في استعماله كلما اقتضى الأمر وللمربي واجب عليه التذكير بقيمه وخصاله يظل الفنان لا حق له في استعماله ولو على لسان مسلم حقيقي أو إسلامي ضال دخل في تناقض بين ما يقول وما يفعل.

معالي الوزير

لا شك أن التقرير الذي بعثت به لنا لجنة التوجيه التابعة لإدارة المسرح هو على مكتبكم ومن الممكن لديكم تصفحه وتصفح النص المسرحي الذي قضى عليه أعضاء هذه اللجنة اعتباطا وجهلا (في الواقع النص الذي فحص من طرف اللجنة ليس هو نص العرض الذي تطور قبل أن يقدم في عروضه الأولى بمسرح "الأوديون" في باريس والذي تغيّر منه الكثير مما رأت لجنة التوجيه وجوب حذفه لكن الجوهري فيه باق). فأمام هذا الوضع الخطير الذي نؤكد أن لا سابق له في كل مشوارنا الفني والذي بات محبطا لعزائم كل الساهرين منّا على رفع كلمة الحق والدفاع عن مسرح واعٍ وراقٍ ومسؤول، هذا الوضع المتكبد لدينا بخسائر مادية كبيرة والمحيل دوننا وممارسة مهنتنا ومورد رزقنا الشريف، فإنه يحتم علينا أن نرفع لدى معاليكم خيبة أملنا واستياءنا ورفضنا القطعي لكل ما جاء في تقرير لجنة التوجيه المسرحي (التي لا نعرف إلى يوم الناس هذا المقاييس الحقيقية لديها والمتعلقة بالممنوعات الفنية والأمنية حتى يتسنى معرفتها لدى الجميع لتلاقي المزالق والتجاوزات القانونية الحقيقية لا الوهمية الاعتباطية لدى كل الأطراف واجتناب ما نحن وصلنا إليه اليوم).

وإذ نحن نعتبر في هذه الظروف قرارات هذه اللجنة ردعا وطعنا في حرية التعبير التي وصلنـا إليها بفضل اجتهاداتنا ومثابرتنا منذ سنين والتي لا نقبل التنازل عنها ولا التراجع في مكتسباتها، فإننا نناشد معاليكم لأخذ كل التدابير التي ترونها صالحة خدمة ودفاعا عن المسرح التونسي وصورة تونس في الداخل والخارج التي أمسينا منذ ثلاثين عاما من أهم المدافعين عنها وأعرقهم.

الفاضل الجعايبي

ـــــــــ

** من المفارقات الغريبة التي تدعو إلى التساؤلات حول الفصام فإن لجنة التوجيه التي عبثت بنصنا وبعرضنا اتصلنا بعد العرض بقليل بأغلب أعضائها الذين أكدوا لنا أن هذا العمل الذي شدهم كثيراً وصفقوا له طويلا حظي لديهم بملاحظة "حسن جداً".

عن جريدة السفير اللبنانية



الصفحة الأساسية | خريطة الموقع | البريد الالكتروني